هيثم حسين
كثيرة هي الأسئلة التي تتصادى هنا وهناك عن غياب أثر الثقافة التنويريّ في المجتمع حين يرضخ المثقّف لضغوطات من قبل القوى المستبدّة، أو ينصاع لأوامرها، أو تستدرجه بالامتيازات الممنوحة له فتربطه بها ارتباطا عضويا لا فكاك منه، ولعل دور المثقّف الذليل أكثر خطورة لأنّه يمارس في سياق القوّة الناعمة في سبيل تلميع صورة القاتل.
ما جرى في ظلّ الأنظمة المستبدّة في العالم العربيّ أنّه تمّ تغييب المثقّف المتحدّي الرافض، وتقديم صورة المثقّف المعارض من تحت الطاولة، أو المعارض بناء على الأوامر، أو تلبية لحاجة ما إلى إظهار التنوّع، فغدا ممثّلو الطغيان كتبَة تقارير وخطابات للمسؤولين البائسين الذين ظلّوا ينظرون إلى الثقافة نظرة التبعيّة والذلّ، ومن هنا كان بثّ شعور معمّم لدى الناس بغياب أيّ تأثير للأدب والثقافة، وعزلهما عن مجالهما الحيويّ، وزرع الإحباط والتشاؤم في النفوس من أيّ تغيير منشود.
بالبحث عن أثر الأدب في المجتمع، يتذكّر المرء جانبا هامّا يتمثّل في أثر العلم في المجتمع، وإمكانية القياس بين الأدب والعلم، لا من باب المقارنة أو المفاضلة، بل من جهة التأثير المنشود، أو الغياب والتغييب، وهنا يمكن الاستئناس بالبريطاني برتراند راسل (1872-1970)، (نوبل 1950)، في كتابه “أثر العلم في المجتمع”، الذي كان يؤكّد أن العلم تواجد كعامل مهيمن في تقرير معتقدات المثقفين من البشر لنحو ثلاثمئة سنة، في حين أنه أصبح مصدرا للتقنية الاقتصادية منذ قرن ونصف، وأنه في هذه الحقبة الوجيزة برهن على كونه قوة ثورية ذات قدرة هائلة. ويذكر أنه عندما يتم اعتبار قِصر المدة التي سمت فيها قوة العلم يجد المرء نفسه مجبرا على الاعتقاد أنه لا يزال في بداية عمله في إعادة تشكيل حياة الإنسان. ويذكر أن تأثيراته المستقبلية لا تزال موضع حدس.
وأكّد أن العلم كان العامل الأساسي في تبديد الخرافات البدائية، وأنه لم يتوقف اعتقاد البشر في كون المذنبات إنذار شؤم حتى تم البرهان على أنها تتبع قوانين الجاذبية، وأن مسارات البعض منها يمكن احتسابها. ويؤكد أن انتصار الشعور الإنساني والعقلانية يعزى بصورة كاملة إلى انتشار النظرية العلمية. ويطرح العديد من الأفكار حول العلم كفلسفة من جهة، وكتقنية من جهة أخرى. ويجد أن العلم قد عظّم حاسة القوة البشرية إلى حد كبير، لكن هذا التأثير مرتبط بالعلم كتقنية أكثر من ارتباطه به كفلسفة.
لفت راسل الانتباه إلى أن تأثيرات العلم متعددة ومن أنواع متباينة، فهناك تأثيرات فكرية مباشرة، مثل تبديد العديد من المعتقدات التقليدية وتبني سواها، وهو ما أوحت به نجاحات المنهج العلمي. ثم هناك تأثيرات على التقنيات في الصناعة وفي الحرب. وبدورها أحدثت التغييرات بعيدة المدى في النظام الاجتماعي، تغييرات برزت نتيجة التقنيات الجديدة، وتغييرات تدريجية مماثلة في الحياة السياسية.
وجزم أنّ العلاقة بين العلم والحرب، نمت تدريجيا إلى مستوى أكثر فأكثر صميمية، وأن ذلك بدأ مع أرخميدس الذي ساعد ابن عمه طاغية سيراكوزا في الدفاع عن مدينته ضد الرومان سنة 212 ق. م. ويرى أن هناك نوعين من الحروب دائما: الحروب التي تكون الخسارة فيها كارثية وتلك التي تكون الخسارة فيها هزيمة فحسب. ويقول إننا لسوء الحظ ندخل عصرا ستكون فيه الحروب من النوع الذي تكون فيه الخسارة كارثية. ويشدد على ضرورة الالتزام بالقانون والتخفف من الرغبة بالهيمنة على الآخر.
بإسقاط الحالة عربيّا، وبشكل خاصّ بعد الثورات، يلاحظ المتابع أنّه تنامى نوع آخر من الغياب والتغييب، تفاقم غياب الأثر وتغييب التأثير، ويشتمل ذلك على عوامل ذاتية لا تقلّ تأثيرا عن العوامل الموضوعيّة، فهذا روائيّ واهم انقاد لغرور الأنا المتورّمة يصف نفسه أنّه “إله السرد”، ويصفّق له بعض الملتفّين في شلل جوفاء من حوله في تبادل للتصفيق والتمادح، وذاك فنّان يفترض به أنّه ثوريّ، يعيد تمجيد طاغية مقبور، متوهّما أنّه كان المخلّص والمنقذ. وهنا وهناك تتعاظم الممارسات التي تخدم الأفراد لا الثورات والشعوب، فيكون نأي الأديب بنفسه نعيا لنفسه، ودورانا في حلقة التيه السابقة.
العرب