جيهان سامي أبو خلف
إنَّا إنَاثٌ لِما فِينَا يُولِّدُه
|
فلنحمدِ الله مَا فِي الكونِ من رَجُلِ
|
إنَّ الرجَالَ الَّذِين العرفُ عَيَّنَهُم
|
هُمُ الإنَاثُ وَهُم سُؤلِي وَهُم أمَلي
|
(الوصايا، ص14)
بهذا المفهوم، وهذه النظرة العميقة للأنثى وكينونتها وأصالتها التي صاغها سلطان العارفين محي الدين بن عربي أبدأ قراءتي المتواضعة لكتاب “نسوة في المدينة” للكاتب والشاعر الفلسطيني فراس حج محمد.
“هُمُ الإنَاثُ وَهُم سُؤلِي وَهُم أمَلي”
كيف لا تكون الأنثى سؤله وأمله وهي رحمٌ رحيمٌ لسر التكوين كله، وهي أصل ديمومة هذه الحياة البشرية والروحية، المرأة التي جُعِل فيها ما لا غنى للرجل عنه، تلك التي تجذبه إلى معادلة كونية دقيقة يشعر فيها الرجل بفقره وضعفه ويترجم قوته الحقيقة بحضورها وبمعيتها.
هذان العنصران البشريان اللذان يرتكز الوجود على اتصالهما والتناغم الروحي والجسدي بينهما، لمَ لا يصحُّ لكاتب أو لشخص ما أن يُعبّر عن تلك العلاقة بينهما بشيء من الأريحية وفق ما يراه، ووفق مفهومه الخاص ونظرته دون أن يُشنّع ويُقدح في خُلُقه وتربيته وأصالته؟
كتاب “نسوة في المدينة”، منتج نوعي من أربعة فصول، اجتمعت في (330) صفحة، وهو ذو فكرة مبتكرة، تتطرق لجانب خاصٍ حقيقيّ مما يُحاك وراء الكواليس في وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصا في هذا الفضاء الأزرق الذي جمعه بكثير من النساء، وبالأخص بملهمته الأبدية تلك المؤلمة والجِدًّ طازجة والتي خصص لها فصلًا كاملًا لتعلقه الشديد والصادق بها.
كتابٌ صُـنِّفَ كأدبٍ سرديّ، شخصيًا رأيت فيه أيضاً مزيجًا من أدب الرسائل والسيرة الذاتية، البطل في الكتاب واحد، وهو السارد ذاته، لا يخفى على كل قارىء قوة النصوص من الناحية الأدبية الفنية، وجرأتها، بل أقول إنَّ الكاتب كسَّر الحواجز كلها في توصيف تلك العلاقات، وخرج عن النمط العام في السرد المستتر وراء الكلمات المحتشمة.
فرغم متانة النصوص وتلقائية السرد وجمال الصور البلاغية فيه، إلا أنَّ الكتاب قد نال من التشنيع ما نال، بسبب المضمون، وفضِّ بكارة الحياء على مرأى ومسمع من القارىء دون حجاب ولا ستار، فالكاتب تعرّض لتفاصيل هذا الجمع العشقي بين الأنوثة والذكورة عموما، جسديا وروحيا، وأرى أن الأمر يخص الكاتب وحده، الكاتب وحده من يختار أسلوبه، لا يجب أن نملي نحن عليه شيئا، فالروح عندما يفيضُ مدادها يبدأ جوهر الكتابة حقًا، ولا شيء يوقفها وهنا يكمن الجمال الحقيقي، فما الكتابة إلا عملية قذفٍ لمكنونات النفس إلى الخارج بطريقة صانعها الخاصة، مترجما رسالة ما، لبيئة ما، بأسلوب يرتضيه هو ويمثّله، هنا فقط يسود كيانَه سكونٌ وطمأنينةٌ بدنية وفكريةُ وروحية، فالكاتب له مطلق الحرية باختيار أسلوبه للقذف كما تختار أنت أيها المعترض أسلوبك في كل أعمالك.
لن أطيل الحديث عن النصوص وما حازت عليه من اعتراضات، دعوني أذهب لما وراء النص، للأمر الذي سيطر على تفكيري في كل صفحة من صفحات الكتاب، للأمر الذي دعا فراس حج محمد لأن يكون صاحب قلمٍ قويٍ جريءٍ قبّح المشهد العام وتعرّض لكشف عوراته الافتراضية في علاقات مع نساءٍ وصفها بتجارب واقعية وحقيقية والتي لم تكن من قبيل التعويض النفسي الذي لا يؤمن هو به، كتب بكل شغف وصدقٍ وحبٍ ورغبةٍ مكنونة في داخله، كتب كإنسان حقيقي خالٍ من أي تزييف، سبر أغوار روحه وعقله وأخرج كل تلك المشاعر المتفجرة القوية الصارخة الفاضحة دون ضغطٍ من أحد ودون التعرض لأذية شخص بعينه، فما الذي دعاه لوضع عنقه تحت مقصلة العوام والغوغائيين؟
كيف يخاطر باسمه ومهنته ويعرّض محبيه لمشرحة الجرح والتشنيع في مجتمع محاصر بعادات وتقاليد موجعة لا ترحم؟ ما هي رسالته الحقيقية؟
رأيتُ أن الكاتب استهدف بالأساس هذا المجتمع، الذي يضجّ بالقبح المبطون، ويصرّ على أن يظهر بثوب العفةِ والطهارة. ثم أظنه أراد تسليط الضوء بالعموم على علاقة الزوجين المرتبطين بزواج تقليدي لا فكاك منه، أو على زواجٍ يفتقر للسكينة والودّ بسبب فقدان الانسجام الفكري أو الروحي أو البدني، باختصار انعدام الحب والشغف في استكمال العلاقة معا، أراد تسليط الضوء على الأنثى بكينونتها الروحية قبل الجسدية وأهميتها في كونها ذاك الوطن الذي يحنّ وينتمي إليه الرجل مهما عاند نفسه أو قاوم حبّه وانجذابه إليها، فأراد بلغة ثائرة أن يخبرنا أنها تمثل محورا مهما لا يصحّ أن نتجاهله، والأمر لا يتعلق بالاتصال الجسدي وحسب، كما قد يظهر من لغة الكتاب العامة، فمخلوقٌ يسببُ اضطرابا عاما في وجود الرجل تؤثر عليه نفسيا وصحيا واجتماعيا وعقليا هذا ليس مخلوقا عاديا بالتأكيد، ولا يصحّ أن يكون مهمَّشاً.
اضطرب السارد وجنّ وماجَ فكان تارةً يعاتب نفسه على التنقل من حبّ إلى حب، وتارة يتعامل بأنفة وكبرياء، وتارة بخنوعٍ وتسليم بسبب المرأة، ذاك الجِرمُ الذي لا يحلو العيش إلا به، ولا يستقرُّ نبض القلب إلا بوصله، تلك الأنثى التي يجب أن تـُحبَّ لذاتها رغم علّاتها، فمن أحبّ الجمال المكنون فقد أحب اللهَ حقيقة، لأن اللهَ جميلٌ سبحانه.
الكاتب لا يختلف عن أي إنسان آخر في حبه للمرأة عموما وتعلقه بها، هو فقط سمح لنفسه أن ينفجر من القاع إلى الجبل وأن يطفو بحبه وعلاقاته إلى السطح، هو فقط تحلّى بالجرأة والقوة على المواجهة، أما من حيث الوجود فالكل يعيشُ بحياة ملغومة محفوفة بالمخاطر ولو كُشِف عنا الستر لعمّت وطغتْ روائح أفعالنا، وذنبٌ عن ذنبٍ لا يختلف برأي، فجوهر الذنوب عموما هو مخالفة لأمرٍ رباني، إنما مجتمعاتنا هي من تحكّمتْ حقيقةً وجعلتْ تبرُّجَ امرأةٍ أقذر وأعظم من الكذب والرياء، هذا موضوع يطول، وهو جرحٍ غائر فينا يحتاج لمقال طويل، وهذا ليس مقامه بالتأكيد.
الفصل الأخير كان مختلفا، بالنسبة لي كان مؤثرًا، يرفق فيه السارد (108) مدونة يومية لإحدى النساء المغرمات به، مدونات بسيطة في لغتها، موجِعة في جوهرها، نقيّة في طرحها، تلك المرأة التي تصبر وتصبر وتصبر وتعاني الكثير من الألم والهجر والولع، تحبُّ بصدقٍ وتنطقُ الصِّدقَ ، تلك التي ينطبق عليها الحديث الشريف: “مَنْ عشِقَ فـعفَّ فماتَ، ماتَ شهيدًا”.
حقا وصدقًا:
لا يعرفُ الشوقَ إلا من يكابِدُهُ
|
ولا الصّبابةَ إلا مَنْ يُعانِيها
|
وكما يقول ابن عربيّ: “كلّ مكانٍ لا يؤنَّثُ لا يعوَّلُ عليه”.
يؤخذ على الكتاب التكرار في الفصل الثالث “مصابيح زرقاء في ليل المدينة”، هي تجارب مختلفة كل واحدة على حدةٍ، لعل الكاتب أراد إدراجها للتوثيق أو لأي سبب يخصه، إنما شعرت بشيء من الإطالة التي أدتْ بي إلى المللّ، برأيي كان من الممكن الاستغناء عن بعضها دون أن تُحدِثَ في النّص خللاً.
بقي لدي سؤالٌ يقضُّ مهجع عقلي، كان مثارًا عندي في السابق، والحقيقة أن هذا الكتاب أعاد تأجيج التفكير فيه: هل فعلا يستطيعُ المرءَ منّا أن يقع في حبٍ صادقٍ نوعيّ لأكثر من شخصٍ في مراحل متنوعة من عمره؟ وهل من الطبيعي أن يشتركوا معا في ذاك القلب مع العلم أن الكلّ لهُ زخمه؟
اخترتُ لكم هذا الاقتباس، وبه أختم بعد الشكر الجزيل للكاتب والشاعر فراس حج محمد على هذا العمل السابق لنوعه، وأنا أكيدة بأن الكتاب سيستفزّ أعماقنا حتى ولو شنّعوا به، فقد اعتدنا أن يفارق الظاهرُ بواطنَ الأمور والمواقف.
يقول الكاتب: “لن يكذب العرّاف هذه المرة، وسيكون الحلم الأخير صادقا وحقيقياً وحادًا كحافة الشّفة اليابسة، سينبتُ الظلُّ الأسودُ وينشرُ كغمامة محمّلة بعناقيدَ أرواحٍ حارّة متدلية بأطراف الذنب القصير، وستتأرجح حرّة في تلك المسافة بين أول نقطة في اللامرئي وصولا إلى التلاشي في السديم الأسود، سنضيعُ كما ضاع النّص الأخير للعرّاف المشاكس الذي راود الأقدار عن مسالكها، لن نجد حبلا نتشبث فيه، ستموتُ الفكرة التي انحنتْ كلماتها ويبستْ عروقها وجفَّتْ سواقيها، وسيكون الخروج النهائي إلى تيه بلا حد”.
-
كاتبة من فلسطين