في وقتٍ مُبكِّر من تفشّي جَائِحة كورونا، تمَّ تداول سؤال في مجتمع الكِتابة مفاده أنّ شكسبير ألَّفَ «الملك لير» أثناء الحَجْر الصحيّ زمن الطاعون الدبلي. ما لم يتطرَّق له السؤال، والذي يمكن أن يكون أكثر فائدةً للكُتَّاب، كيف تغيَّر مجتمع المسرح بينما كان شكسبير في الحَجْر الصحيّ؟ هل خرج رواد المسرح من الحَجْر المنزليّ في القرن السابع عشر متعطشين للترفيه؟ هل أقبلوا على الأعمال الترفيهيّة أم الجادة بعد أشهر من التحديق في جدران منازلهم؟ وهل ابتعدوا عن مسرحيّات الطاعون؟
بينما تستعد الشعوبُ للخروج مرةً أخرى من الحَجْر الصحيّ، سيواجه مجتمع النشر أسئلةً كثيرةً من هذا النوع، رغم تكيُّفها تماشياً مع مقتضيات عصرنا. سيترك الوباء تأثيراتٍ دائمة على المُؤلِّفين والمُحرِّرين، والوكلاء والقُرَّاء. بأي شكلٍ سيظهرون؟
… بعد التحدُّث مع أشخاصٍ من جميع الجهاتِ في هذه المسألة، أمكن لنا معرفة بعض التوقُّعات.
رواية الوباء العظيم غير مطروحة
هناك حقيقةٌ معلومة في عَالَم النشر: تزدهر مبيعات الرومانسيّة خلال الأوقاتِ الصعبة. عندما يكون البقاءُ غير مؤكَّد، يلجأ معظم الناس إلى أي شيء يمكن أن يصرف انتباههم عن الكارثة، ويبعد عنهم ذكراها السيئة في حياتهم. والسؤال هو كَمّ من الوقت يحتاج الناس للبقاء بعيداً عن الواقع؟ هل يمكن أن تزدهر الكُتب الوبائيّة على المدى القريب؟ أم أننا على بُعد عقدٍ من ظهور كتابات أدبيّة عن الجَائِحة الراهنة؟
لكن التاريخ يرجِّح هذا الاحتمال الأخير. أفضل الكُتب عن حرب العراق، وإعصار كاترينا، وأحداث 9/11 – وجميع الأحداث الثقافيّة التي ميَّزت العشرين سنة الماضية- قد ظهرت بعد سنواتٍ من تلك الأحداث. يحتاج الناس إلى مساحةٍ للفهم، ووقتٍ للمُعالجة، ولا يقتصر هذا الحدث على يومٍ أو أسبوع. تستمر عواقب الوباء في الظهور بعد أشهرٍ من اكتشاف الفيروس. وغالبية الناس لا يفضلون في الوقت الحالي قراءة القصص الخياليّة أو الواقعيّة التي تُركِّز على (كوفيد – 19).
وهناك أدلةٌ قصصيّة تؤكِّد ذلك. تقول آن بوغل، التي تستضيف بودكاست الكُتَّاب بعنوان «ما يجب أن أقرأه لاحقاً؟» إنّ معظم القُرَّاء الذين تحدَّثت معهم يريدون الترفيه المُمتع. «يرغب مجتمعنا في قراءة الكُتب التي تبعدنا عن الواقع، والمُناسِبة لفتراتِ اهتمامنا الجماعيّ، سواء القصيرة أو الآنية. نحن نريد كُتباً لا تتطلَّب الكثير من الجهد الذهنيّ».
ربَّما لا يرغب الأشخاصُ الذين يواجهون الموتَ، والصعوباتِ الماليّة، وانعدام الأمن الوظيفيّ على أرض الواقع في قراءة تلك المواضيع في الروايات. تقول سيندي هوانج، نائبة رئيس مجموعة بيركلي للنشر ومديرة التحرير: «معظم الأشخاص يرغبون في قراءة مواضيع تنسيهم تفاصيل الحياة من حولهم». «الكثير من الناس يبحثون عن شيءٍ ما، ولو لبضع ساعات، يخفِّف عنهم وطأة ظروفهم الصعبة».
الكاتِبة مورجان بادن ليست استثناءً. «في الوقت الحالي أفضّل أن لا أكتب أو أقرأ (أو أشاهد أو أسمع) أي شيءٍ عن الأوبئة ووضعيّات الإغلاق والتباعد الاجتماعيّ. «أريد أن أهرب»، تقول بادن، بعد أن أجبرت على الحَجْر الصحيّ مع ابنتها البالغة من العمر 5 سنوات، وابنها البالغ من العمر 3 سنوات، وزوجها، عندما كانت بصدد الانتهاء من تأليف كتاب مدرسي. «أستمتع بشيء خفيف وسحري مع كتاباتي الآن، وحتى خياراتي في القراءة بدأت تميل نحو القراءات الشاطئيّة والسَّحرة. أظن أن العديد من القُرَّاء يعيشون التجربة نفسها، لذلك لن أتفاجأ بالإصدارات العديدة في السنتين أو الثلاث سنوات القادمة التي تميل كثيراً للفكاهة والمرح».
لدى بعض الكُتَّاب رغبةٌ للكِتابة عن الوباء
الكُتَّاب جزءٌ من هذه البشريّة. هم في الغالب يريدون تناول الكربوهيدرات، والإفراط في مشاهدة (نتفليكس)، وتطهير البقالة أثناء الحَجْر الصحيّ، لكنهم في النهاية، شعروا بهذا الميل. والكُتَّاب يعالجون القضايا باستخدام كلماتنا.
تساعدنا الرمزيّة والقياس والاستعارة على فهم ما يربكنا. في ذاكرتنا الحديثة، لم تظهر مشكلة وطنيّة محيّرة وأكثر إلحاحاً أو إحباطاً من الوباء.
تُفكِّر أدريانا هيريرا في الكتابة عن مشاكل الحياة الواقعيّة الضرورية للتحضير لمسلسلها الرومانسيّ Dreamers. وتقول إنها ستتطرَّق على الأرجح للفيروس التاجيّ في إحدى كتاباتها المستقبليّة: «أعيش في مدينة نيويورك، وكان تأثير (كوفيد – 19) هنا عميقاً جدّاً، وقد يُجبرني على الكِتابة عن بعض جوانب الجَائِحة في مرحلةٍ ما». «أميل إلى استكشاف مواضيع مثل العدالة الاجتماعيّة وتأثير أنظمة القمع على المُهمَّشين، والتأثير المُدمِّر وواسع النطاق الذي أحدثه هذا الفيروس على الأسر ذات الدخل المُنخفض».
الكُتَّاب الذين يكتبون حكايات وتجارب تتعلَّق صراحةً بالعام 2020 يجب أن يقرِّروا ما إذا كانوا سيتطرَّقون لتفشِّي المرض في مواضيعهم. تعمل ميريديث تالوسان، التي أصدرت مذكراتها مؤخَّراً في مايو/أيار، على رواية تدور أحداثها في صيف عام 2021. أدركت أثناء الحَجْر الصحيّ أنه يجب أن تعيد صياغة أجزاء من الكِتاب: «الفصل الأول يدور حول حفل عشاء يُقام في يونيو 2021». «لقد بدأت بالفعل في إجراء بعض المُراجعات، مع تدوين المُلاحظات لنفسي حول ما قد يكون مختلفاً في ذلك الوقت».
كيفين بيغلي، مؤلِّف رواية «كومافيل» Comaville، يُراوح بين سنوات 1850 إلى 1980 و2020 في روايته الثانية، التي هي الآن قيد التنفيذ. قبل بضعة أشهر، بدأ في كتابة قسم 2020، لكنه يشعر بعدم التأكُّد من كيفيّة المُتابعة. «إذا بدأت بكتابة القصّة الآن، فمَنْ سيقول بأن القصّة ستستمر حتى يوليو؟». «أعمل إلى حَدٍّ ما على تأجيل قراري لبعض الوقت للتريُّث وتوضيح الرؤية. أو ربَّما سأقوم بإعادة الأحداث إلى 2019 بدلاً من ذلك. أنا أوازن بين جميع هذه الخيارات».
ويتوقّع المُحرِّرون أن يؤثّر الوضعُ الحالي على التقديمات المُتوقَّعة. تقول ديان موغي، نائبة رئيس التحرير في «Harlequin»: «في الرومانسيّة، على سبيل المثال، أتوقَّع أننا سنشهد زيادةً في مقترحات المخطوطات التي ستتضمَّن عناصر من أدب المدينة الفاسدة، وأخرى تنطوي على القُرب القسري. أن تكون محاطاً بالثلوج في مقصورة، كمثال، كان دائماً مُغامَرة رومانسيّة شعبيّة». «أنا متأكّدة من أن العديد من المُؤلِّفين يعملون الآن على قصصٍ عن بطلة يتمُّ عزلها مع رجل – عدوها اللدود. أتوقَّع أننا سنرى أيضاً المزيد من الأبطال والبطلات الواقعيّين- العاملين في مجال الرعاية الصحيّة والشرطة، وما إلى ذلك- يصبحون رواداً في الرومانسيّة مستقبلاً».
تسويق الكتب سوف يكون على أكتاف المُؤلِّفين بالأساس
حتى قبل الوباء، يقوم معظم المُؤلِّفين بتسويق كتبهم بأنفسهم. لقد مرَّت سنوات وسنوات منذ أن عرض الناشرون خدماتهم على أي شخصٍ باستثناء كبار الكُتَّاب أصحاب أعلى المبيعات.
كان لدى بوغل مواعيد لجولة مقرَّرة في جميع أنحاء البلاد خلال فصل الربيع للترويج لكتابها الثالث الذي تمَّ إصداره مؤخَّراً، (لا تفكِّر فيه كثيراً). بعد أن وصلت إلى كونيتيكت ونيويورك في أوائل مارس، اضطرت لإلغاء الجولة.
ثم جاءت فكرة الانطلاق: تواصلت مع مؤلِّفين آخرين عبر مجموعة من الأعمال بهدف الترويج لجولة كتاب بعنوان «ألزموا منازلكم»، سلسلة من الأحداث التي استضافتها في أواخر مارس/آذار وأوائل أبريل/نيسان عن طريق مؤتمرات الفيديو، تسمح للقُرَّاء والمُعجبين بتسجيل دخولهم للمنصة في وقتٍ محدَّد والاستماع للمُؤلِّفين بصدد مناقشة أعمالهم.
تقول بوغل، التي روَّجت للجولة في مدونة أسلوب حياتها الثرية بالكتب، Modern MrsDarcy.com: «ما كنا نحاول القيام به من خلال جولة الكِتاب «ألزموا منازلكم» كان استنساخاً قدر الإمكان لتجربة الذهاب إلى حدثٍ مجانيّ في المكتبة المحليّة المُستقلّة». «أعتقد أنه قد يكون من المُحبط حقّاً أن يتمَّ سحب وسيلة رئيسيّة للترويج من بين يديك. إنها طريقة سهلة للتواصل مع القُرَّاء وفي غاية الأهمّيّة للمبيعات، وللمعنويّات أيضاً».
لقد سارت الأمور بشكلٍ جيّد لدرجة أن بوغل تنوي القيام بجولات كُتبٍ افتراضيّة إضافيّة في المستقبل. قد يشعر الناشرون أن مثل هذه الخيارات (التي لا تتطلَّب جهداً أو مالاً) قد تكون مناسبةً، ويمكن اعتمادُها بعد الوباء أيضاً.
التقديمات الإجماليّة يمكن أن ترتفع
بغض النظر عن مزحة «الملك لير»، فإن الوباء منح بعض الكُتَّاب الوقت الذي سلبته منهم مشاغل الحياة «العادية». على سبيل المثال، أولئك الذين ربما قضوا ليلة الأربعاء، لنَقُلْ، في مشاهدة مباراة كرة قدم للأطفال أو حضور اجتماع في الكنيسة، قد حصلوا من حيث لا يعلمون على ساعاتٍ إضافيّة للكتابة. يتوقّع المُحرِّرون أن يؤدّي ذلك إلى ارتفاع في نسبة التقديمات. تقول ديان موغي: «من المُؤكَّد أننا سنشهد زيادةً في أعداد الطلبات، لأنَّ الكُتَّاب الذين لديهم أوقات فراغٍ أطول سيجدون الوقتَ للانتهاء من الكُتب التي تحدَّثوا عنها طويلاً».
ومع ذلك، لن يستفيد جميع الكُتَّاب من أوقاتِ الحَجْر الصحيّ للكِتابة. الكِتابة ليست وظيفة بدوامٍ كامل لمعظم هؤلاء الكُتَّاب. قد تجعل الظروف الطارئة على غرار تسريحات العُمَّال المُؤقّتة والإجازات وتحديّات رعاية الأطفال من تخصيص أوقاتهم بالكامل للانتهاء من أعمالهم قيد الكتابة أمراً مستحيلاً.
وبطبيعة الحال، لدينا مشاكل صحيّة خطيرة يجب التعامل معها أيضاً. هذا ما حدث مع الكاتِبة والمُحرِّرة المُستقلّة باربرا إيفرز ودفعها لتأجيل روايتها بعد أن التقت هي وحفيداها اللذان تربيهما مع طبيبٍ مُصاب (بكوفيد – 19) في مارس/آذار الماضي. أجبرت على الالتزام بالحَجْر الصحيّ لمدة 14 يوماً. تقول إيفرز: «استنزف هذان الأسبوعان كلّ جهدي وأنا أحاول توعية الطفلين بضرورة الحذر أكثر». «كان ذلك صعباً منذ البداية، لكنه ازداد سوءاً بعد ذلك. خلال تلك الفترة، لم أنجز أي عمل من أي نوعٍ كان، وكنت أخلد إلى الفراش مرهقةً كلّ ليلة».
قد يلجأ بعض المُؤلِّفين للكتابة استجابةً للضغوط الهائلة بسبب الوباء. تقول موغي: «أعلم أنه من الصعب على المُؤلِّفين تجاهل الأحداث التي تدور في العالم من حولهم». «في الواقع، سيحوِّل بعضهم تلك الأحداث إلى مصدر للإلهام، وأنا أعلم أيضاً أن العديد من مؤلِّفينا سيشعرون بالراحة طالما أنهم يُؤلِّفون كُتباً تهدف بالأساس لاستكشاف الرحلة إلى نهاية سعيدة – بكشف الجوانب الإيجابيّة في الحياة».
متاجر الكُتب ستتغيَّر، لكننا لا نعرف كيف؟!
هناك ثلاثة عوامل رئيسيّة أثّرت على بائعي الكُتب خلال جَائِحة كورونا:
1. لم يتمكّن الناس من مغادرة منازلهم للذهاب إلى المكتبات.
2. الحَجْر الصحيّ أجبر المتاجر على الإغلاق لضرورة التباعُد الاجتماعيّ.
3. أدّى الارتفاع الكبير في البطالة إلى انخفاض عدد المُشتريات الاختياريّة، مثل الكُتب.
وقد استجاب باعة الكُتب بطرقٍ ذكيّة لجمع الأموال وجذب العملاء. أطلقت ما لا يقل عن عشرين مكتبة لبيع الكُتب حملاتٍ GoFundMe لجمع الأموال بهدف تغطية نفقات الإيجار، والمرافق، والرواتب. واستخدم باعة كُتب آخرون وسائل التواصل الاجتماعيّ لطلب الدعم بالتشجيع على الشراء عبر الإنترنت. وطوَّر الكثيرون أفكاراً جديدة لبيع الروايات في الوقت الذي نكافح فيه الفيروس المُستجَد. عقدت Midtown Scholar، المكتبة المُستقلّة بهاريسبورغ، بنسلفانيا، سلسلةً من محادثات المُؤلِّف الافتراضيّة بدلاً من المُحادثات الشخصيّة. واستضافت MahoganyBooks في واشنطن العاصمة أندية كُتب افتراضيّة على منصة Facebook Live. «نحن نبذل قصارى جهدنا لدعم باعة الكُتب خلال هذه الفترة، بما في ذلك تذكير القُرَّاء بإمكانية الوصول إلى الكُتب الإلكترونيّة، وسهولة التسليم إلى المنزل»، كما تؤكِّد موغي. وتضيف «إن ما يخبئه المُستقبل لمحلات بيع الكُتب يعتمد إلى حدٍّ كبير على مدى سرعة عودة الحياة إلى (وضعها الطبيعي)».
وتقول هوانج: «بصراحة، نأمل أن تتمكَّن الكثير من المتاجر من العودة بعد أن أغلق جلّها». «إنه فظيع حقّاً. ونأمل أن تستمر الكثير من المكتبات في الحصول على تمويل أيضاً، بمجرَّد إعادة فتح كلّ شيء. أشعر أنه من السابق لأوانه معرفة ذلك، لكنني أرى الكثير من الناس يتجهون إلى الكُتب الإلكترونيّة، لأنهم لا يقلقون بشأن التسليم». وقد يصبح ذلك أيضاً إرثاً دائماً للوباء.
حالة عدم اليقين، والخوف، والأمل – كلّها أجزاءٌ من قصّةٍ مثيرة، ولكن بالنسبة للنشر الوبائيّ، النهاية لم تكتمل بعد.
توني فيتزجيرالد:المصدر: The Writer، يونيو 2020
- عن الدوحة الثقافية