“هوشيلاجا”.. رواية عربية عن الهنود الحمر تستحضر فلسطين والسكان الأصليين لأميركا

*حسين نشوان

لا تزال محاولات المقارنة والبحث بين الشخصية الفلسطينية المعاصرة وقضية السكان الأصليين عامة، وبشكل خاص في أميركا اللاتينية والمكسيك، موضوعا شيقا للأدب والشعر والرواية.

وإذ لا يتوقف التاريخ عند تدوين بطولات المنتصر، هنالك من ينصف المهزوم أيضا باستعادة روايته التي عبث بها الغزاة، ويستعيدها في الشعر والرواية والأدب بوصفه جزءا من الذاكرة الإنسانية التي لا تدون الوقائع وإنما تنفذ إلى أرواح البشر وأحلامهم وهواجسهم بظلال الأحداث، لتسجلها شهادة للتاريخ.

في رواية “هوشيلاجا” التي تعد الأولى باللغة العربية عن الهنود الحمر بحسب الكاتب الدكتور سميح مسعود، الذي يستعيد فيها أرواح السكان الأصليين الذين محا وجودهم الرجل الأبيض قبل نحو 300 عام، وفي الوقت نفسه يستعيد حكايته كفلسطيني عاش المعاناة نفسها، باستحضار قضيته على لسان الهنود الحمر الذين طالهم ظلم المستوطن الأوروبي الذي جاء من وراء البحار.

كانت بداية معرفته بالهنود الحمر عند هجرته لكندا مطلع التسعينيات من خلال مارفن جونز، وهو شخصية حقيقية وشاعر، سأله: من قال لك أن تجيء إلى هنا؟ هذه بلادنا، وأنت تحتاج لموافقتي، ليس أنا وحدي، وإنما العصافير والأشجار. وهي المناسبة التي دفعته لتعريفه بنفسه كفلسطيني اغتصبت أرضه، وحينما عرف مارفن ذلك عرّفه على أصدقائه الذين رحّبوا به لتبدأ الرواية من هنا.

مدونات تاريخ الظلم والألم

وتستمر الصداقة التي تتخللها لقاءات يتعرف فيها الكاتب على عادات الهنود الحمر وطعامهم وتقاليدهم وأفكارهم وديانتهم ومعاناتهم خلال سني الإبادة، ويقول مسعود: “أمام مأساتهم هانت علي جراحي، لأنهم يتألمون أكثر منها، نحن غرباء عن بلادنا، لكنهم غرباء في بلادهم”.

يسرد الكاتب بحس الباحث ومتخيل الروائي وضمير المناضل، حكايات المكان وروحه وظلال أصحابه وأساطيرهم، مسجلا على لسان بطل الرواية حكايات الهنود، وهي التي تنقض سرديات السينما الأميركية وروايتها التي صوّرت الهندي الأحمر قاتلا، همجيا متوحشا، لتلتقي سرديتا المعاناة في حكايتي الهندي الأحمر والفلسطيني، بقول: “مأساتنا واحدة”.

من المؤكد أن مسعود -وهو يكتب روايته- لم يغب عن ذاكرته مسقط رأسه مدينة حيفا التي هجّر منها عام 1948 وعمره 10 سنوات، ولم تغب يافا ولا اللد أو الرملة والقدس وغزة، بل كانت تحضر في الرحلات التي يزور فيها مع بطل الرواية بعض الأماكن، وهنا يتداخل الروي بين صور المستوطنين وملامحهم الغربية في أميركا الشمالية، ومحتلي بلده فلسطين، فيقول: ” قضيت وقتا طويلا من أيامي الأولى في مونتريال، أزور النهر، أسير على جانبه، وأستعيد ذكرى أهله القدماء مرات إثر مرات. يحكي  مارفن عن أجداده الذين تعرضوا إلى ما تعرض له الفلسطينيون من ظلم فادح، بينما كان الشخص الجالس بجانبي يغني بكلمات لم أفهمها، بلغة أجداده من شعب الموهاك، وأصغي إليه وأحسّ بمأساته وأشعر بشعوره تجاه بلدي المحتل”.

الأدب إذ يستعيد صوت الضحايا

يقول مسعود إنهم “يعرفون كل شيء عن قضية فلسطين”، ويشاركون في كل النشاطات التي تنظم دعما لفلسطين، وذات مرة حينما أضرَب الأسرى الفلسطينيون تضامنت معهم بالامتناع عن الطعام، وحينما عرف مارفن بذلك امتنع عن الطعام.

الرواية على ما يمكن وصفها بأنها مدونة سيرية يتوحد فيها الضحايا بتاريخ الظلم والألم التاريخي الذي يجمعهم في ثقافتها الإحلال والمحو باختلاق أساطير تخفي صوت الضحايا، وتقلل من تراثهم الحضاري ووجودهم الإنساني بتنميط صورتهم البدائية/ المتوحشة.

وفي الرواية برز نوع جديد من الأدب الاستعادي لصوت الضحية التي تحكي روايتها بلسانها، وهو تيار يتجاوز أدب ما بعد الاستعمار (الكولونيالي) بالانقطاع عنه بوصفه صناعة استعمارية، والعودة للجذور إلى حقبة الطهرانية الفردوسية التي تجلت في شعر الهنود الحمر والفلسطينيين، وعبّر عنه الشاعر الفلسطيني محمود درويش، والشاعرة الهندية جوي هارجو التي ذهبت في قصيدتها بعنوان “الهندي الأحمر” إلى القطيعة مع زمن المستوطن وسرديته لأسطورتها وروايتها، بقولها:

“كل شبر من تراب هذه البلاد مقدس عند شعبي، كل خيط من ورق الصنوبر، كل شاطئ رملي، كل مدى من الضباب في غياهب الغابات، كل فراشة تمتص ما تمتص أو تطن، كله مقدس في ذاكرة شعبي وحياته، النسغ الذي يسيل في الأشجار يجري بذكريات الهندي الأحمر”، وهو المعنى نفسه الذي يسوقه الشاعر درويش في قصيدة “خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض” التي يتضامن فيها مع نظيره/ الضحية بإسقاط اللحظة على الذات، باستعارة ميثولوجيا الهندي الأحمر في علاقة الروحية مع المكان المقدس:

“سنسمعُ أصوات أسلافنا في الرياح، ونصْغي

إلى نبضهم في براعم أشجارنا. هذه الأرْض جدتنا

مقدسة كلها، حجراً حجراً،

…   …   …

مشينا حفاة لنلمس روح الحصى

وسرنا عراة لتلبسنا الروح، روح الهواء، نساءا

يعدن إلينا هبات الطّبيعة تاريخنا كان تاريخها.

…   …   …

نعيدُ إلى الأرض أرواحهَا

رويداً رويداً. ونحفظ ذكرى أحبّتنا في الجرار

مع الملح والزيت”.

جوانب تاريخية مجهولة

في الرواية التي تمزج بين الحقيقة وخيال الراوي وتسير بخطوط متعرجة واستعادية وتنتقل من أميركا إلى فلسطين، مقاربات مع قصيدة هارجو ودرويش للقطيعة باستعادة اللحظة القبلية التي يصورها الروائي، من خلال رحلة شارك فيها الكاتب أصدقاءه على متن قارب في نهر سان لوران، وتعرّف على تاريخ مدينتي مونتريال وكيبيك اللتين بنيتا مكان قريتين قديمتين محيتا عن الوجود للسكان الأصليين، لتعيد حكاية القرى والمدن الفلسطينية التي تعرضت للتطهير العرقي ودمرت بالكامل، وهي الحكاية عينها التي أصابت الهنود الحمر بالحروب والمذابح والأمراض، ولم يبق من قراهم سوى محميات سياحية يعرضون فيها للفرجة. ويقول مارفن لكاتب الرواية: “أخشى أن يكون مصيركم مشابها لما جرى لنا”، ويقول بأسى “أتمنى ألا يحدث ذلك”.

وفي سياق الحفر التسجيلي ترصد رواية “هوشيلاجا” جوانب تاريخية مجهولة عن السكان الأصليين (الهنود الحمر) الذين أطلق عليهم الاسم بمدلولات دونية، منتصرة لحضارتهم الطبيعية بإعادة رواية الضحية على لسان الموتى الذين سالت دماؤهم دفاعا عن أرضهم في مواجهة المستعمرين، والتي مثلها سياتل زعيم هنود دواميش في خطبة، بقوله: “هذه المياه التي تشع وهي تجري في السواقي والأنهار ليست مياها، إنها دماء أجدادنا”، وهو المعنى نفسه الذي يصرخ به الضحية في فلسطين على لسان الشاعر درويش في قصيدة “أيها المارون بين الكلمات العابرة”:
“أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا،..
وخذوا ما شئتم من صور
كي تعرفوا
أنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء”.

وربما ينحاز التاريخ للمنتصرين، ويتواطأ مع القوة، لكن الأدب يحفر في الماضي ويصغي لأصوات الضحايا، ليعيد شخصياتها من لحم ودم وذاكرة، يمنحها الراوي الفرصة لتقول حكايتها وسرديتها التي حاول الجلاد طمسها وتشويهها، ليبرز في الرواية نوع جديد من الأدب الذي يؤرخ لما قبل الكولونيالي.

رواية “هوشيلاجا” الصادرة عن دار “الآن” بعمان، واستغرقت كتابتها سنتين، اعتمد فيها الكاتب على زيارات للأماكن التي تم طمسها المستوطنون، ولقاءات وحوارات مع أصدقائه من السكان الأصليين، وهي ليست إسقاطا للتاريخ على الحاضر، بل هي في مثابة التقاء لأرواح المعذبين في الأرض، ومقاربة لتاريخ المظلومين بمشابهات اللغة التي تعبر عن نفسها بحنين يشبه الأنين.

  • عن الجزيرة نت

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *