الكتب في حياة كولن ويلسون(5)

 

*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

 

فصول مترجمة من كتاب ( الكتب في حياتي ) للكاتب – الفيلسوف

                                 كولن ويلسون

                                 القسم الخامس

 

                                   توم سوير

 

 

     عندما كنتُ في الحادية عشرة وُزّعت علينا في درس الأدب نسخٌ من رواية ( توم سوير ) ، ولما كنت على الدوام معتاداً على قراءة أيّ كتاب تطاله يدايّ فقد أخذت الرواية معي إلى المنزل في اليوم ذاته ، ولم أطق الإنتظار حتى وصولي للبيت فمضيت أقرأ فيها وأنا في الحافلة التي تقلّني إلى المنزل كالعادة ، وقد ذهلتُ منذ الصفحة الأولى من الرواية التي تملّكتني تماماً بعد أن قرأت بشأن العمة بولي التي أمسكت توم وهو يسرق المربى من موضع حفظ الأغذية : فقد كنت أنا وأمي لانفوّت أية فرصة متاحة للإغارة على موضع حفظ الأغذية في المنزل ، ولكننا – بخلاف توم – لم نكن نبحث عن المربى بل عن مادة لزجة حلوة المذاق تدعى ” الحليب المكثّف ” !! .

     برغم إنشدادي المفرط إلى الرواية فإن الفصلين الاولين منها لم يكونا مختلفين عن أية حكاية عادية للأطفال ، ولكن إختلف الأمر تماماً بعد ظهور ( بيكي تاتشر ) في الفصل الثالث من الرواية وعندها أدركت أن الرواية كانت أبعد ماتكون عن روايات الأطفال التي إعتدناها آنذاك ؛ إذ لم تكن الروايات السابقة تأتي على ذكر الفتيات أبداُ برغم إدراكي منذ أيام دار الحضانة التمهيدية للمدرسة أن الفتيات كنّ دوماّ مصدر سحر وفتنة وجاذبية . لم تكن لدي أخوات في المنزل لذا وجدت الفتيات مخلوقات غريبة تكتنفها الأحجيات ، ولكن عندما كنت في السادسة حصل أن جلست يوماً بجوار فتاة تدعى ( هازيل ) فوجدتها كائناً لذيذاً ورقيقاً ، ومن الطبيعي أنني لم أتعمّد الإتيان بأية علامة تميل لكبح جماح شغفي والإعلان عن توقي للفتيات وذلك لإفتقادي إلى اية فكرة ( حتى لو كانت ضئيلة للغاية ) حول كيفية إنجاز ذلك الأمر ، ولكن في السنوات اللاحقة وقعت في حبّ طابور طويل من الفتيات – عقدت مرّة أنا وزميلٌ لي مقارنة لسلسلة الفتيات التي أحبها كل منّا وإكتشفنا الواحد منّا أحبّ مالايقلّ عن عشر فتيات من زميلاتنا اللواتي شاركننا الصف المدرسي ذاته .

     عندما كنت أذهب لمشاهدة الأفلام الرومانتيكية كان الحسد تجاه الكبار يملأ جوانحي لمعرفتي أن الحب والرومانسية الرقيقة لهما مكانتهما المقبولة المعترف بها في عالم الكبار الناضجين فحسب ، وكنت أحسب نفسي لائقاً تماماً وجاهز التحضيرات لإتمام خطبتي من فتاة ما وأنا لم أتجاوز السابعة بعد ولطالما حلمت أحلام يقظة أنقذ فيها فتاة أحلامي من أيدي الهنود الحمر المغيرين على منزلها ، وعلى الرغم من أنني كنت أنغمر في حكاية حب جديدة كل أسبوع تقريباً غير أنني لم أعثر على فتاة صديقة لي إلا بعد أن بلغت حوالي العاشرة أو الحادية عشرة ؛ إذ علمت حينها أنني كنت موضع حبّ وإعجاب – ولو من بعيد –  من جانب فتاة تدعى ( بيتي كيمب ) ، ولم نفعل أنا وهي شيئاً سوى اللعب معاً بصحبة الأطفال الآخرين ولكن حصل أحياناً أن تبادلنا قبلة خاطفة ونحن نتوارى وراء سياج من الشجيرات . أدركت بعد فترة أن بيتي كانت صغيرة كثيراً بالنسبة ليافع مثلي لذا أنهيت علاقتي معها .

     كان ( مارك توين ) هو الكاتب الأول الذي أفسح مجالاً في أعماله لتناول النزعات الرومانتيكية العنيفة  والمتأصلة التي تعتمل في دواخل كل الصبيان ( وربما الصبايا أيضاً ) :

     ” بينما كان يجتاز المنزل الذي يقطنه ( جيف تاتشر ) لمح فتاة لم يرها من قبل في الحديقة –  مخلوقة صغيرة جميلة القسمات زرقاء العينين ذات شعر أصفر مضفور على هيئة جديلتين طويلتين . وقع البطل المتوّج حديثاً من غير أن تصيبه أية إطلاقة بعدما غادرت ( آمي لورنس ) قلبه وتركته وحيداً يتلظى في حين لم تترك هي وراءها أية ذكرى تذكّره بها بعدما ظن طويلاً أنه أحبها حدّ الوله ( كان قد رأى في شغفه بها نوعاً من عبادة ) ، ولكنها وراء ذلك الستار الكثيف لم تكن سوى ذكرى فقيرة ضئيلة لاتفصِح  إلا عن إنحياز عجول سرعان ماسيزول . لأشهر خلت كان هو الملك المتوّج على عرش قلبها – هذا هو ماإعترفت به على نحو بالغ الصعوبة قبل أسبوع ؛ الأمر الذي جعله الصبيَّ الأسعد والأكثر تفاخراً في العالم ولكن لسبعة أيام قصار فحسب ، وهاهي الآن تغادر قلبه مثل زائر غريب طارئ آذنت زيارته القصيرة بزوال …….. “

     الشيء الوحيد الذي لم أستطع فهمه في تلك الحكاية هو : كيف إستطاعت ( بيكي تاتشر ) إزاحة ( آمي لورنس ) والحلول محلها ؛ فأنا نفسي مثلاً كان لدي متسع في قلبي لدزينة من الفتيات في وقت واحد ، كما بدا زملائي شبيهين بي ، وأظن أن جميع طلبة المدارس هم متعددو الحبيبات على الدوام .

     ” إندفع في عبادة هذا الملاك الجديد بعين ماكرة حتى عرف أنها إكتشفت اللعبة ؛ وحينها تظاهر بعدم علمه بقدومها وبدأ بإستعراض جملةٍ من الألاعيب الصبيانية السخيفة المكشوفة التي يلجأ لها أمثاله في حالة مثل حالته بقصد الفوز بإعجابها . إسترسل في ممارسة حماقاته الغريبة تلك لبعض الوقت ، ولكنه في الوقت الذي كان فيه وسط معمعة أداءٍ رياضي عسير لمح بنظرة جانبية ان الفتاة الصغيرة كان تشق طريقها عبر ممر جانبي عائدة نحو المنزل ….. لكن وجهه توهج بإشراقة لايمكن إخفاؤها : فقد رمت الفتاة بزهرة بنفسج ثلاثية الأوراق عبر الجدار الفاصل في اللحظة التي إختفت فيها عن الأنظار ………………. “

     إن سايكولوجيا الموقف الذي عبّر عنه ذلك المقطع كانت دقيقة وعلى نحو يبعث على الإدهاش وبخاصة من خلال الطريقة التي يقترب فيها توم من زهرة البنفسج حتى يلتقطها آخر الأمر ويضعها بين أصابعه ثم يحتفظ بها في الجيب الداخلي لسترته قريباً من قلبه ، ويصدّق الأمر ذاته على المشهد الذي يهشّم فيه ( سِيد ) – الأخ غير الشقيق لِـ ( توم ) وعاء السكّر مما دفع العمة بولي لصفع توم على وجهه ، وعندما يصرخ توم ” سِيد هو من كسر الوعاء ” تتوقف العمة بولي عن صفعه ويروح ضميرها يؤنبها بقسوة تدفعها للتفكير بالإعتذار لكنها تشعر ان هذا الفعل سيُذهِب ماء وجهها لذا فإنها تقرر آخر الأمر أن لاتقول شيئاً في الوقت الذي ينتحي توم في كرسيه بعيداً ليغرق في إبداء مظاهر الإشفاق على ذاته ويتخيّل نفسه وهو يحتضر والعمة بولي راكعة بجواره تستجدي منه العفو والغفران لكنه يميل بوجهه نحو الطرف البعيد عن العمة بولي ويموت من غير أن يتفوّه بكلمة ، ” … وتنصبّ دموع العمة بولي مثل إنصباب المطر على جسد ذلك المسكين – الصبي اليافع الذي قضى حياته في معاناة رهيبة والذي بلغ كدره وحزنه النهاية الحاسمة بعد أن تمكّن منه الموت ….. ” هكذا فكّر توم ثم مضى في التلذّذ بأحلام يقظته المنعشة ورأى نفسه على حافة نهر يتأمل فيه ويفكر كيف ستتلقّى بيكي تاتشر نبأ موته . عند حلول الليل يتسلل توم إلى حديقة حبيبته ويستلقي تحت نافذتها ويظل ماكثاً هناك حتى تدلق خادمة المنزل دلو ماء فوقه .

     بدا لي آنذاك أن ليس من كاتب فهم مايجول بعقل صبي وبتلك الطريقة المدهشة مثلما فعل كاتب ( توم سوير ) عندما تعامل بتلك الطريقة الساحرة مع الفنتازيات البطولية وأحلام اليقظة لبطله والتي إستحال معها العالم قطعة متوهجة بسوداوية ( ميلانخوليا ) رقيقة وشفافة ، وفي الحقيقة فإن الجاذبية الفاتنة في ( توم سوير ) تكمن في جنوح البطل نحو أحلام اليقظة الممتدة التي تدفع القارئ للشعور بأن ذلك النوع من المغامرات التي أضفت سحراً على شخصية ( توم سوير ) هي ذاتها التي لطالما جالت بخيال ( مارك توين ) وأراد تحقيقها . عندما تمزّق ( بيكي ) وبطريقة عرضية كتاب معلّم المدرسة ويقبل توم أن يتلقى التقريع واللوم بدلاً منها وتكون النتيجة أن يلمح إمارات العرفان والإعجاب في عينيها – حينها يتوق كل صبي قارئ لهذا المقطع ان يتماهى مع توم بل أن يكون توم ذاته ، ويجنح نحو أحلام يقظة رومانتيكية لذيذة يشهد فيها فتاة جميلة بجدائل شقراء مضفورة وهي تتطلّع إليه بعيون شبقية جائعة تشتعل  فيها نيران الرغبة الجامحة ، وفوق هذا فإن ( توين ) يبدو حاضراً لإشباع أحلام اليقظة هذه وتأجيج أوارها أيضاّ : فعندما تهمس بيكي في أذن توم ” أنا … أحبُّ … كَ ” وتسمح له بتقبيل شفتيها فإن الذروة تبلغ تخوماً لذيذة ومشبعة مثل الذروات السائدة في أعمال الروائيين الرومانتيكيين العِظام ، لكنّ تلميذ المدرسة القارئ لهذا العمل يشعر بالنشوة ذاتها التي يشعر بها إزاء مشاهد الذروة عندما يحسب نفسه بطل الرواية في المشهد الذي يطلق فيه توم ( خنفساء ) في الكنيسة متحدياً أجواء الملل السائدة وسط موعظة كنسية مضجرة ؛ فيندفع كلب صغير للجلوس فوق الخنفساء وهو يعوي عواء متواصلاً مع لهاثه ولايبطل عن الحركة في كل الأرجاء وحينها كان القوم يجاهدون لإخفاء الدموع التي رافقت ضحكاتهم المكتومة تحت مناديلهم .

     يعشق ( توين ) دوماً لحظات ” الكوميديا التهريجية ” هذه على الرغم من أنها قد تسبّب الجفلة والإرتعاد لمحبّي الحيوانات ، ولابدّ أنّ مشهد القطة مع مسكّن الألم قد تتسبّب بصرخات ذعر مصحوبة ببهجة هستيرية  أشد وقعاً من سابقاتها في عمل توين كلّه ؛ إذ أن مسكّن الألم الذي إبتاعته العمة بولي لتسكين كآبة توم عندما توقفت بيكي عن الدوام في المدرسة بدا  وكأنه ” نارٌ في هيئة سائل ” ، وبعد أن راحت القطّة تموء وركعت على قوائمها الأمامية وهي تتوسّل تذوّق هذا السائل إستطاع توم أن يصبّ قطرة من السائل عميقاً قي حنجرتها :

     ” قفز بيتر حوالي الياردتين في الهواء ، وأرسل بعدها صيحة مفزعة أقرب لإعلان حرب وراح يجول في أرجاء الغرفة على غير هدى وهو يتمسّح بقطع الأثاث ويُطيح بأوعية الزهور ، وسرعان ماعمّت الفوضى أرجاء المكان ، ودخلت العمة بولي الغرفة لترى بيتر وهو ” يتشقلب ” حول نفسه مرّتين متتاليتين ثم توجّه نحو النافذة المفتوحة وغادر خارجاً وهو يحمل بقايا أوعية الزهور معه ……… “

    __________
*المدى

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *