* يقظان مصطفى
من أين جاءت هاتيك الرائحة؟ أمن زهرة ياسمين أم فل؟ أم من عشبة غار ورائحة طل؟! أهي الكيمياء تنافس الفيزياء فتخترق الزمن بتركيبة تسمى عطراً؟! وكيف للرائحة المتهادية في الأجواء أن تُحبس في زجاجة كأنها مارد المصباح؟!
البخور كان أول أشكال العطر، اكتشفه قدماء العراقيين في حضارة ما بين النهرين، وعرف عنهم فرك أجسامهم بسائل معطر يصنعونه من نقع الأخشاب العطرية في خليط من الماء والزيت.. ووصلت العناية بالعطر حد الهوس في الحضارة الرومانية بتعطير الأرضيات والجدران والخيول، والكلاب.. واستخدام النوافير التي تخرج الماء المعطر في الحفلات.
لكن يسجل التاريخ للعرب الريادة في الاشتغال بالعطر؛ بحثاً وتجريباً وصناعةً، لدرجة أن تلك المعلومات والتفاصيل المتعلقة بأوصاف العطور، ومراكز إنتاجها في شبه الجزيرة العربية، استهوت المؤرخين والرحالة اليونان والرومان. ومما ضمّنه هيرودوت في (تاريخه)، أن بلاد العرب كانت تفوح بالعطور والأطياب: المسك والعنبر والعود والصندل.
ووصف الرحالة (أغاترشيد) (100 ق.م) سواحل جنوبي الجزيرة العربية بأنها (عَبِقة برائحة البخور وتبعث في الزائر إحساساً لا يوصف من المتعة وانشراح النفس). كانت سفن العرب تغادر ميناء عدن باتجاه الهند لإحضار البهارات والعطورات والأعشاب الطبية من جزر الشرق الأقصى، ثم تعود أدراجها للقاء القوافل العربية التي تُحَمَّل بالبضائع المستوردة والبخور العربي لتنقله براً إلى ميناء غزة على (طريق البخور)/(طريق الحرير)، ومنها رحلتا الشتاء والصيف اللتان دأبت قريش على القيام بهما سنوياً.. ثم من غزة إلى بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط. لم تكن قائمة البضائع التي يتاجر بها العرب قديماً طويلة، لكنها كانت تشتمل على سلع للرفاهية، مثل: الحرير، والثياب الأرجوانية، والأبنوس، والزعفران وخشب الصندل والقرفة..
أذِن القرن التاسع الميلادي ببدء تجارة واسعة للعطور عبر العالم الإسلامي بعد اتساع رقعة الدولة العربية العباسية، وكثرة مواردها، وتنوع أراضيها، وبعد انتشار حياة الدَّعة والترف؛ فانتشرت أسواقه وكثر صنّاعه، وتعددت أنواعه. صارت مهنة العطارة من المهن الرفيعة التي يمتهنها علية القوم، ويصرفون من وقتهم الثمين مساحة لتركيب عطورات يتفاخرون بتوليفاتها، وأم الخليفة المقتدر صنعت بنفسها ما تتطيب به؛ هذا ما دفع الكيميائيين العرب إلى تطوير آليات أقل تكلفة لإنتاج الكميات الكبيرة من العطور.
ولعل أقدم مصادر استخراج العطور عند العرب وأشهرها (عطر الورد)، وأشهرهُ ورد الطائف، وأزهار الياسمين والبنفسج والفل وزهر الليمون، وخشب الأرز وخشب الصندل، وأوراق النعناع والغرنوق والخزامى، وجذور الزنجبيل والسوسن. ومنذ أكثر من ألف عام، كان العرب أول من استخدم تاج الزهرة لاستخراج ماء الزهور العطري والاستشفائي؛ باستقصار تيجان الأزهار مع الماء، عبر وضع رقائق زجاج في إطارات خشبية تغلف بدهن نقي وتغطى بتيجان الأزهار مكدسة الواحدة فوق الأخرى.. إلى أن يمتص الدهنُ النقي الكميةَ المطلوبة من العطر.
في القرن التاسع الميلادي، كتب فيلسوف العرب والكيميائي (الكندي) كتاب (كيمياء العطور) الذي تضمن أكثر من مئة وصفة للزيوت العطرية والمراهم والمياه العطرية، وأجرى تجارب مكثفة ناجحة لدمج عطور النباتات المختلفة مع مواد وخامات أخرى، باعتماد كيمياء التبلور والتبخير، آخذاً بالحسبان مقاديرها كي يتمكن الجهاز العصبيّ والحسيّ عند البشر من شمّها، وأضاف مواد تثبيت للروائح الأقل والأخف. قسّم الكندي مخطوطه (الترفق في العطر) إلى عشرة أبواب، أورد فيها كيفية تحضير ما يبلغ 109 أنواع من الطيب والعطر، ووصفات لمعدات صنع العطور. وفصّل فيه أهم المركبات من الأعشاب والنباتات والحيوانات والمعادن، وطرق مزجها واستخلاصها.
أما أبو الطب الحديث، ابن سينا، فتوصل لعملية استخراج الزيوت من الزهور عن طريق التقطير بالبخار، كما هو الإجراء الشائع اليوم، للحصول على مستخلص زيتي نقي ومركز ونظيف، وعليه أسس العلماء العرب صناعات متميزة؛ مطورين معدات لاستخلاص العطور والزيوت الفوّاحة المتطايرة من النباتات والورود، مثل (الإنبيق).. ومنها صناعة (عطر الياسمين) وتصنيع الصّابون والشامبو وصبغات الشعر ومستحضرات التّجميل، ومزيلات رائحة العرق، وكريمات ما بعد الحلاقة، وزيوت الاستحمام.
لقد أسهم التفوق العربي في علمي الكيمياء والنبات في تطوير صناعة العطور، وبفضل جابر بن حيّان، تحسنت تقنيات التقطير والتبخير والترشيح إلى حد كبير؛ فحوّل عطور النباتات إلى بخار ثم جمعه في شكل ماء أو زيت.
ونتيجة لارتباط المنطقة العربية بالطيب؛ فقد اشتهرت أسواق كانت تبيعه وتصدره، ومنها (سوق عكاظ، وسوق صنعاء، وسوق هجر لتجارة العنبر ومسك دارين من الهند، وسوق عُمان التي بقي سوقها يقام في موسمه حتى (193ه)، وسوق دبا الذي كان يعد منفذاً للبضائع العربية المتجهة للشرق الأقصى، وعرف بتجارة المسك، والعود، والقسط، والكافور، والزعفران).
وعندما بلغت تجارة العطور أوجها في العصر العباسي، أُنشئت لها أسواق خاصة كانت تسمى (أسواق العطارين)، ومن أشهرها سوق بغداد، وبلغ عدد أصناف العطور والعقاقير التي يستوردها ميناء البصرة (1479) نوعاً.. وسوق العطارين في القاهرة، وسوق الشورجة في بغداد، وسوق بيروت، وسوق العطارين في البزورية في دمشق، وسوق العطارين في القدس.
ويذكر أن الخليفة العباسي المقتدر بالله، كان مسرفاً في اقتناء النفائس، وكان يملك خزائن من (الغالية) المعتق شديد التركيز. وفي عصر ازدهار الحضارة العربية الإسلامية في بلاد الأندلس؛ زمن تمجيد الحياة الطبيعية والحب والغناء والورد، رشّوا العطور في بيوتهم وقصورهم: عطر للصباح وعطر لما بعد الظهيرة وعطر للمساء والسهرة، ولم يكن هذا ترفاً بقدر ما كان أناقة في الذوق واحتفالاً بجماليات الحياة، وتهذيباً للعقل من خلال تهذيب حاسة الشم.
أدّى انتشار تركيب العطور إلى ازدهار صناعة القوارير والمباخر في كل من سوريا ومصر، وبلغت أوجها في الفترتين الأيوبية والمملوكية، فكانت قناني العطر تصنع من البلور الرقيق والشفاف وتزخرف بالذهب والميناء مصوِّرة طيوراً وزهوراً عليها.
في الحضارة العربية الإسلامية لم يترك الصانع الكيميائي العربي شاردة ولا واردة تتعلق بالأطياب إلا و درسها درساً عميقاً، وأفرد لها مساحات كبيرة في مؤلفاته الكيميائية والنباتية، ليتم تركيبها بالزيوت الطبيعية الأصلية.. ويعترف المستشرق (رينالدي) بأنه قد انتقلت إلى الأوروبيين أعشاب ونباتات طبية وعطرية كثيرة، وذكر (ليكرك) منها ما يزيد على الثمانين، بعضها مايزال بلفظه العربي.
ورثت أوروبا أغلب طرقها في استخلاص العطور عن العرب بعدما وصلها عن طريق فينيسيا الإيطالية؛ فخلال عصور النهضة، كانت العربة الملكية للملك لويس الخامس عشر تدهن كل صباح بالعطور، وأثاثه يدهن يومياً بالعطور، وملابسه تظل داخل إناء العطور لعدة أيام. أما نابوليون بونابرت؛ فقد استخدم (60) زجاجة من عطر الياسمين المركز كل شهر، وفضّل المسك العربي الأصيل. وفي إنجلترا أدخل هنري الثامن والملكة إليزابيث الأولى صناعة العطور إلى بلدهما.
تسجل لوحة (صانع العطر) التي رسمها المستشرق النمساوي رودلف أرنست، استخلاص الزيت العطري من الورد الجوري، وفيها يجلس صانع العطر المغربي ليراقب مرحلة من مراحل صناعته بيدي فتاتين بجمال الورد. أما رواية (العطر) للروائي باتريك زوسكيند؛ فتظهر فلسفة مثيرة للرائحة: مدارات وأفلاك كتلك التي تحيط بنا في الفضاءات! كما جعلت رائحة المرأة في فيلم (عطر امرأة)، الأعمى آل باتشينو شخصاً يبصر بالأنف وتدله الرائحة.
- عن مجلة الشارقة الثقافية