المجتمع والثقافة والشاعر

*ترجمة أ.د. منذر العبسي

 

خاص ( ثقافات )

يقول التلمود: إن الجمهور مكافأة المتحدث.

لا يمكن لأي قصيدة أن توجد وجوداً استقلالياً عفوياً إذ لابد من إدراكٍ يؤكد وجودها بوصفها قصيدة، فالأعمال العظيمة لشعراء كبار مثل جيفري تشوسر( ) Chaucer، وشكسبير Shakespea، و جون دَنّDonne ، و جون ملتون Milton و جون كيتسKeats تبقى حيّة مادام هناك جمهور حي يستمر بالاستمتاع بها. سوف نلقي في هذه الترجمة نظرة على مجموعات اجتماعية مختلفة قام الشعراء بمخاطبتها في عصور مختلفة، كما سنلقي النظرة على بعض المواقف الثقافية للجمهور. 

ففي القرن الثامن عشر جادل الفيلسوف الإيطالي جيام باتيستا فيكو Giambattista Vico القول بأن بداية كل لغة في الكون لابد وأنها كانت شعراً. فأول مرة أشار أحد ما في مكان ما إلى صخرة وأحدث نوعاً من الصوت الكلامي يرمز من خلاله إلى حقيقة وجود صخرة فإن شيئاً ما في ذلك الصوت لا بد وأن راق لذلك المستمع لدرجة جعلت من ذلك الاستخدام حقيقة ماثلة بالنسبة إلى المستمع في المرتبة الأولى، ومن ثم إلى الجالية وبالتالي المجتمع برمته. إن استهداف الصوت الأول لأذنَيْ المستمع يشبه استهداف الشِّعر لهما، وهو أنه أمر يمكن الاستمتاع به وجدير أن يمثِّل الغرض الذي كتب من أجله.

وعلى كل سرعان ما بدأت جِدّة novelty ذلك الصوت بالخبو تماماً كما تخبو جِديّة الكلمات والتعابير الجديدة اليوم. ولن يمضي وقت طويل حتى يصبح استخدامها نفعياً utilitarian أكثر مما هو إمتاعي pleasurable، وهذا هو أساس اللغة التي نستخدمها يومياً، حيث لا يتوجب علينا أن نشير إلى شيء ما أو أن نقوم برسمه، بل إن مجرد إصدار صوت يكفي للتعبير عنه. ومع الزمن لابد وأن ينسى البشر الوقع الشعري الأول للكلمة، كما لن يكون بمقدورهم استيعاب كون الصوت قد بدا صحيحاً بالنسبة لسامعيه الأولين، أو السبب وراء كونه بدا وكأنه يرمز إلى شيء آخر أيضاً.

وبالطبع فإننا أحياناً نستطيع أن نخمّن أصول بعض الكلمات ومن أمثلة هذه الكلمات تلك التي تحوي أصوات مثل æ “آ” في مثل كلمات æm “ما” و æp “با” و æd “دا” والتي تنبثق في العديد من اللغات في رموز تعبّر عن “الأم” (كما في الحالة الأولى)، و”الأب” (كما في الحالة الثانية)، وهذه هي أولى الأصوات التي يصدرها الطفل عندما يبدأ بالنطق، ولذلك فإنه يكون من السهل بالنسبة للآباء أو الأخوة المهتمين بالطفل تعزيز وضعه بشكل تدريجي بحيث يسمع هذه الأصوات على أنها كلمات لغة خاصّة سواء كانت النسخة النهائية من هذه الأصوات “أمي” و “أبي” (كما في اللغتين العربية والعبرية)، أم “ماما” maman و papa “بابا” (كما في اللغة الفرنسية)، أو mum “مُوم” و dad “دادْ” (كما في اللغة الإنكليزية). فالعديد من الكلمات البدائية ربما نشأت بهذه الطريقة عبر إجراء أولي من التجربة الشّفوية، ثم تلاها قبول اجتماعي أوسع من التركيبات الصوتية المحددة على أنها ترمز إلى أشياء معينة.

ومع حلول القرن العاشر فقد تم وبشكل جيد تأسيس رصيد واسع من المفردات الإنكليزية المعقدة. ففي مثل ذلك الوقت لابد وأن الشخص العادي كان قد نسي أصول معظم الكلمات المستخدمة يومياً، وكان لابد للشاعر في مثل هذه الظروف أن يحاول استخدام اللغة اليومية بطريقة تمكن هذه اللغة من جذب الانتباه لنفسها، تماماً كما فعلت أولى أصوات الكلمات المحكية. ولقد قام الشاعر الإنكليزي القديم old English scop بفعل هذا بطرق متعددة، وذلك:

– عن طريق جعل النموذج الصوتي للجناس الاستهلالي alliteration أساساً للبيت الشعري،

– وعن طريق الاستخدام المتكرر للمجازات المرسلة kennings (مثل استخدام كلمة “طريق الحوت” بدل “البحر أو المحيط” و “الخشب الذي شُدّ وثاقه” بدلاً من “السفينة”)،

– وعن طريق الترتيب الفني لبناء الجملة syntax أو البيت الشعري بحيث تُعادَل الجمل الطويلة بأخرى قصيرة ومباشرة، 

– وعلاوة على هذا وقبل كل شيء عن طريق استخدام إيقاعات كلامية نظامية regular rhythms مبنية على النبرstress-based وذات صيغة واحدة isochronous. 

وفيما وراء هذا وكما هو الحال في كل عصر، فإن الرغبة لجعل لغة الشعر تختلف عن اللغة اليومية تبقى موجودة دوماً، ولن يدرك الجمهور حقيقة هذه اللغة على أنها “شاعرية” ما لم تكن بحق مختلفة عن اللغة المتداولة على نحو يومي. وعلاوة على هذا وعبر كل العصور، فإن لغة القصيدة الجديدة – إن كانت قصيدة حقيقية وجديرة بالقراءة حقاً – يجب أن تكون مختلفة من حيث التأثير عن لغة القصيدة القديمة. والسبب في ذلك هو أنه مهما يكن للغة القصيدة أن تفعله – أو ربما لاتفعله – فإن هذه اللغة يجب أن تجذب الانتباه إلى نفسها لكي تستمر بالوجود الفعلي، ويدركها الناس على أنها شعر وليست نثراً. فالقصيدة الجديدة التي لا تبدو على أنها مختلفة بشكل جوهري عن القصيدة القديمة لاتثير الاهتمام لدى القارئ.

فاللغوي السوفيتي يوري لوتمان Yury Lotman وصف الطريقة التي ندرك بها اللغة اليومية على أنها لغة “آلية”، وهذا يوازي مقاربة ت. ي. هيولم T. E. Hulme التنويرية بين اللغة العادية وعلم الجبر: فالواقع يتحول إلى وظائف مجردة abstract functions (وهي الكلمات) بقصد تواصلية المحادثة speech communication، ومن ثم يعاد تحويله إلى واقع معدّل modified reality، حيث يكون التعديل مبنياً على العمليات التي قامت بها الوظائف المجردة في نهاية الإجراء، وهذا هو الشيء الذي عناه لوتمان في قوله “الإدراك الآلي” automatic perception: حيث إنه لا يتسنى لنا أن نفكر في الكلمات الفعلية ذاتها بقدر ما نفكر بما يمكن إيصاله عبر هذه الكلمات إلى الواقع الخارجي ومن حوله. وهنا يشير لوتمان إلى تجربة ممتعة قام بها الباحث الهنغاري إيفان فوناغي Ivan Fónagy كي يبرهن من خلالها على طريقة عمل هذه التجربة، فقد قام متطوعون إلى الإصغاء إلى: قصيدة (للشاعر الهنغاري أندريه آدي Andre Adi)، وإلى مقالة، وإلى محادثة بين فتاتين اثنتين رغم أنهم لم يُعْطَوا سوى صوت (فونيم( )) واحد في كل مرّة. وبعد كل صوت طُلب إليهم التنبؤ بالصوت الذي سيأتي من بعده. وكما قد يتوقع المرء فإن محادثة الفتاتين كانت الأسهل من حيث التنبؤ بصحة إجابتها فـ71 بالمائة من أصوات محادثاتهما كان من الممكن التنبؤ بصحة إجابتها على نحو مسبق. وفي حالة المقالة الصحفية فإن 76 بالمائة من أصواتها تم تخمينها تخميناً صحيحاً. ولكن القصيدة لم تكن من السهولة بمكان حيث إن هؤلاء الأفراد لم يستطيعوا تخمين أكثر من أربعين بالمائة من أصواتها تخميناً صحيحاً عند بدء التجربة.( ) 

إن هذه الحالة اللاتنبؤية في لغة الشعر تعني أن على المستمع أن يولي كل صوت في الشعر اهتماماً خاصاً. فالمرء لا يستطيع أن يسمح لنفسه بالانزلاق في الإدراك العفوي للطريقة التي يتلقى بها اللغة اليومية والمواد الإخبارية. فالشعر يمنع هذا الإدراك العفوي من أن يحدث وذلك عن طريق استحواذه على أذني المستمع بما هو جديد من أمور عديدة مثل مفاجأة الصورة المؤثرة، وابتكارية النماذج الصوتية، والتأثير الحركي للوزن، بالإضافة إلى المتعة الكامنة في وجهات النظر العذبة للواقع الذي تنقلنا القصيدة إليه. ويتبع ذلك أن أية قصيدة جديدة، أو أية لغة شاعرية قد تبدو مألوفة، لا بد وأن تسمح للسامع بالبدء بإدراكها تلقائياً كما لو أنها كانت لغة تقليدية، ومن ثم تتم الاستجابة إليها على أنها نوع من أنواع التواصل المرجعي وليس قصيدة على الإطلاق. 

إن الجهد الرئيسي للشاعر في كل عصر ينصب دوماً على إحراز نوعٍ من المنطقة الوسطى ما بين الجديّة والإبداع الذي يدفع بالجمهور إلى نبذ القصيدة واتهامها بأنها عصية عن الفهم، أو أنها لا تعبّر تعبيراً كافياً عن الموضوع الذي كتبت من أجله، وبالتالي الحكم عليها بأنها ليست “شاعرية” بالقدر الكافي. إن هذا المطلب يستحيل تحقيقه بالمعنى المطلق: فالشعراء يسقطون دوماً على أحد جانبي السياج، والشاعر والاس ستيفنس Wallace Stevens يعبر عن هذه المشكلة بشكل جيد في الأبيات التالية من قصيدته:

صاحب الغيتار الأزرق

انحنى على غيتاره رجل

جزّاز لمختلف الأشياء

كان لون اليوم أخضر

قالوا:” أتحمل غيتاراً أزرق 

في يوم أخضر!

لن تفلح في عزف موفق

فأجاب بقول: “إن الأشياء بما هي عليه

أغيرها بهذا الغيتار الأزرق”.

قالوا بحرص: “لكن امضي، اعزف…

أسمعنا لحناً وإن لم نفهمه بما نحن عليه

من غيتارك هذا الأزرق

أسمعنا أنغاماً 

لما هي عليه الحال تماماً.”

فهذه الأبيات يمكن تفسيرها بطرق عدة، ولكن والهدف آني، دعونا نفترض أن الجزّاز هو الشاعر نفسه، وأن “الغيتار الأزرق” يرمز إلى وسيلة اللغة وليست مجرد لغة عادية “ما هي عليه الحال تماماً” بل لغة الشعر يغيّرها الشاعر بـ ” بهذا الغيتار الأزرق”. إن طلب الجمهور يبدو أنه يناقض نفسه ويستحيل تحقيقه (وإن لم نفهمه على ما نحن عليه). فهم واضحون في طلبهم وهو أنه في الوقت الذي هم يريدون فيه “لحناً على الغيتار الأزرق” (ولنقل قصيدة)، فلا بد وأن هذه القصيدة يجب أن تتناسب وواقع الحال تماما.” وهذا يعيدنا تماماً إلى حقيقة الجزّاز التي لا مناص عنها وهي قوله: “إن الأشياء بما هي عليه أغيرها بهذا الغيتار الأزرق”. فليس هناك مهرب من المأزق، ومع ذلك ورغم التناقض في مقولة هذه القصيدة إلا أنها بحد ذاتها تؤدي غرضاً جمالياً مُرضياً. 

ففي كل عصر من العصور كان هناك دوماً ميل عام لدى الجمهور والمستمع على حد سواء نحو مقاومة التجديد الفني. فأنصاف المثقفين يشعرون بالارتياح التام حيال أدب الأمس وكتاباته؛ فهم يجدون صعوبة في الانسجام مع الجديد وبخاصة عندما نعلم أن كل إنتاج جديد يبدو وكأنه يقلب مفاهيم كل ما سبقه. فالناس غالباً ما يرددون عبارات حيال الأدب الجديد مثل “لم هذا الغموض؟”، و “لماذا أصبح شعراء اليوم ومؤلفوه عصيين على الفهم؟” و “أسمعني أية قصيدة قديمة (أو لوحة أو سيمفونية) من القرن التاسع عشر أو أي وقت مضى! (ولكن ليس شيئاً جديداً)”.

وفي الحقيقة فإن هذا الصراع هو الأساس في كل فنٍّ أدبي وليد سواء كان ذلك في القرن الماضي أو أي وقت آخر، ولن يتغير طبعاً ما لم نغيّر نحن أفكارنا تغييراً كلياً عن ماهية الأدب وعمله. وبدون التجديد والابتكار والتجربة والحركة المستمرة للابتعاد عما هو قديم، وبدون الرغبة الجامحة “لجعله جديداً” فإننا سوف نفقد القاعدة الأساسية للأدب. 

دعني ها هنا أقدم مثالاً، فقرّاء اليوم غالباً ما يندهشون عندما يقرؤون كتاب وردزورث Wordsworth وكوليردج Coleridge قصائد غنائية Lyrical Ballads، فلنا أن نتساءل عن مدى الضجة التي تسببا بها لدى طباعتهما الأولى للكتاب في العام 1789. فقد بدَوَا وكأنهما على براءة كافية في الكتاب على ما يبدو – لدرجة تصل إلى استخدامهما تعابير وجملاً قديمة أحياناً، وأحياناً أخرى لدرجة استخدامهما الوجدانية المبالغ بها من حيث المادة الموضوعية – ولكن الكتاب على العموم ليس عصياً على الفهم على الإطلاق كما أنه ليس مثيراً للدهشة من الناحية الموضوعية على نحو خاص. فلكي تفهم تأثيرهما في الجمهور في ذلك الزمان فإنه يتوجب علينا إلقاء نظرة على بقية الشعر المعاصر الذي كان ينشر في ذلك الوقت. إن هذا يعد بمثابة قفزة خمسين عاماً نحو الوراء، نحو قلب القرن الثامن عشر. فمعظم القصائد التي نشرت في المجلات الأدبية عندما كان كل من وردث ورث وكوليردج يافعين كانت عبارة عن “ثنائيات” مصوغة بأسلوب لا يختلف كثيراً عن أسلوب جون درايدن John Dryden و ألكساندر بوب Alexander Pope التقليديين/الكلاسيكيّين. كما أن معظم ترتيبات الألفاظ الشعرية القديمة للقرن الثامن عشر (على سبيل المثال إطنابات شعرية circumlocutions مثل “الحقول اللامعة enameled fields” والجوقة المريَّشة feathered choir” استمرت بالظهور في الشعر. وطبعاً لم يكن يخامر المحررين والناشرين والقراء شك كبير في أن هذه كانت هي اللغة السائدة في الشعر – وهذه حقيقة كانت راسخة على الأقل مدى الخمسين سنة الماضية. 

إن كتاب وردث ورث وكولوريدج كان بمثابة دلقة من الماء البارد على الأناقة الثقافية cultural smugness السابقة له، فقد ولَّت أيام القوالب الثنائية formulaic couplets، كما ولَّت أيام الألفاظ الشعرية المتكلّفة، وكذلك ولَّت الفكرة السائدة من أن الشعر لم يكن أكثر من مجرد طرائق متأنقة للتعبير عن أشياء عامة، أي “ما كان يجول في الفكر عامة ويُعبَّر عنه بأجمل الأبيات” – لقد ألقى الشعر الحديث بكافة المفاهيم المسبقة هذه جانباً. 

إن وظيفة شعر وردث ورث وكولوريدج الجديد كانت دوماً أن تمنع مشاهديها من عملية الإدراك الآلية، فقد وجد الجمهور البريطاني هذا الأمر عسيراً (والذي أيّده وردث ورث نفسه في مقدمته الدفاعية التي سطّرها في النسخة الثانية من كتاب قصائد غنائية)، ومع ذلك وقبل أن يصبح هذا عرفاً عاماً بوقت طويل كان على الشعراء الذين جاؤوا من بعدهم (من أمثال بايرون Byron وكيتسKeats وتينّيسونTennyson وبراونينغ Browning ووتيمان Whitman وهوبكنز Hopkins) كل بدوره أن يأتي بتجديدات جذرية من شأنها أن تسبق ولو بخطوة افتراضات الجمهور الآلية كافة. 

إن لغة الشعر لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون ساكنة أو يمكن التنبؤ بها للوهلة الأولى من الاستماع. وعندما تنجح هذه اللغة فإنها تشكل تحدياً للمستمع الذي سوف تتولد لديه رغبة للاستماع إليها من جديد بهدف معرفتها بشكل أفضل وبالتالي الاستمتاع بأصوات جديدة. ومع ذلك فإن إدراك هذه اللغة سوف يصبح مع الزمن أكثر ألفة، كما أن القصيدة لن تفقد مسحة الجديّة aura of novelty التي لم تفارقها منذ البداية، وهذا هو أساس الفنون جميعاً.

وهناك تطور ملحوظ حدث في تاريخ الشعر الإنجليزي وهو التحول في استجابة الجمهور له من العام إلى الخاص، ولقد كانت عملية التحول هذه ملازمة لانتشار التعليم واختراع الطباعة أو أنها كانت نتيجة لهما، وذلك بدءاً من أواخر القرن الخامس عشر وما تلاها. فالشاعر الإنجليزي القديم كان يلقي قصائده وأعماله الشعرية أمام جماهير المجتمع عن ظهر قلب، وفيما بعد أخذ بعض هؤلاء الشعراء بتدوين تلك الأعمال وقراءتها من التدوين. كما أن غالبية الشعر الشعبي في العصور الوسطى كان يتم تَلَقّيه على نحو جماعي. ولكن بدءاً من العصور الوسطى وما بعدها فإننا نجد قدراً أكبر من الأشعار يتخاطب بها الأفراد وجهاً لـ وجه. وأما الفرص المتاحة فهي أن العديد من هذه القصائد ربما كانت ما تزال تُلقى أمام العامة أو أمام الجمهور، إلا أن نبرة هذه القصائد كانت في جوهرها نبرة خاصة وحميمية intimate. ومع الاقتراب من زمن قصائد شكسبير الأربع عشرية (السونتات sonnets) فإن نمو مهارات القراءة العامة كانت تعني أنه لم يعد من الضروري للشاعر أن يكتب كما لو أن قصيدته سوف تقرأ على الملأ (رغم أن الكثير من هذا الشعر الحميمي كان ما يزال يعيش هذه التجربة). فالقصائد كان يتم التخاطب بها بين فرد وآخر بطريقة تتضمن أنها كتبت كي يقرأها قارئ ما لنفسه قراءة خاصة.

إن هذا التطور أزاح عقبات محددة من أمام الشاعر لكنه أوجد عقبات عوضاً عنها، فعندما كان الشعر سائداً بوصفه نشاطاً اجتماعياً، كان على الشاعر أن يحدد المادة والمراجع التي من شأنها أن تثير اهتمام الغالبية العظمى من الجمهور. فوجهات نظر الشاعر حول السلوك، والأخلاق، والمعتقد الديني وما إلى ذلك كان لا بد وأن تنسجم مع الذوق العام والذي على أساسه كان يتم الحكم على الشعر فيما إن كان جدير بالاستماع إليه أم لا. ومن ناحية أخرى فقد أصبح الشعر أكثر شخصنة وأكثر مخاطبة للأفراد دون الجماعات، الأمر الذي دفع به إما إلى ازدياد قدرته على إقصاء قرّاء يمتلكون وجهات نظر الثقافة المضادة أو الانزلاق نحو الغموض العام.

وفي أيامنا هذه نجد أن أول مكان يرى معظم الشعر النور فيه هو المطابع، ولذلك فإن الهوة ما بين الشاعر والقارئ قد تكون واسعة, وربما تصل في مساحتها لتشمل عدة آلاف من الأميال ومئات السنين. كانت لدى الشاعر الإنكليزي القديم فكرة واضحة جداً عن الجمهور المنشود، وربما كان ذلك الشاعر يعرف الكثير من أعضاء ذلك الجمهور بالاسم. أما وجهة نظر شاعر القرن العشرين فتبدو منسجمة بشكل أكبر مع وجهة نظر مقولة غيرترود ستاين Gertrude Stein: “أكتب لنفسي ولـ غرباء.” فالضغوط الاجتماعية فيما لو وجدت ما كان لها أن تسمح للشاعر الإنكليزي القديم الاستمرار بمثل ماكان عليه من حال ولو للحظة.

فإحدى المشاكل الكبرى التي نجمت عن أشعار العصور السالفة هي أن ذلك الشعر كان يمكن أن يتناول كلّ أشكال المواد التي تعد غامضة بالنسبة لنا اليوم ولكنها ربما كانت مألوفة تماماً لدى جمهور الشاعر في ذلك الزمن. وخير مثال يمكن لنا أن نورده هنا هو قضية المسيحية. فمنذ وصول أولى البعثات التبشيرية المسيحية الأولى إلى بريطانيا والقصص المسيحية ورموزها تتخلل كل مستوى من مستويات المجتمع البريطاني. ففي العصور الوسطى كان الدّين مسألة في غاية الأهمية، مسألة أهم بكثير من أية مسألة أخرى تتعلق بالحياة الدنيوية، ومن هنا فإن مكانة الفرد وطبيعته العاطفية هما اللّتان كانتا محور الاهتمام وليس صفاته الجسدية. في حين تجد أن قارئ اليوم قد تستفزه مثل هذه التوكيداتـ فالأذواق الحديثة في نهاية المطاف تفضّل التفاصيل الجسدية في حين يميل معظمنا اليوم إلى تنحية الأمور الدينية جانباً واعتبارها أموراً محض شخصية. وقد يكون من المستحيل أن توحي عبارات قصيرة مثل “الصليب المدمّى” bloody cross (والتي كانت ترد في قصائد العصور الوسطى وعصر النهضة) بالثراء الرمزي الذي كانت توحي به إلى جمهورها الأول. وعلاوة على ذلك فحتى الصور البيانية التوراتية الواردة في عبارات مثل “عمود الملح” pillar of salt، “أعور في غزة” eyeless in Gaza أو “صاح الديك ثلاثاً” the cock crew thrice قد تحتاج إلى الشرح الآن. لقد أصبح الكثير من هذه المادة أمراً غير مألوفٍ لدرجة أصبحنا بحاجة فيها إلى نُسخ تحتوي على الكثير من الشرح والملاحظات أو الكتب المرجعية المرافقة للتنوير. ولكن بالطبع فإن أعمال تلك الأزمنة ربما لم تكتب لنا، في حين يتضح القول أن كتب وأشعار اليوم من المحتمل أن تتوافق وتوقعات الجمهور القادم بعد خمسمئة عام أو ألف عام من الآن.

فمعلّقو الأدب غالباً ما يستخدمون مصطلح “الجنس الأدبي” genre للتعبير عن صنف محدد من الأدب – فالمرثاة elegy والرواية البوليسية detective novel هما جنسان أدبيان على سبيل المثال. وعلى الرغم من أن الأجناس الأدبية التي كانت سائدة في الماضي قد تبدو لنا اليوم على أنها غير مقيدة بالضرورة بالحدود التقليدية، فإنّ الواقع يقول إن لكل جنس من الأجناس الأدبية حدوده المثبتة وإن كانت هذه الحدود غالباً ما يعاد رسمها. يجب على المرء أن يطور خيالاً تاريخياً مثقفاً كي يكون قادراً على تذوق الأجناس الأدبية، وهذا في الحقيقة ينطبق على الشعر كما ينطبق عل أي فن آخر.

في إنكلترا العصور الوسطى، وبدءاً من القرن الثالث عشر إلى أن نتجاوز القرن الخامس عشر كانت القصيدة الغنائية القروسطية medieval lyric إحد أجناس الشعر الأكثر شيوعاً. وهذه القصائد كانت في غالبيتها قصيرة (أقل من مئة بيت) موجهة تقليدياً إلى فرد (بحيث تسود ضمائر مثل “أنا” وأنت/أنتِ” القصيدة بدلاً من “نحن” الجماعية). ومعظم هذه القصائد مشكّلة تشكيلاً متقناً يتبع أنماط قصائد مماثلة في فرنسة وأجزاء أخرى من أوروبا. فعلى سبيل المثال قصيدة الـ Chanson (وهذا المصطلح غالباً ما يستخدم حتى في القصائد الإنكليزية) هو قصيدة غنائية غزلية love lyric ومن هنا جاء مصطلح chanson d’aventure، إلا أنها أكثر تخصصاً من حيث أنها تستهل دوماً بالمطالع المعروفة formulaic line: “عندما انطلقت على فرسي البارحة” أو “عندما يممت شطري بالأمس”، ثم يتلو ذلك وصف لما صادفه الراوي في رحلته. 

هناك نوع آخر من أجناس القصيدة الغنائية التي كانت شائعة في القرون الوسطى هو الـ الريفيردي( ) reverdie (والتي تعني حرفياً عودة الخُضْرة re-greening)، وهذا النمط من الشعر يحتفي بأفراح الربيع، حيث كان يبدأ غالباً بالإشارة إلى فصل الربيع أو شهر نيسان/أبريل، وإلى العصافير التي تبحث عن أشكالها وقد أخذ كل منها يشدو ألحانه بطريقته الخاصة. وقد يتبع ذلك مقولة أبيات عن كيفية تأثير كل هذا في تحويل أفكار الراوي نحو الحب أو نحو شخص محدد وهو المحبوب والذي هو/هي محور القصائد الغنائية القروسطية.

ومن المهم أن نقدر شعبية جنس أدبي مثل “الريفيردي” لكي نفهم سبب مثل هذا الشيوع طبعاً. ولكن أهم من هذا هو أن نكون على دراية بما كان تقليدياً في هذه القصائد وبما هو تجديدي. وعلى العموم فإن الجمهور القروسطي لم يكن ليولي التجديد أو الأصالة المكانة العالية كما نفعل نحن اليوم، بل كان يزيد من حدة الضغوطات الاجتماعية على الشاعر كي لا يحيد عن الحدود التقليدية لجنس أدبي ما. ولكن بالرغم من ذلك فإن هذا الضغط الاجتماعي لم يمنع بعض الشعراء من تسجيل خروج ملحوظ عن التقليد. فلقصيدة الريفيردي القديمة “ها قد أتانا الصيف” هي الأقدم من نوعها في الانكليزية، ولكنها تشتمل على عبارات تعد فريدة من نوعها وبخاصة الواقعية القروية rustic realism، وعلاوة على ذلك فإنها لا تتابع كي تصبح قصيدة حب، بل تبقى في إطار التعبير عن الفرحة بمقدم الربيع. وقصيدة “جاء الربيع بالمحبة للكون” قد تكون أقدم منها وأكثر تقليدية رغم أن لغتها ووجدانيتها ذات استجابة مباشرة بالمقارنة مع قصائد أخرى من النوع نفسه. ولكن القصيدة الأقدم والأكثر غزلية من بين هذه القصائد في الـ 

ريفيردي” هي قصيدة تشوسر “مرحباً أيها الصيف” التي نُسجت على شكل قصيدة الـ “رُونْدو” rondeau (فالتجديد هنا هو تجديد في السياق: فهذه الـ “روندو” في الحقيقة قصيدة تغنيها الطيور وليست هي التي تغني عن الطيور).

وبهذه المعرفة البسيطة عن قصيدة عودة الخضرة وجنسها الأدبي فإننا الآن في موقع أفضل كي ندرس تأثير الشعر الآخر الذي أثّر في تراثها مثل استهلالية قصيدة تشوسر حكايا كانتربيري Canterbury Tales “ما الذي كان يبحث عنه نيسان/أبريل بِمَطَره؟”.

فكلمة “نيسان/أبريل” لا بد وأنها أرسلت إشارة واضحة لجمهور تشوسر على أن هذه القصيدة لا بد وأنها “ريفيردي”. ثم يتلو ذلك التقدم المألوف في الموضوع: فهناك الإشارات العامة إلى النمو الجديد للخضرة، والطيور تغني، ولكن ها هنا المكان الذي يُحدث فيه تشوسر المفاجأة:

“وحده المشتاق يحن في هذا الربيع لرحلة الحجيج.”

وهذا أمر جديد كل الجِدة لما بدا على أنه “ريفيردي” تقليدية. فما لا شك فيه أن جمهور تشوسر الذي كان يتوقع التقدم بنوع ما من قصائد الحب سوف يكون مسروراً بأن يؤخذ على حين غرة للولوج في موضوع جديد.

إن فهماً لتقاليد أدبية ماضية قد يشكل إسهاماً هامّاً في فهمٍ كاملٍ للشعر الحديث أيضاً. فالشعراء في كل عصر كانوا دوماً يشعرون بالحرية الكاملة لاستخدام أصداء من تقاليد قديمة وذلك بهدف خلق شيء جديد. وكمثال عن هذا يمكن أن نورد مثالاً عن هذا وهو الـ “ريفيردي” القروسطية في قصيدة ت. س. إليوت◊ T.S. Eliot الأرض اليباب The Waste Land “نيسان/أبريل هو الشهر الأقسى من العام” فهذه الافتتاحية تقلب بقوة هذا التقليد برمته رأساً على عقب واصفة “نيسان/أبريل” بـ”الشهر الأقسى”. فرغم بعد الهوة بين تشوسر و إليوت بخمسة قرون إلا أن كلاً منهما يستخدم تقليداً منفرداً لغاياته الأصيلة رغم اختلافهما. وفي كلتا الحالتين فإن التأثير التام يعتمد على كون القارئ مدركاً للحدود والتوقعات التقليدية لجنس أدبي راسخ. 

ثمة تقليد آخر من تقاليد العصور الوسطى ليس ذا صلة كبيرة بجنس أدبي معين بقدر ما هو جزء لا يتجزّأ من شعر العصور القروسطية وهو الوصف الشعري التقليدي للمرأة. فبعد قراءتك لعدد من القصائد التي تتضمن وصفاً للمرأة يمكنك عندئذٍ أن تستنتج أن جميع النساء في تلك القرون كُنَّ نسخاً متعددة لصورة واحدة: فجميعهن كواعب ذوات جباه عريضة، وحواجب رفيعة وعينين برّاقتين (“رماديتان كالزجاج”)، وبَشَرة بيضاء، وجِيد طويل أملس، وصدر ناهد وهكذا. وقد حوّل تشوسر جميع هذه الصفات إلى نصّ شعري في استهلاله لحكايا الكانتربيري عندما وصف رئيسة دير الراهبات prioress بعبارات مثل “لها أنف دقيق وعينان رماديتان كالزجاج” بطريقة هزلية لا تليق بما يفترض أنها راهبة تقية طاهرة. وبعد ذلك بعدة عقود ينسف توماس هوكْليف Thomas Hoccleve التقليد برمته عندما يصف محبوبته بأنها ذات بشرة رمادية اللّون، وجبين ضيق، وقدٍّ أشبه ما يكون بكرة القدم، وعينين سوداوين وهكذا. وأشبه بهذا ما جاء في إحدى نصوص جون سكِلْتون John Skelton “توليفة إليانور رمِّينغ”. وكما هو الحال دوماً فإن النكتة هي أشد إثارة للضحك إذا كنت على دراية بالتقاليد. 

وهناك عدد كبير من الكتب والمراجع التي يمكن أن تزودنا بالمعلومات الأساسية التي يمكن أن نحتاجها لتذوّق مثل هذه التأثيرات. فقاموس تاريخي مثل قاموس أوكسفورد لأصول الكلمات Oxford Etymological Dictionary أو قاموس أوكسفورد الكبير OED واللذين لا يمكن الاستغناء عنهما لشرح معاني الكلمات في العصور السابقة وما طرأ عليها من تغيير. وكذلك كتاب دليل أوكسفورد للأدب الإنكليزي Oxford Guide to English Literature والذي يقدم معلومات هامة للخلفية الأدبية لشعراء بريطانيين ونبذة عن أعمالهم، كما يقدم معلومات إضافية حول الأشكال الشعرية، والأجناس الأدبية، وما إليها. كما يمكن الرجوع إلى دليلك إلى الأدب الأسترالي والأدب الكندي والأدب النيوزيلاندي والأدب الأمريكي فهي جميعاً متوافرة. كما أن هنالك كتاباً رائعاً يمكن استخدامه كمرجع لمعرفة الأقوال المأثورة والأساطير وهو كتاب برووَرْ: قاموس العبارات والأساطير Brewer’s Dictionary of Phrases and Fables، وكذلك كتاب أ. ج. والدرون الدليل المرجعي للأدب الإنكليزي A.J.Waldron’s A Reference Guide to English Literature. والذي يحتوي قائمة مشابهة من الأعمال النافعة التي يمكن استخدامها للبحث عن معلومات تخص عصر ما دون غيره من عصور الأدب الإنكليزي. وفيما وراء ذلك هناك المكتبات المحلية التي يمكن الإفادة منها وهي في متناول اليد. والخطر الحقيقي هو في إضاعة الكثير من الوقت في البحث عن كثير من المعلومات المرجعية وقليل من الوقت حول ما يفيد القصيدة نفسها.

وقد لا يكون من العسير علينا أن نعطي التقاليد الثقافية الأكثر حداثة حق قدرها، رغم أنه يجب أن نكون مدركين دوماً لحقيقة أن مانقرؤه يجب أن يعكس بعض عناصر التقليد، رغم أن القضية الرئيسية هي أن التقليد السابق قد يكون مرفوضاً جملة وتفصيلاً كما هو الحال في كتاب قصائد غنائية سالف الذكر، ونحن لا نستطيع أن ندرك أهمية هذا إذا كنا لا نعرف الشيء الذي تم رفضه.

لم أقل الكثير عن دور الشاعر في كل هذا حتى الآن، ولنفترض أن وظيفة المجتمع في إدراك دور الشاعر يشبه إلى حد ما وظيفته في إيجاد وجهة نظر المجتمع في الشعر وتشكيلها وتأثيراتها. إن كل طفل صغير ذي عقل حيوي عامة لا بد وأن تكون لديه متعة اللعب بالكلمات تماماً في مثل الطريقة التي يستمتع بها معظم الأطفال بمختلف أنواع الألعاب والتمارين الجسدية. ومع تقدم الطفل بالعمر تصبح متعة اللعب بالكلمات لديه أقل وطأة، وإذا ما كتب لنا أن نستمر بالاستمتاع بالكلمات وألعاب الكلمات فإن اهتمامنا لن يصبح أكثر سفسطائية وحسب بل وأكثر جدية. وبشكل عام فإن المجتمع يدرك الشعر بطريقة تشبه إدراكه للِّدين وهو أنه شيء يجب مقاربته بنوع من التبجيل والصعوبة. فالشعراء هم كهنة هذا الدِّين (قد لا تكون هذه وجهة نظري في الشعر والشعراء، ولكنها تصبح ذات أهمية إذا كانت بقية المجتمع ترى الشعر بهذه الطريقة). ويقول الشاعر روبرت غريفز Robert Graves أنه يجب على المرء أن لا يشير إلى نفسه على أنه شاعر، وأن كلمة “شاعر” هي لقب تشريفي لا يمنحه أحد له إلا الآخرون. في حين أن هناك من يشعر أن الشعراء – مثلهم مثل القديسين – يولدون فقط بعد موتهم.

في كل بلد من البلدان الأربعة الناطقة بالإنكليزية والتي عشت فيها على التوالي (كندا، والمملكة المتحدة، وأستراليا والولايات المتحدة) يلعب الشعر والشعراء دوراً مختلفاً على نحو ملحوظ. وإذا ما أتيح للمرء أن يرقب الفوضى التي تنجم إن صادف شاعر ينتمي لثقافة إحدى هذه البلدان وواجه شعراء ينتمون لثقافات بلد آخر فإنه أمر يدعو إلى التنوير. فالشاعر البريطاني تيد هيوز Ted Hughes وجد نفسه محاطاً بحشد هائل من الشعراء الأستراليين الشبان المتعطشين للشهرة عندما طار إلى هناك كي يقرأ بعضاً من أشعاره في احتفالية آدليْد للفنون Adelaide Festival of Arts منذ عدة أعوام خلت – وهذا أمر بعيد الاحتمال في بلده إنكلترا الذي تستحوذ عليه الحشمة في هذا الجانب، وحيث شهرة الشاعر مسألة ليست بذاك الأمر العظيم. كما حضرت الاحتفالية نفسها الكاتبة الكندية مارغريت آتوود Margret Atwood والتي كتبت بعد ذلك مقالة لزملائها الكنديين أعربت فيها عن نفس الصدمة الناجمة عن الحفاوة الزائدة التي تلقاها الشعراء الذين قدّموا قراءات في ذلك المهرجان – وهذا أمر فيما لو قُدّر له أن يحدث في كندا لكان خرقاً لقوانين أصول التشريفات (الأتيكيت) في الشعر. ومن جهة أخرى فإن أمسيات الشعر في المدن الأسترالية غالبا ما يحضرها جمهور كبير وتكون مفعمة بالحيوية وتستهوي طيفاً واسعاً من الأنماط الاجتماعية – وهذا أمر لا ينطبق على قراءات مماثلة في مجتمعات أخرى ناطقة بالإنكليزية. وبالإضافة إلى هذا فإن الشعر الجديد يُنشر بشكل دوري في الجرائد الأسترالية اليومية والمجلات الأسبوعية ذات القضايا المعاصرة (وهذه حقيقة تجعل الشعراء في بلدان أخرى ناطقة بالإنكليزية ينظرون بعين الغبطة إلى نظرائهم في أستراليا). 

وأما الشعراء الكنديون فهم ليسوا أصحاب صوت مرتفع مثل نظرائهم من الأستراليين، بل شأنهم في ذلك شأن غالبية سكان كندا، يعيشون بجدِّية ولكن بأقل مما تقتضيه الحقيقة. ومن جهة أخرى فإن الجمهور الكندي – على خلاف الأسترالي – لا يولي اهتماماً كبيراً لشعرائه، كما أنه ليس هناك مؤازرة اجتماعية لما يمكن أن يطلق عليه ظاهرة “الشعر الكندي” بعد. وعلى العموم فإن أعمال الشعراء الكنديين لا يمكن تمييزها عن أعمال نظرائهم الأمريكيين ممن يعيشون في المدن الجنوبية المجاورة للحدود الأمريكية. 

إن الانطباع السائد لدى بقية العالم الناطق بالإنكليزية الذي سبّبه الشعر المعاصر في بريطانيا مؤخراً صاغته دور النشر المحافظة و”مؤسساتها” غير المغامرة. وفي الحقيقة فإن العديد من دور النشر البريطانية الكبرى لا يتحمل استمرار الخسارة المادية التي يسببها الشعر عادة، ولا تزال دور النّشر إلى اليوم تقيّد نفسها بطباعة أشعار الأسماء “المضمونة” وحسب، كما أننا لم نكن ندرك أن التحول الراديكالي في الأذواق الحالية في بريطانيا كان يمكن أن يتأثّر بمثل هؤلاء الناشرين. بمعنى آخر، كما كان الأمر زمن الشاعر وردث ورث الشاب تقريباً منذ أكثر من قرنين، فإن ما يُنشر اليوم في بريطانيا هو ما كان يدعى شعراً بحق في الأمس. ولكن على النقيض من هذا فإننا نجد أن غالبية الناشرين في أستراليا وكندا وأمريكا يبدون عازمين أكثر من أي وقت مضى على المراهنة على كل جديد. وهكذا فإن بقية العالم يسمع فقط بالشعراء البريطانيين راسخي السمعة، أي ممن ذاعت سمعة أعمالهم في الماضي والتي يكون نشرها مضمون النتائج. وطبعاً فإن معظم الناطقين بالإنكليزية هم على دراية جيدة بشعراء “بريطانيين” من أمثال ت. س. إليوت (أمريكي الأصل) و و. هـ. أودين W.H. Auden (والذي أمضى سنوات طوال من عمره على الشاطئ الشرقي من أمريكا)، وتوم غَنّ Tom Gunn (الذي عاش في كاليفورنيا منذ العام 1960)، وتيد هيوزTed Hughes (الذي كان متزوجاً من الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث Sylvia Plath) وهكذا. وعلى كل حال فإننا لا نستطيع إلا أن نهتم بعدد كبير من الشعراء في وقت واحد، وبشكل عام فإنه من الطبيعي أن يقدم الناس في أي بلد أو منطقة شعراءهم أولاً.

ولقد تحولت بريطانيا من كونها المصدر الوحيد للشعر الإنكليزي لتصبح مجرد واحدة من عدة بلدان ناطقة بالإنكليزية يكتب العديد من أبنائها بهذه اللغة. ففي أية دولة من دول الكومونويلث Commonwealth (مثل أستراليا وكندا ونيوزيلاندا) تحوّل الانتباه من الشعراء البريطانيين إلى الشعراء الأمريكيين، وهذا ليس بمستغرب إذا أخذنا بالحسبان أن عدد سكان أمريكا منفردة يفوق عدد سكان الدول الناطقة بالإنكليزية مجتمعة. ونستطيع القول إن الإحاطة بالشعر الأمريكي في هذه البلدان، وفي بريطانيا أيضاً، يرجع بسببه إلى درجة كبيرة ما فرضته قيود الناشرين البريطانيين. فمعظم قرّاء الشعر خارج الولايات المتحدة يعرفون الشعراء الأمريكيين روبرت بلاي Robert Bly وروبرت كريلي Robert Creely وروبرت دَنْكن Robert Duncan وروبرت فرُستْ Robert Frost و روبرت لوّيل Robert Lowell وغيرهم لا لشيء سوى أن هؤلاء هم الذين رسمهم الناشر البريطاني على أنهم “الشعراء الهامّون”، في حين بقي المئات ممن لا تقل موهبتهم عن هؤلاء طي النسيان أو ممن لم تتجاوز شهرتهم مناطق سكنهم في الولايات المتحدة.

وهكذا فإننا جميعاً لدينا صورة غير مكتملة لحالة الأشياء الحقيقية في عالم الشعر الإنكليزي. إن القضية هي نفسها في جميع المسائل ذات الصبغة القومية – فنحن نميل نحو تطوير صورة عن اليانك Yanks لها شروطها الإعلامية من أنهم من يُشهر البنادق، وأنهم الإمبرياليون الذين يرمون القنابل، وعن البريطانيين Brits من أنهم من يلبس القبعات السوداء المستديرة، والمولعين بالإضرابات واحتساء الشاي، وعن الأستراليين من أنهم بحّارةُ الركمجة jackeroos (ركوب الأمواج المتكسرة) الذين لفحت وجوههم الشمس. وبنفس الطريقة تماماً نكوّن صورة “قومية” خاطئة عن شعر وشعراء جميع هذه المجتمعات.

وفي الحياة الحقيقية فإن كلاً من هذه الدول تتألف من عدد من الأقاليم وفي كل منها إقليم يسود الدولة ويمنحها صورتها القومية. ففي الولايات المتحدة نجد نيويورك – أو الساحل الشرقي– هو الإقليم الذي يصبغ الأقاليم الأخرى بثقافته، تماماً كما نجد مدينة لندن في بريطانيا، و تورونتو في كندا، وسيدني في أستراليا، وهكذا.

وليس من المستغرب أن تجد أن كل من هذه الأقاليم تسوده مدينة ضخمة Megapolis. إن جمهور الشعر الجديد جمهور صغير ومتخصص، وقد تكون المدينة المكان الواقعي الوحيد الذي يقصده الشاعر بحثاً عن الجمهور. وبالإضافة إلى ذلك فإن معظم الناشرين يتمركزون في المدن الكبرى. وقد تكون المادة الخام للشعر ريفية أو ذات علاقة بالمشاهد الطبيعية ولكنه حري بمبدعي الشعر أن يعيشوا في مناطق مكتظة بالسكان. وبالإضافة إلى ذلك فإن المدينة هي المكان الذي تصدر عنه أذواق الطبقة العليا (وهذا الأمر ذو صلة بالتطور العام وبالوعي الثقافي للشعر بوصفه أحد أشكال الفنون).

إن الضغوط الجيوفيزيائية والاجتماعية السياسية يمكن لها أن تحدد ما يمكن اعتباره قصيدة ناجحة أو مهمة. فالجمهور في وسط الغرب الأمريكي يستمتعون بنوع من الشعر هو بالنسبة لمثقفي الساحل الشرقي لايخرج عن كونه شعراً “وجدانياً” أو شعراً “مبتذلاً”، وذلك لأن اهتمامات الإنسان في وسط الغرب الأمريكي مرتبطة بالصناعة والزراعة والبطالة أكثر من اهتمامه بأمر إخضاع فلاحي أمريكا اللاتينية لمصالح الولايات المتحدة الاقتصادية والسياسية، الأمر يقع في سلم أولويات الساحل الشرقي. الشيئ نفسه يمكن أن يقال عن المناطق المختلفة للدول الأخرى الناطقة باللغة الإنكليزية حول العالم وهي أن هناك قضايا معينة تعد هامة ومناسبة للشعر في حين أن هناك أموراً أخرى لا تمتّ للشعر بصلة، وبالإضافة إلى ذلك فإن عنصر الشعر نفسه دائم التغير ما دام الشعراء أنفسهم دائمي الإبداع ولا يمكن التنبؤ بأحوالهم أبداً.

وخلافاَ للأسطورة الشائعة فإنه لا يوجد مجتمع قط لم يحفل بشعرائه، ولهذا السبب فإنك تجد في بلد مثل الولايات المتحدة أذوقاً للشعر يواكب تعدادها واختلافها تعداد واختلاف الثقافات التي يمكن تمييزها داخل تلك البلد. ومن ناحية أخرى فإن الكثير من الشعراء عندما يكبرون يشعرون بأنفسهم بأنهم غريبو الأطوار في مجتمعاتهم، ولذلك سرعان ما يغادرون البيئة التي انطلقوا منها ليعيشوا بين الغرباء أو بين قلة من الأصدقاء المختارين بعناية (في غالبيتهم شعراء من أمثالهم وفنانين آخرين) وطبعاً “الجمهور” الذي لولاه لا يعد الشاعر شيئاً.

ولكي يحقق ذاته فإن الشاعر يرضى في البداية أن تُقبل إحدى قصائده للنشر في إحدى المجلات أو الجرائد. وإن كان هناك مكافأة مالية فإنها لا بد أن تكون ضئيلة في البداية، وبعد فترة من الزمن، ربما بعد تحقيق نجاحٍ أو نجاحين كبيرين (مثل قراءة شعرية على إحدى شبكات الراديو أو التلفزة أو نشر قصائد في مجلة أو جريدة وطنية معروفة)، فإن الشاعر سيتوجه إلى ناشر ما “بمجموعة” من القصائد، غالباً ثلاثين قصيدة. إن قراءة الناشر (على افتراض أن شركته جاهزة لتحمّل العبء المالي الذي عادة ما ينجم عن طباعة كتب الشعر) سوف يعتمد بالدرجة الأولى على طول قائمة القصائد المنشورة مسبقاً لهذا الشاعر وعلى مدى تأثير الانطباع الناجم عنها. و بالمناسبة إن كان هناك نوعٌ من التوصية التقديرية من شاعر معروف أو ناقد أدبي مرموق فإنها قد تستخدم كدليل إقناع إضافي رغم أن هذا لن يذيب أي جليد بين الشاعر والقارئ طبعاً. كما أن ردة فعل الجمهور قد تكون ملتبسة إذا كانت المجموعة الشعرية تحتوي على إهداء لشاعر معروف ـ فالشعور العام في مثل هذه الحالة هو أن هذا المرور تم بموجب توسل ما خاص تبعاً للمقولة الإنجليزية المشهورة:

“The famed poet Bloggs takes notice of me, so should you”

“استحوذتُ على اهتمام الشاعر بلوغّْز المشهور فلم لا تعبأ أنت بي؟”، وهذه عبارة قديمة دأب الشعراء المحدثون على استخدامها عبر السنين وذلك لجذب الانتباه.

بعض الثقافات لديها صورة نمطية للشاعر: كيف يجب أن يكون، وما يتوجب عليه أن يفعل وأنه ليس من العسير على الشاعر بلوغ هدف ما رسمه لنفسه. أَذكر شاعراً أسترالياً ممن عزز الإدراك الاجتماعي عن الشاعر من أنه ساحر الكلمة وذلك عن طريق ارتدائه لملابس الساحر (قبعة عالية وقفّازات وعصا، وهكذا) ليس عند قراءاته للشعر فحسب بل على نحو اعتيادي عندما كان يسير في الشوارع. والأمر الأكثر شيوعاً لدى العامة هي الصورة السائدة عن الشعراء من أنهم أناس قلقوا العواطف، أو أنهم عشّاق متقلّبوا المزاج، أو رجال مخنّثون بطريقة ما، أو أنهم من المتنطعين أو أنهم ازدواجيون في شخصيتهم (حيث الجميع يردد مقولة “يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره”)، وأنهم أناس ” مختلفون” عن المجتمع بشكل عام. إن هذا مفهوم اجتماعي مبني بشكل جزئي على التجربة الفردية ولكنه مفهومٌ أوجَدَتْه بشكل أوسع نمطية الأسطورة الاجتماعية والطريقة التي تناول بها المعلمون والمدرِّسون والناقدون الأدبيون حياة الشعراء.

علينا أن نكون حريصين كل الحرص سواء كنا نقرأ قصيدة ما أم نلقيها أو نستمع إليها، علينا على ألا نسمح لتفاصيل سيرة حياة الشاعر أن تفسد علينا استمتاعنا بتلك القصيدة التي يجب أن تكون في المحصلة النهائية محط اهتمامنا الأول. فهناك من الكتّاب/الشعراء – من أمثال بيرسي شيلّي Shelley وإدغارد آلان بو Edgar Allen Poe – من اشتهر بسيرة حياته أكثر مما اشتهر بوظيفته كشاعر.

فمن السهل عليك إذا كنت مدرّساً أو محرراً أو أديباً أو منتج برنامج حوارية أن تخوض في حياة الشاعر – وبخاصة إذا كان الشاعر يتوافق مع نمطيةٍ ما أو ممن عاش حياة ملّونة – شريطة أن تستمع أنت إلى القصيدة. ومع ذلك فما الجدوى من تفاصيل سيرة الشاعر الذاتية حتى وإن كانت الأكثر جمالاً وتلوّناً إذا كان عمل الشاعر لا يقدم سوى القليل أو لا يقدم شيئاً على الإطلاق! 

وعندما نفكر في دور الشاعر في المجتمع فإنه يحضر إلى أذهاننا صورةً لسوق مزدحمة: فهنا صفوفٌ من الأكشاك، وهناك من يبيع الخضار والفاكهة، أو من يبيع الأواني والقدور، أو من يبيع الحُليّ والألعاب. وهنا وهناك انتشر الكوميديون الشعبيون: فهنا يقف عجوز يعزف على الناي وبين الفينة والأخرى يلقي أحدهم بقطعة نقدية أو قطعة من الخبز في سلته، وهناك أخذت فتاتان القيام بحركات بهلوانية، في حين راح الجمهور يصفّق لهما ويحييهما بابتسامة تعبيراً عن تقديره لها؛ وهناك آخر يعكف على رسم لوحة جدارية بعد أن أضفى عليها شرائح عظيمة من الألوان. ومن ثم ووسط هذا العراك الصاخب نجد واحداً لا يعمل شيئاً أكثر من مجرد اللعب بالكلمات، كلمات من لغتنا الخاصة ولكنها كلمات تعطي أصواتاً مختلفة نوعاً ما. إن تدفق هذه الكلمات يؤسس لوعي إيقاعي قوي في عقول كل من يسمعها، وعلى الرغم من أننا قد لا نفهم كل معنى تلك الكلمات إلا أننا ننجذب إلى الأصوات التي تحدثها أو التي توحي بها. ولكن بعض هذه الأصوات لا يدوم إلا للحظة أو لحظتين ثم لا نلبث أن نتجاوزها إلى سبل جذب أخرى. وغالباً ما يحاول رَجُلُ الكَلِمات هذا أن يجذب المزيد من السامعين عن طريق رفع طبقة صوته، أو النهوض واقفاً، أو تحريك ذراعيه، أو حتى عن طريق القيام برقصة تنسجم مع إيقاع كلماته. ومع ذلك فهو يجلس ساكناً دونما حراك كما لو أنه يصغي مع جميع الحاضرين إلى النماذج المنبثقة عن الكلام والصوت.

وليس من العسير رؤية سبب انجذاب بعض الناس، فالراشدون من البشر الذين يستجيبون للشعر هم في الغالب ممن يحتفظ بوعي قوي جداً ولكنهم يجب أن يكونوا انفتاحيين لطبيعة هذه الاستمتاعات منذ طفولتهم. وليس من العسير فهم سبب انصراف البعض الآخر عن مثل ذلك، فهؤلاء لابد لديهم أشياء أكثر حسية تَصْرِفهم عن مثل هذه الاستماعات، لأن الشعر في المحصلة النهائية هو ليس أكثر من مجرد لُعْبة.

وغالباً ما يتحدث الشعراء عن الإِلهام، وعن ظاهرة “كتابة القصيدة لنفسها”، وعن تدفّق الكلمات التي تنبثق من مكان مجهول والتي تقود إلى نهاية ما كان للشاعر أن يحلم بها. ربما ليس هناك إثارة يقدمها الشعر أعظم من تلك التي تتعلق على ما يبدو عليه بإبداعه العفوي. ولكننا جميعاً محكومون بفكرة الاحتمالات المتشابهة – كالوحي الديني أو الوقوع في الحب وذلك عبر ما نلاحظه في الآخرين. فبعض الشعراء كان قد سجّل ما سمعه أو رآه في رؤىً مقدسة؛ وشعراء آخرين احتفوا في قصائدهم بتجاربهم في الطبيعة أو الحب، ملهمهم في ذلك أشياء سرمدية كالمنظر الطبيعي أو المحبوب، أو من خلالهم تبصراتهم حتى في الجنة أو في النار. إن معظم هذه المواضيع كانت دوماً مواضيع تقليدية للشعر في جميع اللغات مهما عدنا نحو الوراء عبر التاريخ. وأنا لا أسأل في أية حال من الأحوال عن واقعية تجربة الإلهام الشعري، فأنا نفسي خبرت تلك التجربة غير مرّة وقد لا يمكن لي أن أمرّ بتلك التجربة مرة أخرى، إلا أن هذه التجربة يمكن تحقيقها على نحو كبير عبر تصورات ثقافية واجتماعية عامة والتي هي جزء من العالم الذي يترعرع الشاعر فيه، إذ كيف يمكن للحياة أن تكون بعيدة عن تجارب سحرية كهذه، أو عن ما ندعوه أعمال فنيّة أخرى والتي بدورها تنبثق عن مثل هذه التجارب!

حاولت في هذه المقالة تحاشي تحديد الهوية الجنسية “للشاعر” حيثما توجب عليَّ الحديث عن مبدع القصيدة؛ ولكن ومهما يكن فإن التصور العام في معظم الثقافات الانكليزية هو أن الشعراء الكبار هم في الغالب من الرجال. لم هذا؟ ربما بسبب الموقف الذي نضفيه على معظم الشعر، وهو أن الشعر يجب أن يكون “جدّياً”. فالشاعر الذي يُضحكنا سواء كان ذكراً أم أنثى غالباً ما نظن به على أنه ذو أهمية ثانوية، (رغم أنه يُغفر لشعراء عرفوا بجديتهم من أمثال إليوت في كتابه Old Possum’s Book of Practical Cats عندما يكتبون شعراً مرحاً أو قصائد هزلية، بل إن ذلك غالباً ما يلقى استحساناً، حيث نشعر بنوع من الارتياح من أن الشاعر يستطيع أن ينزل من عليائه ويضحك معنا). هذا يعني أن دور الشاعر يجب أن يؤخذ على أنه دور جدّي مَثَله في ذلك مَثَل صاحب أية مهنة حياتية أخرى. وتقليدياً، وفي المجتمعات التي سادها الذكور، كانت الأدوار الأكثر جاذبية دوماً حِكرٌ على الرجال في حين كانت تترك المرأة لتتكيف مع تنشئة الأطفال والقيام بالأعباء المنزلية. إن هذه الصورة في تبدّل، وكذلك تتبدل الآن النظرة التقليدية للشعر من أنه نتاج ذكوريٌ وحسب. ويعتقد بعض الشعراء أن وظيفة المرأة في كتابة الشعر هي الإلهام، أي أن تعمل عمل ربة الشعر the muse التي تستحضر القصيدة في ذهن الشاعر الذي يكون دوره في مثل هذه الحالة دور العميل الذي يسهم في إظهارها على الورق (إن قصيدة روبرت غريفز الآلهة البيضاء The White Goddess هي إحدى القصائد التي تعبر عن وجهة النظر هذه). وفي الحقيقة فإن تصوّر المجتمع عن المرأة الشاعرة يشبه تصوره عنها كمهندسة، أو واعظة أو مزارعة أو سياسيّة. فالمرأة تواجه من حيث قبولها في المجتمع كشاعرة العوائق نفسها في محاولتها الولوج في دور عُرف على نحو تقليدي بأنه ذكوري. 

ولكي تعمل القصيدة فإنها تتطلب طرفين هما القارئ والمستمع. ففي الأيام الأولى من الشعر الإنكليزي كان الشاعر هو القارئ الذي يلقي قصائده على جمهور ملموس. وعبر عشرات العصور أخذت المواقع تتعارض تعارضاً شاقولياً diametrically opposite: فالشاعر اليوم لا يغدو أن يكون أكثر من مبدع القصيدة البعيد، في حين يميل القارئ والمستمع الواحد نحو الآخر، أو قد يكون القارئ والمستمع هما الشخص نفسه. هذا يعني أن كل قارئ محتمل للقصيدة يجب أن يعرف شيئاً ما حول كيفية قراءتها كما سمعها الشاعر لحظة إبداعها، هذا إن كان للقصيدة أية فرصة في النجاح طبعاً. 

وليس هناك أي سر عظيم في الطريقة التي نقرأ فيها القصيدة قراءة ناجحة رغم أنها مسألة تتفاوت الأذواق حولها، شأنها في ذلك شأن جميع مسائل الفنون التمثيلية، فأولاً وقبل كل شيء يجب أن نكون متأكدين من أصوات كل كلمة في القصيدة. ففي حالة القصيدة الإنكليزية الحديثة هذا الأمر ليس بعسير بل إن الذي يدعو لمزيد من العمل هو شعر العصور الماضية. كما أن ما يساعد على تذوق القصيدة القيام أولاً بإيضاح نماذج إيقاعات القصيدة وأصواتها ولو بالمبالغة إن دعت الضرورة لذلك. وبعد ذلك التأكد فقط من أن تتم قراءة القصيدة في مكان هادئ، إذ ليس هناك من أمر أكثر تدميراً لصوت الشعر من الخلفية الموسيقية – فهذه الخلفية لابد وأن تبدد النماذج الإيقاعية الصوتية للقصيدة. المهم وقبل كل شيء هو مقاربة كل كلمة في القصيدة كما لو أنها إبداع جديد.

فقراءتنا للقصيدة لأنفسنا أمر يختلف تماماً عن قراءتنا للقصيدة نفسها أمام مجموعة من الناس، ولقد استمعت لعدد من الآراء الحماسية حول هذا الموضوع، فهنالك من يقول بأن مبدع القصيدة هو أفضل شخص يمكن له أن يقرؤها، وهناك من يقول أن مبدع القصيدة يجب أن يتنحّى جانباً ويدع القصيدة تحكي قصتها بنفسها. فهناك من يفضل النبرة الفردية المواربة بصوت الشاعر الذي يشكل الجزء الأعظم من تجربته لتلك القصيدة، في حين نجد هناك من يفضل النبرة الاحترافية لممثلٍ مدرَّب أو لمذيع راديو معروف. وبعض الشعراء من أمثال ديلان توماس Dylan Thomas اشتهروا بوصفهم قارئين بارعين لأعمالهم الخاصة مضمنين أداءهم الخاص نبرات مسرحية وألفاظ رقراقة، في حين أحجم شعراء آخرون من أمثال روبرت غريفز عن إضافة أية نبرات عاطفية إضافية للكلمات الحقيقية والأصوات الكلامية لقصائدهم بل قام بإلقاء قصائده بنبرات حيادية خالية من أية ميول كلامية. فالشعراء على اختلاف مشاربهم – مثلهم في ذلك مثل الشراب بمختلف درجاته من الجفاف أو الحلاوة – كلّ خلق بأداء مختلف، فما ينطبق على مناسبة قد لا ينطبق على الإطلاق على مناسبة أخرى.

ليس هناك طريقة صحيحة محددة لقراءة القصيدة، بل علينا أن نتذكر دوماً بأن المؤثرات المحددة في قصيدة معينة مثل الإيقاعات، ونماذج الأصوات، والنبرات الفارقة، والوقفات – وبخاصة إذا كنتَ تعرف القصيدة – قد يحتاج إلى توكيد أكبر إذا كان لتلك القصيدة أن تَعبُر إلى جمهور أعرض. إن التوقيت أمر مطلق المركزية في إيصال هذه التأثيرات الصوتية (وهذا هو أحد الأسرار في كل فن تمثيلي والذي يتوجب على معظم ممثليه بذل الجهد لاكتشافه). بعض هذه التأثيرات يحتاج لدرجة كبيرة من التوكيد وربما للمبالغة إذا كان لابد من إخراجها بشكل مؤثر حقاً. ولكن في الوقت نفسه لابد من أن يكون المرء حريصاً على أن لا يذهب بعيداً. فالمبالغة الشديدة لكل نموذج في القصيدة هو العيب الأكثر شيوعاً في القارئ الممثل، وقد تكون الأكثر تثبيطاً من أداءات جافة لشعراء من أمثال روبرت غريفز. إنه لأمر مقلق جداً أن يتوجب علينا أن نتحمّل بعناء أداء شاعر يتصنّع العواطف أكثر من كونه يقرأ قصيدة.

إن أهم شيء بالنسبة للقارئ الذي يريد أن يطوّر أذناً جيدة الإصغاء هو أن يولي الاهتمام التام غير المجزّأ إلى القصيدة، فكلما حاولتَ تحرير عقلك من اعتبارات أخرى وجعلته خالصاً لتلقي القصيدة كانت تجربتك أجدى نفعاً وأوفر حظاً. ويتبع ذلك أن تكون مرتاحاً فالقصيدة هي شيء يتبع العاطفة، وبالتالي سوف يكون من المستحيل لك أن تتحسس هذه العاطفة إذا كان قلبك تتملكه عواطف جياشة overriding emotions أخرى. استمع للقصيدة، أنصت إليها لوحدك إلى أن ترنَّ في عقلك.

إن كل طفل ألمعي يستمتع بلعبة الكلمات ويحب اللعب بأصوات الكلام بطرق بسيطة. وبعد ذلك تجذب أناشيد الروضة أذني الطفل وتصبح الأرضية لكل أنواع الإبداع الإيقاعية والصوتية التركيبية التي توجد في الشعر الانجليزي الأكثر تعقيداً. إن الكثير من هذا التطور تغرزه صحبة أطفال آخرون سواء في المدرسة أم في اللعب. فالمرء يتعلم كيف يستجيب إلى النكات البسيطة والألغاز وحتى التوريات الواضحة وذلك عن طريق ملاحظة طريقة استجابة الآخرين لها. إن التعبير التقليدي عن حس الدعابة للتورية في إنكلترا على سبيل المثال غالباً ما يتم عن طريق الغمغمة groaning لدى المستمع وليس بالضحك، وهذه ردة فعل ثقافية راسخة حيال نموذج محدد ما للعب بالكلمات.

وفي الوقت الذي يتعلم فيه الطفل ألعاب الكلمات المبكرة هذه فإنه في الوقت نفسه يتشرب كمية أكبر من المعلومات الأخرى حول اللغة وكيفية استخدامها بشكل مؤثر. ومع بلوغه مستوىً معيناً من المقدرة فإن ألعاب الكلمات التي تروق له تصبح أشد تعقيداً، وفي المحصّلة النهائية فإن الطفل يواجه لعبة الكلمات الكبرى والتي هي من شأن البالغين الراشدين – ألا وهي القصيدة.

وعند هذه النقطة يحدث خطأ ما أثناء الإجراء. ومن الصعب تحديد هذا الخطأ بالضبط ولكن عندي بعض الأفكار، وهذه واحدة: إن أولى ألعاب الكلمات تحدث إما في محيط الأسرة أو وسط بيئة من الأقران والأصدقاء. وليس هناك من إكراه في هذا المجال بل في الحقيقة يتعلق الأمر برغبة الأطفال في تعلم كلمات الألعاب هذه وتكرارها، والتي تصبح بدورها تراثهم الشفهي الأقوى.( ) ومن جهة أخرى إذا لم يكن الطفل قادماً من خلفية أدبية غير عادية، فإن التعرض إلى شعر رفيع المستوى لن يحدث إلا في المدرسة، حيث يلقِّن المعلم الطلاب الشعر تلقيناً سلطوياً، أي على أنه أمر يجب أن يُدرس ويُتعلّم.

إن لكل طفل ردة فعله الخاصة حيال القصيدة، ومع ذلك فلن يكون أيّ واحد منهم قادراً على الاستجابة لهذه الأصوات استجابة إجتماعية، والسبب يعود ببساطة لعدم تشجيع الأطفال على القيام بمثل هذا في أية مرحلة من مراحل حياتهم بين الأقران. لماذا؟ لأن الشعر صعب جداً ومعقد جداً. فإذا كانت لغة الراشدين الكبار تتطلب جهداً بالنسبة للطفل كي يفهمها فإن شعرهم لهو أشد صعوبة بمئة مرة بل ألف مرة بالنسبة لهم. ويتوجب على المعلم الإيضاح وشرح ما ينبغي الاستماع إليه وقيادة عملية القراءة، وأن يشير بحماس إلى التأثيرات المختلفة للشعر بحيث يمكن للتلاميذ اجتياز “الاختبار” النهائي في “الموضوع”. ولكن هذا لا محالة يضع حداً لأي اهتمام بالشعر بالنسبة لمعظم التلاميذ.

إن سياق الشعر هذا مصطنع بالجملة، وبعيد كل البعد عن ألعاب كلمات الأطفال الأولى. فبغض النظر عن المتطلبات الكبيرة للمعرفة التقنية التي يتطلبها معظم الشعر فإن التجربة الشعرية تبقى في المحصلة النهائية تجرية فردية وخاصّة. صحيح أن الطلاب يجتمعون اجتماعاً جسدياً بعضهم مع الآخر في الصف حيث “يُدرّس” الشعر إلا أن ردود أفعالهم حياله واستجابتهم ليست استجابة جماعية. فمحط الاهتمام الرئيس، القصيدة، يبقى خارجاً عن تجربتهم الخاصة، كما أنه ليس هناك أية محاولة لجعلهم يدركون التأثيرات الاجتماعية لقصيدة ما أو للشعر بشكل عام. وفي نهاية المطاف قد يوجد من بين الطلاب من هو قادر على التحدث عن العناصر الفنية المختلفة للشعر، ولكنه مع ذلك لن تكون لديه المعرفة الكبيرة حول ما يمكن للشعر أن يفعله في حقيقة الأمر.

إن التجارب الشعرية بالنسبة للعديد منّا قد أفسدتها مقاربة التلقين بالقوة التي يقوم بها المعلمون والأكاديميون أحياناً. فقد أخبرتني صديقة لي مؤخراً كيف أنه كان عليها أن تدرس ملحمة جون ملتون John Milton الفردوس المفقود Paradise Lost بأكملها لامتحانات المدرسة الثانوية النهائية في إنكلترا منذ بضع سنين خلت. إن الدافع وراء وضع قصيدة طويلة مثل الفردوس المفقود يبدو أنه يكمن في فكرة “تعليم” الطلاب الجزء الأكبر من “الكلمات العظيمة” على نحو مبكر قبل أن يغادروا النظام التعليمي أو التعليم النظامي. ولكن الاحتمالية الأكبر هي أن فعلاً كهذا قد يجعل ليس فقط تلك الطالبة بل أغلبية زملائها وزميلاتها في الصف يكرهون الشعر وللأبد رغم حقيقة أنهم لم يكونوا درسوه بشكل كاف على ما يبدو.

إن قصيدةً مثل الفردوس المفقود ذات شهرة واسعة بين أوساط الباحثين والمعلمين، ولكننا يجب أن نكون حذرين في فهم السبب الكامن وراء تدريسها في أي صف من صفوف المدرسة. فأولاً هي قصيدة ذات طول ملحمي، وبالتالي فهي تحوي مادة لامتناهية للنقاش، ليس فقط مادّةً تتعلق مباشرة بالشعر بل مادّةً خلفية ثقافية أيضاً سواء كانت هذه الخلفية دينية أم تاريخية أم سيرة ذاتية/ حياتية، أم كلاسيكية أم دعائية، إلى ما هنالك. إضافة إلى ذلك إن طولها نفسه غالباً ما يفترض على أنه سبب إضافي لتبجيلها فضلاً عن كون هذا الطول أو الكم نفسه مؤشر على الجودة/ النوعية.

إن المشكلة تكون أكبر عندما نقوم بتدريس الشاعر شكسبير Shakespeare في المدرسة. فمصاعب اللغة في أعماله تفوق بكثير مقدرة حتى أكثر طلاب المدرسة موهبة، بل ربما تفوق قدرات طلاب الجامعة في مرحلة الدراسات الجامعية الأولى. فما هو مثالي هو أن لا ندرّس شكسبير إلا بعد أن نصبح قادرين على تذوق ما يجري في شعر أبسط كاتب قريبٍ من يومنا وفهمه. أما المناقشة المضادة طبعاً فهي “إن هذا اليوم (الذي نستطيع فيه أن نفهم شكسبير) ربما لن يأتي، وإنه من الأفضل أن نأخذ بعض أعمال ملتون أو شكسبير حتى وإن كانت التجربة غير كاملة”. وللأسف فإن النتيجة في النهاية قد تكون الكره ليس لملتون وشكسبير فحسب بل للشعر كله.

إن ملتون هو حالة ممتعة للشاعر الذي كَتَب لكي يُسْمَع. ولأن الفردوس المفقود قصيدة طويلة جداً فإن الإغراء هو مقاربتها على أنها نوع من الرواية أو المسرحية الشعرية، وأن نداوم على سؤال أنفسنا كما لو أننا نقرأ قصة أخبار “ما الذي سوف يحدث بعد ذلك؟” و “ماذا يحاول ملتون قوله هنا؟” مع إعطاء القليل من الانتباه إلى صوت شعره المرسل blank verse، وترتيباته النحوية فائقة العناية، والطريقة التي كُتبت بها الأبيات (وهي التفعيلات الخماسية من بحر الأيمب إلى جانب استخدام مختلف تقنيات الشعر الفنية وأدوات أخرى) بحيث تبدو مرضية من ناحية بحرها ووزنها.

إن تجربتي الخاصة بـ الفردوس المفقود كطالب في السنة الأولى في جامعة كندية لم تكن بالحظ العاثر الذي صادف زميلتي في إنكلترا. وربما كان ذلك لأنني سرعان ما أدركت أن القصيدة كان من المستحيل التركيز عليها لأكثر من صفحة واحدة في كل قراءة إذا كنت تريد أن تقرأها قراءة صامتة. فالطريقة الوحيدة التي كنت قادراً على تطوير أي تذوق لهذه القصيدة كان قراءة كل شيء بصوت مرتفع لنفسي وهذا ما فعلته (عبر فترة زمنية دامت ثلاث سنوات). وأما النتيجة النهائية بغض النظر عن البحة في الصوت – فكان المزيد من الاحترام لوعي جون ملتون بالأصوات واستخدامه لها على أنها أساس الشعر.

رأينا للتو بأن تأليف الشعر وتوقعات الجمهور لما كان يمكن أن ينجم عنه في عصور الشعر الإنكليزية المبكرة كانت مختلفة تماماً في الماضي عمّا هي عليه الآن. فردة فعل الجمهور لا بد وأن كانت آنيّة وحادة في أغلب الأحيان. نستطيع تصوّر جمهور تشوسر وهو يضحك استجابة له عندما يسوق بعض النكات، كما نستطيع تصوّره كيف يصبح جدياً عندما يقرأ أجزاء شعرية فلسفية أو أخلاقية، وكيف يصفق له بحماس عند نهاية أية حكاية من حكايا الكانتربيري أو أي عمل من أعماله الشعرية الأخرى. وعلى الرغم من أن اختراع الطباعة أحدث بعض التغيير فإن الشعر بقي أداة شعبية – حتى في تجلياته الحميمية الخاصة – إلى حين دخول القرن التاسع عشر. يمكن لنا أن نفترض أن معظم أفراد جمهور الشاعر كانت لهم أذن موسيقية جيدة، وأنهم كانوا قادرين على فهم أي تأثيرات فنية بذوق رفيع، وعلى فهم معظم إشارات النص الإضافية، وأنهم كانوا واعين لكل ما هو جديد وجدير بالمديح أو لكل ما يمكن أن يسبب المشاكل فيما يتعلق بعمل الشاعر. كما أن القادمين الجدد إلى الجمهور (الشباب على سبيل المثال) سوف يتشربون هذه المعرفة رويداً رويداً عن طريق الملاحظة والتقليد.

وبعض الناس يجادلون في أن حالة الشعر سيئة اليوم وسبب زعمهم هذا هو أن جمهور الشعر لا يتعدى فئة صغيرة جداً — كجمهور المثقفين والناس الذين يحبون القواميس ومن يحب الكلمات المختارة وكذلك من يحب الدفع باللغة إلى أقصى حدودها. فكل إنكليزي قديم كان يشنف أذنيه بسماع قصيدة مثل قصيدة بيوولف Beowulf يقابله اليوم آلاف ممن لا يلقي بالاً البتة لروائع من منظومات القوافي السابقة في الشعر. فلكل عصر شِعره الشعبي وشِعره النخبوي: فبعض القطع الشعبية تحتوي على عناصر التكلّف sophistication فيها – وبمقدورنا أن نرى هذا على سبيل المثال لا الحصر في بعض الترانيم carols وقصائد الريف ballads وفي قصائد تالية لشعراء مثل روبرت بيرنز Robert Burns وألفريد تيننسون Alfred Tennyson، و كريستينا روزيتّي Christina Rossetti، وديلان توماس Dylan Thomas، و ليونارد كوهن Leonard Cohem، و جون لينون John Lennon. ولكن الشعر النخبوي elitist poetry هو في العادة لعبة الكلمات المنشودة وهو التجربة الأكثر عمقاً والأشد غنىً وبخاصة عند التركيز عليها كشكل من أشكال اللغة حيث إنها تقدم الكثير في أصغر حجم، ولهذا فهي الشكل اللغوي الأكثر اختراقاً.

أرجو ألا أكون قد خيّبت أملك أيها القارئ الكريم لأنني كرّست وقتاً ربما أطول مما ينبغي للخوض في عناصر الشعر الفنية (في هذا الكتاب) وأقصر مما ينبغي لدراسة التأثيرات السحرية للشعر. إن سحر الشعر هو شيء يمنحه المتلقي له، إذ لا يمكن للشعر أن يوجد على نحو مستقل في كلمات القصيدة المقروءة أو المطبوعة. إن هذا السحر أشبه بسحر الوقوع في الحب: تتضافر العناصر الخارجية كي تحدث تجربة سحرية في عقل أحدنا، ونحن ندعوها “سحرية” لأنا ببساطة لا نستطيع أن نجد تعليلاً عقلانيّاً لها.

فقد تبحث طولاً وعرضاً عن القصيدة أو القصائد التي تبدو مناسبة لك أو تلك التي قد تُحدث هذا التأثير السحري لديك وفي بعض الأحيان قد تجد صعوبة في العثور على قصيدة ممتعة.

فإذا كنت تقرأ الشعر باستمرار فإنك لابد وأن تصادف قصيدة معينة ما والتي من شأنها – لدى سماعك لها للوهلة الأولى – أن تبدو مناسبة. وهذه القصيدة هي التي تطرق ضميرك بشكل قوي رغم أنك قد لا تلقي بالاً ولو للحظة للطريقة التي فعلت فعلتها تلك بك، وبهذه الطريقة فإنك تضفي نوعاً من السحر على لغة القصيدة الأخرى جاعلاً إياها تحيا في عقلك على نحو يميزها عن سواها من القصائد والأشكال اللغوية الأخرى، والتي بالمقارنة تبدو على أنها تتراجع نحو خلفية رمادية.

إن هذا السحر أكثر شيوعاً في السياقات الاجتماعية الأخرى، فتجربة الناس السحرية من الوقوع في الحب توحي للأعضاء الآخرين في مجتمعاتهم بأن تجربة كهذه تجربة ممكنة؛ ومهما يكن فإنها توضح نوع الاستجابة التي قد تسببها. ولكن عملية إيضاح فعل سحر القصيدة ليس بمثل هذه السهولة أيضاً، فمهما حاولتَ ربما أن تهذي أو لنقل حاولت أن تعبّر عن السحر الذي سببته القصيدة لك، فإن معظم الناس الذين يصغون إليها معك فيما بعد سوف لن يجدوا فيها مثل السحر الذي أحدثته لك أو بك. فعلى الأقل إن ردة فعلك الحماسية سوف تساعد على تعزيز الوعي العام من أن استجابة مثل هذه الاستجابة لحال الشعر هي أمر ممكن ويخلق لدى الآخرين الرغبة في البحث عن مثل هذه القصيدة، هذه القصيدة التي سوف تصبح جزءاً لا يتجزأ من ضميرهم.

الملاحظات

● جيفري تشوسر (1343؟-1400): أقدم شعراء اللغة الإنكليزية على الإطلاق. ولد لأسرة ثرية وتربى في بلاطات النبلاء. سافر في مهام دبلوماسية كثيرة إلى إسبانيا وفرنسة وإيطاليا حيث قرأ آداب هذه الدول وتأثر بها وبخاصة الإيطاليين دانتي وبترارك وبوكاشيو. في عصره كان معظم الكتّاب لايزالون يستخدمون اللغة اللاتينية في كتاباتهم ولكن تشوسر كان أول ما استخدم الإنكليزية في كتاباته (رغم إجادته للإغريقية واللّاتينية) وبهذا كان المؤسس الأول لاستخدام الإنكليزية كلغة وطنية. كان مبدعاً رغم تأثره بالآداب الأوروبية. كتب أعمالاً كثيرة أهمها وأشهرها حكايا كانتربيري Canterbury Tales تأثر به معظم الشعراء الإنكليز ممن جاء بعده.

● وِليَم شكسبير (1564-1616): شاعر إنكلترا الأكبر. ولد لأسرة مؤلفة من ثمانية أولاد في ستراتفورد. تعلم في مدارس البلدة الابتدائية والإعدادية ولكنه لم يتلق أي تعليم ثانوي أو جامعي. أمضى الشطر الأكبر من حياته في لندن كممثل ومستثمر في أحد أشهر شركات المسرح في زمانه، حيث كان أحد أبرز كتاب المسرح. كتب 36 مسرحية في مختلف أجناس المسرح وكتب 3 قصائد طويلة (هي “اغتصاب لوكريس”، و “شكوى عاشق”، و “فينوس وأدونيس”). كما كتب 156 قصيدة غنائية تدعى “السونيت” (مؤلفة من 14 بيت وفق بحر ونظام قافية مميّزين). خلد إلى بلدته للتقاعد قبل وفاته بستة أعوام حيث كتب آخر مسرحياته وأشهرها “العاصفة”.

● جون دَنّ: (1572-1631): هو أب مايدعى بـ “الشعر الميتافيزيقي metaphysical poetry”. كان عميدا لكاتدرائية القديس بولس (أكبر كاتدرائيات لندن) ودفن فيها عند موته. كتب قصائد في الحب وقصائد في الدين كما كتب مجموعة قصائد تعرف بالمراثي، إلا أن أشهر أعماله هي “السونيتات المقدّسة”. 

● جون مِلْتُونْ (1608-1674): أحد أشهر الشعراء الإنكليز، وأجرؤ على تصنيفه بعد شكسبير. إنه الشاعر الأوحد الذي كتب الملاحم بالإنكليزية وهما “الفردوس المفقود” و “الفردوس المستعاد”. تلقى تعليماً جيداً في مدارس لندن ثم أنهى دراسته الجامعية في جامعة كامبريدج وتخرج فيها بدرجة الماجستير. ثم انكب على دراسة اللغات الإغريقية واللاتينية والإيطالية وعلى دراسة اللاهوت. كتب في الشعر والنثر والمسرح. أصيب بالعمى في ريعان شبابه ولكنه كتب بعد ذلك أشهر أشعاره ومنها الملحمتان. انخرط في السياسة وانضم إلى حلف كرومويل البيوريتاني المعادي للملك. بعد عودة الملكية في العام 1660 اعتقل ملتون. لم يعدم بل أطلق سراحه بوساطة الشاعر دافننت وبدفع غرامة مالية. توفي في السادسة والستين ودفن في مقبرة العظماء في لندن.

● جون كيتس (1795-1821): أحد أعظم شعراء الحركة الرومانتية في الشعر الإنكليزي. أشهر أشعاره تلك التي تدعى بـ odes “القصائد” وهي من أشهر ماكتب باللغة الإنكليزية من نوعها. 

● والاس ستيفنس (1879-1955): درس القانون في جامعة نيويورك، ثم اهتم بكتابة الشعر وطبع أول دواوينه في الخامسة والثلاثين من عمره، إلا إنه تابع حياته كمتخصص في القانون. له عدة دواويين مطبوعة ويعد واحداً من أشهر شعراء القرن العشرين في أمريكا. ومايقصده الشاعر في هذه القصيدة هو أن معنى القصيدة ليس الحقيقة، بل إدراك الشاعر للحقيقة، وهذا الإدراك مبني على التجربة والسياق التاريخي والمهارة الشعرية، من بين أشياء أخرى.

● وليم وردزورث (1770-1850): يعد والشاعر سامويل تايلور كوليردج مؤسسَيْ الحركة الرومانتية في الأدب الإنكليزي وذلك عندما قاما بنشر كتابيهما قصائد غنائية (1798) والذي يعد عام انطلاق الحركة الرومانتية في الأدب، وهو واحد من أهم الكتب في الأدب الإنكليزي والذي هاجم فيه الكاتبان الحركة الكلاسيكية. ولد في منطقة البحيرات في شمالي إنكلترا ودرس في جامعة كامبريدج. في بداية العشرينات من عمره قام بجولة في أوروبا التقى من خلالها بأبرز منظري الثورة الفرنسية والتي بقي مناصراً لها إلى حين تسلم نابليون السلطة والبدء بتهديد إنكلترا. عاد بعدها إلى موطن رأسه حيث عاش هو وأخته بقية حياته. في الأيام الأخيرة من حياته أصبح وردزورث أكثر محافظة، إلا أن شعره بقي رائجاً ومؤثراً. في الأعوام الأخيرة من عمره شغل منصب شاعر البلاط. هو الوحيد من بين الشعراء الرومانتيين الذي عاش طويلاً.

● سامويل تايلور كوليردج (1772-1834): ولد قرب لندن وكان من بين عشرة أولاد. أرسل في بداية حياته إلى الدير فكان منه أن انكب على القراءة بنهم كبير فائقاً بذلك جميع أقرانه. ثم درس في جامعة كامبريدج، وهناك التقى بالشاعرين وليم ساوذي ووليم وردزورث. بعد العام 1802 عمل في كتابة المقالات الصحفية لكسب لقمة العيش. كتب في المسرح والنقد وبعد من روّاد النقد الرومانتي. أصيب بالمرض فوصف له الأفيون مما أصابه بالإدمان عليه وبالتالي الوفاة.

● جون درايدن (1631-1700): درس في مدارس لندن وفي جامعة كامبريدج، وهو رائد الحركة الكلاسيكية (الاتباعية) في الأدب. أول قصيدة له كتبها كانت في تأبين موت أوليفر كرومويل (زعيم الحركة البيوريتانية والذي أطاح بالملك تشارلز الأول وقطع رأسه)، وفي العام 1660 احتفل بقصيدة عصماء بعودة الملك تشارلز الثاني من فرنسة وعودة الملكية لإنكلترا، ولهذا اشتهر بالنفاق السياسي. كتب مايزيد على العشرين مسرحية كلاسيكية ربما أشهرها “من أجل الحب” وهي مايمكن أن نطلق عليها “معارضة” مسرحية لرائعة شيكسبير “أنطوني وكليوبترا”. وهو من المترجمين الأوائل لهوميروس، فضلاً عن كونه ناقداً ومن أوائل المنظرين في الترجمة.

● ألكساندر بوب (1688-1744): ولد في لندن لأسرة كاثوليكية. وبسبب دينه ذلك لم يسمح له بدخول الجامعة فانكب على الدراسة المنزلية فتعلّم اليونانية واللاتينية والإيطالية. في الثانية عشرة من عمره أصيب بمرض السل فسبب له إعاقة دائمة في جسمه. بدأ الكتابة في سن السادسة عشرة من عمره. ويعد واحداً من مؤسسي المذهب الكلاسيكي في إنكلترا. وهو أيضاً أشهر من كتب في الهجاء والسخرية، و أشهر من ترجم الإلياذة والأوديسة إلى الإنكليزية، فضلاً عن كونه أحد النقاد المبدعين.

● لورد بايرون (1788-1824): واسمه الأصلي جورج جوردون بايرون. من أشهر شعراء الحركة الرومانتية في الشعر الإنكليزي. كان من أسرة نبيلة. سافر إلى اليونان كي يدافع عنها في حروب الاستقلال عن الامبراطورية العثمانية وقتل هناك. يعد واحداً من أشهر من نظم الشعر عن الشرق. 

● لورد تينّيسون (1809-1892): من أشهر شعراء العصر الفيكتوري (والشعر الإنكليزي عموماً) في إنكلترا، وهو صاحب واحدة من أشهر المراثي في الشعر الإنكليزي ممن كتب في رثاء صديقه “آرثر هالاّم” الذي مات غرقاً. بدأ الكتابة مبكراً منذ أن كان في جامعة كامبريدج، وكان في آخر أيامه نديماً للملكة فيكتوريا الذي كان شاعر بلاطها.

● روبيرت براونينغ (1812-1889): ولد في لندن ودرس في جامعتها إلا أن ثقافته الأساسية جاءت عن طريق مكتبة والده البيتية. في العام 1846 هرب مع الشاعرة إليزابيث بارّيت إلى إيطاليا واستقرّا هناك إلى حين وفاة الشاعرة في العام 1861. لم تلق أعماله الأولى التي كانت شعراً ومسرحاً قبولاً لدى الجمهور في البداية إلا إنه سرعان ما أصبح وزوجته من أشهر شعراء العصر. اشتهر بابتكاره لفن شعري وهو “المونولوج الدرامي dramatic monologue”. كان يختار قصصاً تاريخية قديمة وغامضة ثم يقوم بصياغتها بما يتناسب والواقع عن الصراع بين الخير والشر، والاستخدام الصحيح للسلطة. 

● والت ويتمان (1819-1892): أبو الشعر الأمريكي الحديث، وهو أشهر شعراء أمريكا على الإطلاق. ولد في نيويورك. ترك المدرسة مبكراً وعمل في أعمال مختلفة قبل أن يمتهن الصحافة. خلال الحرب الأهلية عمل في الإغاثة وفي الداخلية وفي مكتب النائب العام. يرجع إليه الفضل في اختراع الشعر الحر واستخدامه في أمريكا كثورة على الشعر التقليدي وبخاصة من حيث الوزن والقافية. تأثر أكثر ماتأثر بمدرسة الفيلسوف إيمرسون وأفكاره عن مدرسة “ماوراء الطبيعة” الصوفية.

● جيرالد مانلي هوبكنز (1844-1889): كان أحد الشعراء القساوسة وواحداً من أشهر شعراء العصر الفيكتوري المجددين. درس الأدب القديم في جامعة أوكسفورد. تحوّل من طائفة الأنكليكانيين (البروتستانت) إلى طائفة الروم الكاثوليك، وكان من اليسوعيين المبشرين وذلك بعد تخرجه في الجامعة في العام 1867. بدأ كتابة الشعر مبكراً متأثراً بأبيه، ولكن قراره بأن يصبح يسوعياً دفعه إلى إحراق كتاباته الشعرية الأولى. كتب بعض المقطوعات الموسيقية، كما قام بكتابة بعض الخطب الدينية. 

● ت. س. إليوت (1888-1965): واحد من أشهر شعراء ومسرحيي ونقاد القرن العشرين الأدبيين وأكثر هم تأثيراً. ولد لعائلة مميّزة في أمريكا ونشأ وترعرع في ولاية ميسوري ودرس في جامعة هارفارد (الأمريكية) والسوربون (الفرنسية) و أكسفورد (البريطانية) حيث حصل على شهادة الدكتوراه. تأثر كثيراً بأفكار الحداثة التي كان يقودها صديقه ومعلمه عزرا باوند الذي شجعه على البقاء في أوروبا. كما تأثر بالأدب الفرنسي. عمل في بداية حياته المهنية كـ موظف في مصرف ثم قلم بعدها بتأسيس دار نشره التي بقي فيها إلى آخر حياته. في العام 1927 أصبح مواطناً بريطانيا واعتنق مذهب كنيسة إنكلترا. نال جائزة نوبل في الأدب فب العام 1948. تعد قصيدته “الأرض اليباب” واحدة من أشهر قصائد القرن العشرين.

● توماس أوكلييف (1368-1426): أحد شعراء إنكلترا في القرون الوسطى، كان معاصراً لـ تشوسر ولكنه لم يكن يبلغ شهرته أبداً. اشتهر بمواضيع قصائده حول الدّين والأخلاق.

● جون سكِلْتون (1460-1529): درس فس جامعة كامبريدج وحاز على الماجستير في الأدب في العام 1484. وكان باحثاً ومترجماً إلى جانب كونه شاعراً. كما كان معلماً للملك هنري الثامن عندما كان طفلاً، وهناك بعض المراجع التي تذكر أنه كان شاعراً للبلاط.

● روبرت غريفز (1895-1985): كان واحدا من بين عشرة أولاد لأبوين أيرلنديين، وكان الأب أكاديمياً وشاعراً محباً للشعر وللميثولوجيا الإيرلندي وهذا ماأثر في شعر روبرت. فاز بمنحة دراسية في جامعة أوكسفورد ولكن اندلاع الحرب العالمية الأولى دفعه للانضمام للجيش وهناك عكف على كتابة الشعر. تزوج بالشاعرة الأمريكية لورا ريدنغ، ولهما عدة دوايين مطبوعة.

● و. هـ. أودين (1907-1973): واحد من أعظم شعراء القرن العشرين. ولد لأسرة من الطبقة الوسطى ودرس في جامعة أوكسفورد. هاجر إلى أمريكا وأصبح أمريكي الجنسية. كان مبدعاً في شعره مجدداً في أسلوبه ويعد واحداً من شعراء الحداثة، كما يعد من شعراء الحرب. كتب مواضيع شعره في السياسية والوطنية والأخلاق وكذلك في الحب. كما كتب مقالات عدة في الأدب والسياسة والأفلام الوثائقية والمسرح الشعري. من أشهر قصائده التي أصبحت مشهورة بسبب وسائل الإعلام وفي الأقلام والدعايات “أوقفوا الساعة”.

● وتوم غَنّ (1929-2004): شاعر أنغلو أمريكي ولد في مقاطعة كنت في إنكلترا ودرس في جامعة كامبريدج وتخرج منها في العام 1954 وبعد ذلك بعام واحد نشر أولى مجموعاته الشعرية. ثم هاجر في العام نفسه إلى الولايات المتحدة حيث قام بالتدريس في عدد من جامعاتها. توفي في العام 2004 في مدينة سان فرانسيسكو في منزله الذي كان يقطنه منذ العام 1960.

● تيد هيوز (1930-1998): درس في جامعة كامبريدج. يصنفه النقاد على أنه واحد من أهم شعراء جيله. كان شاعر البلاط مابين الأعوام 1984 إلى حين وفاته. تزوج من الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث والتي أقدمت على الانتحار فأثار ذلك جدلية أثارت الشكوك حول علاقتهما إلى أن قام قبل وفاته بإيضاح تلك العلاقة في آخر أعماله “رسائل عيد الميلاد”. كذلك كتب هيوز في أدب الأطفال وكذلك في النقد والأوبرا. يتمحور شعره حول همجية الطيور الفطرية، وحول الطبيعة وهو موضوع دأب عليه منذ نعومة أظفاره.

● سيلفيا بلاث (1932-1963): ولدت لعائلة من الطبقة الوسطى في ولاية ماساتشوستس بأمريكا. ونبغت في بداية حياتها من أيام المدرسة حيث بدأت بكتابة الشعر وحصد العديد من الحوائز. مات أبوها ولما تتعدى الثامنة فعاشت في كنف أمها التي كدحت كثيراً في تربيتها مع أخيها. سافرت بعد دراستها الجامعة في منحة منحة بحثية إلى إنكلترا وهناك التقت بالشاعر الإنكليزي تيد هيوز وسرعان ما تزوجا. ولكن الطلاق بينهما وقع سريعا فعاشت في حالة من الاضطراب النفسي والفقر إلى أن أقدمت على الانتحار بالغاز ولما تتعدَّ الواحدة والثلاثين من عمرها. تتسم أشعارها بالأفكار النسوية وبالحقد الشديد على الرجال، وكذلك في موضوع المعاناة وبخاصة من جانب المرأة.

● روبرت بلاي (1926-): شاعر وكاتب وناشط أمريكي أسس حركة “الأسطورية الشعرية” في أمريكا، وهو من أصول نرويجية. خدم في البحرية الأمريكية ثم التحق بجامعة هارفارد. ترجم نماذج من الشعر النرويجي إلى الإنكليزية ، كما أسس مجلة لترجمة الشعر في الولايات المتحدة. عارض الحرب الأمريكية على فيتنام وأسس مجموعته الخاصة بذلك. تلقى عدة جوائز ويعد من شعراء أمريكا البارزين اليوم.

● روبرت كريلي (1932-1963): شاعر أمريكي ومؤلف لما ينوف على الستين كتاباً. ارتبط اسمه بشعراء حركة “بلاك ماونتن” (الجبل الأسود). درس في هارفارد ولكنه لم يتخرج فيها بل أكمل دراسته في كلية بلاك ماونتن. عمل في الزراعة وعمل في التعليم، ثم سافر إلى إسبانيا وعاش هناك مع أسرته وأولاده وبعض الأصدقاء حيث عمل وإياهم في الطباعة والنشر. في العام 1960 حصل على الماجستير وانتقل للتدريس في بعض الكليات المرموقة ليستقر أخيراً في كليته التي درس فيها. نال جوائز شعرية عدة.

● روبرت دَنْكن (1919-1988): شاعر أمريكي وأحد أشد أتباع الروائي الإنكليزي الشهير د. ه. لورانس. عرف بانتمائه لمجموعة “الشعر الأمريكي الجديد” كما إنه كان عضواً بارزاً في “نهضة سان فرانسيسكو”. يعد شعره شعراً معاصراً من حيث الموضوعية والأسطورية ولكنه رومانتي من حيث الطبيعية والعضوية والعفوية.

● روبرت فروست (1874-1963): ولد في مدينة سان فرانسيسكو ودرس في جامعة هارفارد. أمضى عقوداً من عمره في أعمال الزراعة في مزرعته في نيوهامبشاير. أمضى وأسرته شطراً من حياته في إنكلترا حيث قابل بعض الشعراء الإنكليز مثل أودين وإدوارد توماس. شغل عدة مناصب تدريسية في أمريكا. يعد واحداً من أشهر شعراء أمريكا في القرن العشرين، يمتاز شعره بالرصانة والاتزان من حيث اللغة والقوالب الشعرية، ويتناول الطبيعة بشكل رئيس. 

● روبرت لويلّْ (1917-1977): شاعر أمريكي ولد لعائلة ثرية وانضم لجامعة هارفارد ولكنه آثر الدراسة في جامعة أوهايو. ارتبط اسمه بحركة “الكونفيشّنال” أي “الاعترافيون” في خمسينات وستينات القرن الماضي، رغم أنه كان مرّ بتجارب شعرية متنوعة قبل ذلك. وبقي ناشطاً سياسياً طوال حياته.

● بيرسي شيللي (1792-1822): ولد لعائلة من الطبقة الوسطى وانضم لجامعة أوكسفورد إلا أنه طرد منها بسبب معتقداته. تأثر أكثر ما تأثر بآراء الفيلسوف الاجتماعي الراديكالي وليم غودوين. وقع شيللي في غرام ابنة غودوين وفراّ معاً إلى أوروبا. غرق في إيطاليا بينما كان يسبح في أحد الخلجان هناك. وبسبب آرائه الراديكالية الاجتماعية والسياسية والفلسفية لم يكن لـ شيللي الكثير من الأصدقاء خلال حياته. لم يعرف عنه تمسكه بأي معتقد ديني بل كان يؤمن دوما بقوة الحب والخيال على عتق النفس من سجنها، وهذا ماانعكس في شعره. يعد واحداً من أكبر شعراء الحركة الرومانتية وأشهر شعراء إنكلترا. 

● إدغار آلان بو (1809-1849): واحد من أشهر شعراء أمريكا وكتابها. لد في بوسطن وتوفي والداه وهو طفل فكفله أحد التجار ولكنه تخلى عنه عندما بدأ آلان بو بالانغماس في المجون والقمار وبخاصة بعد أن ترك الجامعة وغرق في الديون. انضم بعدها إلى الجيش ولكنه لم يستطع الانسجام معه، وسرعان ماتحول إلى الكتابة وأخذ يطوّف في المدن الأمريكية. كسب العديد من الجوائز ونشر قصائده في مجلات مرموقة إلا أنه بقي فقيراً، ولهذا غلب على شعره النظرة السوداوية، رغم إنه كان يؤمن بنظرية الفن لأجل الفن. بالإضافة إلى كونه شاعراً، اشتهر بوصفه كاتب قصة قصيرة.

● ديلان توماس (1914-1953): شاعر من مقاطعة ويْلز حيث ولد في مدينة سوانسي. نشر أول ديوان له ولم يتجاوز العشرين من عمره. في عصر كان يعج بالحداثة والمعاصرة آثر توماس أن يكتب الشعر الغنائي العاطفي النابض بالحيوية وهذا ماأكسبه شهرة في الدوائر الأدبية في ويلز وإنكلترا. أمضى حياة ملؤها المجون والكحول وهذا ما أوقعه في المرض. توفي بينما في جولة شعرية في أمريكا. اشتهر بقراءاته الشعرية في أكثر من دولة وبخاصة في الولايات المتحدة.

● قصيدة بيوولف (القرن الثامن): أقدم الملاحم الشعرية الإنكليزية وأشهرها على الإطلاق. كتبت مابين الأعوام 700-1000 ميلادية ولكن مؤلفها غير معروف. وتعد أنموذجاً مثالياً للشعر الآنغلوساكسوني القديم وتدرس لثراءها اللغوي والفني. يزيد عدد أبياتها عن الثلاثة آلاف بيت. جذور القصة الملحمية جذور وثنية، إلا أنه تم تجيرها هنا لغايات مسيحية دينية. تقع أحداث القصة في اسكندنافيا وتتعلق بثقافة المحارب وميثاق شرف البطولة لديه، وهي تحكي وقائع الأحداث البطولية التي قام بها الأمير بيوولف الذي ينطلق ليحارب وحشاً أسطورياً دفاعاً عن البلدة التي استجارت به. ترجمها إلى الإنكليزية الحديثة الشاعر الأيرلندي الشهير شيمَس هيني.

الشاعر المترجم “شيمَس هيني” واحد من مشاهير الشعراء المعاصرين. نال جائزة نوبل للأدب للعام 1955، وكان أستاذا للشعر في جامعة أوكسفورد وجامعة هارفارد. توفي في العام 2013 وخلده الشعراء من حول العالم في مراثٍ ومراثٍ وقصائد مدح. احتفت قصائده بالطبيعة وبخاصة بلده الجميل إيرلندة التي كان يجبها وأمضى معظم حياته فيها. كما كتب في السياسة التي هي موضوع الصراع في بلده.

● روبرت بيرنز (1759-1759): من أشهر شعراء اسكتلنده على الإطلاق بل وفي بريطانيا. وفي شعر كانون الثاني/يناير وكل عام ثمة تقليد احتفالي يقام باسمه بتناول نخب شراب الويسكي وتناول أحشاء الخنزير مطهوة بطريقة خاصة (تدعى “هاجّيز” وهذا عنوان لواحدة من أشهر قصائده)، وبالشراب والرقص. بدأ بيرنز حياته كفلاّح وكان واحداً من طلائع الحركة الرومانتية. يحتفل شعره بالطبيعة وبالاستمتاع بالحياة كل الاستمتاع. حاول العيش في عاصمة اسكتلنده إدينبره ولكنه لم يحتمل ذلك وعاد ليمضي حياته في الريف الغربي موطنه الأصلي. كان راديكالياً في تفكيره وبقي طيلة حياته يؤمن بمبدأ المساواة بين البشر. 

● كريستينا روزيتّي (1830-1894): ولدت في لندن وعاشت طيلة حياتها تقريباً مع أمها التي قامت بتعليمها وتثقيفها. تأثرت بحركة أوكسفورد الدينية وكانت متدينة جداً. نشرت أولى قصائدها تحت اسم مستعار، واستخدمت أشكالاً شعرية تقليدية وصعبة. تأثرت كشاعرة بالكتاب المقدس وكتابات القديسين و أفلاطون ودانتي وشعرا انكلترة الميتافيزيقيين دونّ و هربرت. أبرز مواضيع شعرها الحب والموت والدّين.

● ليونارد كوهن (1934-): مغنَّ وشاعر أمريكي وكاتب أغنيات وموسيقي وروائي. استكشفت كتاباته أغوار الدّين والسياسة والعزلة والجنس والعلاقات الشخصية. ولد في مونتريال لأسرة يهودية من الطبقة الوسطى يعود بأصوله لأوروبا الشرقية ويعد جدّه مؤسس المجلس اليهودي الكندي. درس في جامعة ماجّيل وكان فيها رئيس لجنة الحوار. تأثر بأشعار الشاعر الإيرلندي الشهير ييتس والأمريكي ويتمان. وقد أثنى الكاتب والناقد الكندي المعروف نورثروب فراي على أعمال كوهِن. نال جوائز عدة عن محتلف أعماله الفنية والأدبية.

● جون لينون (1940-1980): كان مغنياً وكاتب أغنيات ولكن شهرته ذاعت كونه مغنياً وعضواً مؤسساً لفرقة البيتلز الإنكليزية الشهيرة. كان شخصية مثيرة للجدل، وفي أشعاره. اغتيل في نيويورك. 

————–

أ.د. منذر العبسي /(قسم اللغة الإنكليزية – كلية الآداب – جامعة حلب – سوريا)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *