*إبراهيم منصور
محمود قرني شاعر مصري، كاتب مقال، دارس للقانون، هو مقاتل من نوع خاص، وحربه التي يخوضها حرب دفاعية، مشروعة، يدافع فيها عن الشعر، عن شعره هو، والشعر الذي يكتبه زملاؤه من مصر وسائر أقطار العرب، فلو رأيته يتحدث في التليفزون، ويستخدم لغة الجسد بكفاءة، يريد أن يقنع المشاهد بالحجة والبرهان أن قصيدة النثر ليست ذنبًا، وليست ابنة للحرام الأدبي والفني، فإذا كتب قرني مقالًا في الموضوع أو تحدث إلى صحيفة أو مجلة، عاد ليشحذ أسلحته ومضى ينافح عن الشعر، وعن «القصيدة» التي تسمى -ويا للعجب- «قصيدة النثر» فتحمل وزرها بين جنبيها، وتمضي في الحياة منكّسة الرأس.
هذا النضال لصالح قصيدته، وضد مناوئيها، جعل محمود قرني يضع نصًّا في مجموعته الشعرية «تفضل.. هنا مبغى الشعراء» (صدر في القاهرة عن دار شرقيات ٢٠١٥م) وفيه يقول: «وقفَ أبناءُ الفلاحين/ أمامَ الواجهاتِ اللاّمعة/ تتقَدّمهم قصائِدُهُم».
يساعدنا العنوان العام للنص في فهم عبارة أبناء الفلاحين، هؤلاء الذين وقفوا في خجل يعرضون شعرهم على أبناء المدينة، خارج مكان العرض الرسمي، حيث الواجهات اللامعة، فهؤلاء الشعراء الذين يبيعون بضاعة مزجاة، جاؤوا من الأطراف إلى المركز، ينشدون الاعتراف بشعرهم، وكان ذلك في العامين ٢٠٠٩م و٢٠١٠م على التوالي، هنا يسخر الشاعر من قدرة الثقافة العربية على النفي والإبعاد، فهناك ثقافة رسمية وثقافة شعبية، أما الثقافة الرسمية نفسها، فقد اختارت الشعر الذي تعرفه، وهو الشعر العمودي وشعر التفعيلة، أما غير ذلك فلا.
* * *
عشرة دواوين أصدرها الشاعر محمود قرني (مواليد عام ١٩٦١م) صدر آخرها بعنوان «ترنيمة إلى أسماء بنت عيسى الدمشقي» (دار الأدهم ٢٠١٩م) وقد أهداه الشاعر إلى روح أمجد ناصر وخيري منصور، وهما شاعران من شعراء قصيدة النثر.
حينما ندلف إلى ديوان «ترنيمة إلى أسماء…» من بابه الواسع الكبير وهو العنوان، أو العتبة الأولى كما أسماها الناقد الفرنسي «جيرار جينيت» نجد أنفسنا أمام عبارة من ثلاثة مقاطع هي: ترنيمة، وأسماء بنت عيسى، والدمشقي، تربط بين الترنيمة واسم المرأة أداة هي حرف الجر «إلى» أي أن الشاعر يقدم الترنيمة (الأغنية – القصيدة -النغمة الموسيقية) إلى تلك المرأة، ثم يجعل لقبها نسبة إلى مدينة دمشق، واحدة من أقدم المدن العربية، لكنها في الوقت الحاضر تئنّ وتتوجع، لا تترنم، بل تنشج بكاء مرًّا مميتًا، وهي لا تغني، «فلا يكون الغناء إلا على المسرّة»؟ كما قال الشّنفَرى بحق!
المرأة نفسها، أسماء بنت عيسى، من صنع التخييل، هذا ما تدلنا عليه العتبة الثالثة في النص، فبعد العنوان والإهداء، هناك ١١ هامشًا وضعها الشاعر في نهاية نص الديوان، وفي الهامش رقم ٧ يوضح الشاعر أن أسماء بنت عيسى الدمشقي «شخصية متخيّلة…. تمثيلًا لنماذج نسائية عشقها حلمي سالم في إقباله الكبير على الحياة». لكن لماذا حلمي سالم؟
حلمي سالم (١٩٥١- ٢٠١٢م) أسبق من محمود قرني، وقد ميزه عن سائر شعراء جيله، غزارة الإنتاج الشعري من ناحية، والدفاع عن الشعر من ناحية ثانية، والكتابة في أشكال متعددة من الشعر، من ناحية ثالثة. وفي قصيدة «تسَلُّخات صَيْفِيّة» وهي الثالثة في هذا الديوان، إحياء للمعنى الذي يمثله حلمي سالم: بالأمسِ قابلتُ «حلمي سالم» /كان يرتدي عباءةً من الخَزّ/ معبّقة بالمسْكِ والطّنَافس/ قابلتهُ بصُحْبةِ امرأة غريبة/ قال إنّ اسمها «أسماءُ بنت عيسى الدِّمَشقيّ».
لا يعطي حلمي سالم اسمًا لتلك المرأة وحدها، لكن للديوان كله، والشاعر محمود قرني، يحمل هَمّ الدفاع عن الشاعر حلمي سالم، في دار الحق، حيث «ماعت» رمز العدالة عند قدماء المصريين، وماعت غير مذكورة في القصيدة، لكن المحاكمة تبدأ دائمًا، هناك، وفي كل محاكمة عادلة، بذكر الوقائع، وقد عاد المحامي إلى واقعة من أهم الوقائع التي مر بها حلمي سالم في أخريات أيامه في دار الفناء، حيث تعرض لمصادرة نصه «شرفة ليلى مراد» وقضت إحدى المحاكم، بسحب جائزة الدولة منه بعد اتهامه بالمروق، وحينما يظهر حلمي سالم، في الحلم، أو في المقابلة، أي في تلك المحاكمة، نراه يحمل بين جنبيه، ذلك الحكم «بمسوّدَته :«أسلاكٌ طويلةٌ يخفيها تحتَ قميصهِ/ أحماضٌ لقروحِ الفِراش / وتخطيطاتٌ سوداء/ لقضاةٍ قالوا/ إنّ قصائدَهُ حَقْلٌ من العِنَبِ المسْمُوم».
هذه التخطيطات، الموصوفة بالسواد، معنى لا شكلًا، هي نص الحكم الذي أصدره القضاة ضد قصيدة حلمي سالم بمصادرتها، ثم ضد الشاعر نفسه بسحب الجائزة منه، وفي المقابلة – المحاكمة، يضحك حلمي سالم وتضحك أسماء، وتقول له: «إنّ اللهَ طالبُكَ لا محالة»، وهو يرى أن إنكار الشعر مخالف للشرع، محاججًا «لكن صوت الشعراء ورد في الصحيحين» والصحيحان لفظ لا يعني كتابي البخاري ومسلم، بل يعني صحيح الدين، إذا أعطينا للعقل مساحة يتحاور فيها مع الشرع.
* * *
الشعراء، في ديوان «ترنيمة إلى أسماء..» قبيلة واحدة، ذات لهجة واحدة، تخالف لغة النحويين، ولو كانوا من نحاة «مدرسة البصرة» العتيدة، مثل الأخفش، وهم قد يخالفون، كذلك، الخليل بن أحمد صاحب البحور الشعرية، لا ترى تلك القبيلة ثمة تمايزًا أو اختلافًا بين امرئ القيس والفرزدق وجرير ومحمود درويش وبرتولد بريخت وأبي الطيب المتنبي، كلهم ورثوا القصيدة وورّثوها كابرًا عن كابر، فالشعراء دائمًا ينحازون، لا يترددون في الانحياز، في كل المعارك، قديمها وحديثها، في البصرة ودمشق، وفي الصحراء، أو في بلاد الجليد، ففي قصيدة «وجوه البصرة» : «الملالي» يرفعون الأذان/ والشعراء يفسّرون أحلامَ الطّالبييّن/ ويعيدونَ تدْوينَ مَقَاتلِهِم». معركة الشعراء مع رجال الدين «الملالي»، ومع النقاد منذ «ابن سلام» أقدم ناقد عربي حاول تصنيف الشعراء في طبقات، ومع رجال السياسة حين يتاجرون بدم الشهداء (الطالبيين).
* * *
ثم نقف أخيرًا عند النص المعنون «ماذا تَرَكْنا؟»، والسؤال المجمل الوارد في العنوان مفصّل في القصيدة إلى ستة أسئلة فرعية عن كل من: العاشقة، والعاشق، والفلاح، والعواصم، والقائد، ثم أخيرًا الشاعر.
الأسئلة الخمسة الأولى، عن التركة أي الأثر، الذي يمكن تتبعه خلف كل منهم حين يمضي، مع اختلاف الحقل الدلالي لــ«العواصم» عن كل من العاشق والعاشقة والفلاح، أما
كلام القصيدة عن تركة الشاعر فهو الأهم: «ما الذي تركَ الشاعرُ؟/ ترك نظّارَته ملطّخةً/ ببقايا المجاز/ وقُفّازا يحرسُهُ/ وهو يصعدُ سُّم الإمارَة”. الشاعر في هذا العالم الرأسمالي لن يترك شيئًا ذا بال، وهو لم يترك شيئًا منذ أن كان الشعر، حاول المتنبي أن يأخذ إمارة ، ربما كان سيورّثُها، لكننا نعلم أنه لم يحصل عليها أبدًا، دعونا نتعرّف إلى بقية التركة: ثم قال :طالما أنّ القَبْرَ / سيكونُ مزوّدًا بالأوراقِ والأقلام/ والمزيد من التبغِ والنساء/ فكلُّ ما تقولون/ لا يُغْني شيئًا».
هذا القسم من إجابة الشاعر عن تركته، مأخوذ من محمود درويش، فهو تداخُلٌ نصّيّ (تناصّ) مع عمله البديع «جدارِيّة» حيث كان يخاطب الموت، ويرجوه أن يسمح له باصطحاب الكتب، والمتع الصغيرة، مثل التبغ، معه إلى القبر. وهكذا يحتمي محمود قرني بقبيلته، قبيلة الشعراء، يأخذ منهم المدد لمعانيه وأنسجة نصوصه، ثم هو ينافح عنهم، وعن الشعر، عملًا بحق تلك القبيلة، أمه الرؤوم، هذا هو المنبع، ثم هذه هي التركة، هي الإرث، حقًّا، فهذا ما تركه الشّاعرُ للشّاعرِ، وهو عين ما تركه الشاعر للقارئ أيضًا.
- عن مجلة الفيصل