الوراقة: صناعة الكتاب عند العرب

* يقظان مصطفى

كان بيت الحكمة في بغداد، ودار العلم في الموصل، ومكتبة ابن سوار بالبصرة، ومكتبة ابن الشاطر بالشام، ودار الحكمة بالقاهرة… بمثابة معاهد للعلم برعاية الخلفاء والحكام، من أمثال المأمون ونظام الملك ونور الدين زنكي وسيف الدولة وصلاح الدين الأيوبي. وكانت العربية لغة تدوين تلك الكتب، بها يكتب العلماء ليقرأها الناس في أي صقع من أصقاع الوطن العربي الكبير، والإسلامي الأكبر.

وعندما صارت عاصمة الخلافة، بغداد مركزاً ثقافياً عالمياً بدأت مرحلة جديدة من التطور في مختلف العلوم، وجرت سنّة الثقافة المكتوبة بكتاب جامع لكل فن من الفنون؛ بوصف صناعة الكتاب من أنفع الصناعات البشرية. فكيف كان العرب يكتبون الكتب؟ وكيف كانوا يحصلون عليها؟

تنامت ظاهرة المكتبات العامة

في العصر الجاهلي كانوا يكتبون على العسب (جريد النخل)، وعلى عظام أكتاف الإبل وأضلاعها، وكتبوا على الحجارة البيض الرِّقاق (اللِّخاف)، وعلى الجلد الأحمر أو المدبوغ (الأديم)، وعلى (القضيم) وهو الجلد الأبيض.. حتى إذا جاء عهد الإسلام انصبّ اهتمام المسلمين الأوائل على جمع القرآن وتدوينه على تلك المواد الأساسية.

وفي عهد الفتوحات الإسلامية، كان من بين الأسرى الصينيين من يجيد صناعة الورق فتعلمها العرب، وافتتح أول مصنع للورق في سمرقند، ومن ثم افتتح مصنعان في أيام هارون الرشيد، وظهرت (صناعة الوراقة) فعُرف العاملون بها بـ(الورّاقون) الذين عملوا وفق شرائط مهنية وإبداعية لـ(صناعة الكتابة والكتاب)؛ فتهافت الناس على اقتناء الكتب، وتنامت ظاهرة المكتبات الخاصة، للخلفاء، والوزراء، والعامة، والأدباء.

وفي أواخر القرن الثاني للهجرة (الثامن الميلادي) انتشرت صناعة الورق بسرعة فائقة، وامتدت إلى كل أنحاء العالم الإسلامي، فدخلت سوريا ومصر، والمغرب العربي، وزحفت إلى صقلية وبلاد الأندلس. وصار العرب والمسلمون في ظل حضارتهم المزدهرة في العصور الوسطى الأمةَ الأكثر استهلاكاً للورق، وانتشرت في أسواقهم حوانيت الورّاقين، التي قدمت خدمات النسخ والتجليد والتذهيب وبيع الورق والأقلام والمحابر، فكان الورّاقون يعادلون (دور النشر والتوزيع) في عصرنا الحديث.

هكذا ازدهرت حرفة الوراقة في المدن الكبرى، وبلغت أوج ازدهارها في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وكانت سبباً من أسباب ازدهار حركة التأليف والنشر والترجمة، وتوليف مختلف ثقافات المنطقة وغيرها وصهرها في بوتقة الثقافة العربية، فاتخذها مهنةً علماءٌ وقضاة وأدباء ورجالات فكر وفلسفة وأدب ودين ولغة.

تطور صناعة الورق

ولقد حفظ التاريخ أسماء عدة ممّن عرفوا بكثرة النسخ، منهم أبوبكر الدقاق المعروف بابن الخاضبة (ت 439هـ)، وعلي البغدادي (ت460ه)، ومحمد طاهر المقدسي (ت507ه)، وعلي بن عقيل البغدادي (ت513ه)، ومحمود بن الحسين الأصفهاني (ت548ه)، وأحمد بن عبدالدائم المقدسي (ت668ه).

ومع سُنّة النسخ في قصور الخلفاء، بدأت المرحلة الذهبية لإنتاج الورق للكتاب بتنامي أعداد المخطوطات كثيراً، وأخذ التنافس يشمل الخلفاء والوزراء الأغنياء على اقتناء الكتب الغالية والنادرة.. وتبع ازدهار صناعة الورق في العراق، أنْ رخص ثمنه فشاع التصنيف والتأليف، وكثر المُصنفون من العلماء والأدباء، وكثر الوراقون؛ ما أدى إلى ظهور المكتبات، وإلى إفراز حضاري هو ظهور الخطاطين، حتى لقد أصبح حسن الخط من الركائز الأساسية في عمل الوراق؛ الأمر الذي أفرز أنواعاً جديدة من الخطوط العربية رافقت الوراقين في مهنتهم.

ويذكر الجاحظ أن الحبر الذي كان يكتب به يستورد من الصين، وذكر الحلوجي أن أحد أنواع الحبر كان يصنع في بلاد العرب من العفص والزاج والصمغ. وقبل معرفة العرب بالأقلام كانوا يستعملون آلات حادة ينقشون بها الكلمات في الحجارة، وتحدث القلقشندي عن قطعة صلبة يبرون عليها الأقلام، تسمى المقط أو المقصمة، والمقلمة لوضع الأقلام، وخرق متراكبة من القماش لمسح الأقلام بعد استخدامها.. واستخدموا عدة أنواع من الأقلام للكتابة، أشهرها: المحرف، والقائم، والمصوب، والمستوي.

وكان الورّاقون عادة يفتحون دكاكينهم أمام الجوامع والمدارس في شوارع خاصة، حيث حركة المارة على أشدها، وهذه الدكاكين لم تكن مقصورة على بيع الكتب؛ ففيها يجتمع المثقفون، و(أولئك الذين يريدون أن يصبحوا مثقفين!)، وفيها تناقش الموضوعات المختلفة وتنشد الأشعار، وتنشر المعلومات حول المؤلفات الجديدة، حتى لقد وصل عددها في بغداد إلى مئة دكان. ومن بغداد كانت الكتب سرعان ما تجد طريقها إلى أبعد المدن في العالم الإسلامي، وعلى ظهور الجمال كانت القوافل تحمل الكتب إلى البلدان، وتعود بالكتب من بيزنطية وسوريا والهند إلى بغداد.

في مرحلة متقدمة من صناعة الكتاب العربي، كان على الورّاق الناسخ أن يكون عالماً بتخصصه، أي ناقداً، فظهر مبدأ (الحاشية) لتوضيح ما قد يقع فيه المؤلف من أخطاء نحوية أو لغوية أو عروضية. أما مؤلفو الكتب نفسها فغالباً ما يختارون لنسخ كتبهم ومؤلفاتهم الورّاقين المعروفين بجودة الخط وصحة النقل ودقة الضبط، والحذق في التزويق والتذهيب في كتابة المصاحف الشريفة، كأبي موسى الحامض، الذي اشتُهر بصحة الخطّ وحسن المذهب في الضبط، ومحمّد بن عبدالله الكرماني الذي كان مُضطلعاً بعلم اللغة والنحو، وأحمد بن محمد القرشي الذي كان يتمتع بخط حسن مشهور، والمُحسن بن حسين العبسي المعروف بابن كوجك، وكان خطه مرغوباً فيه يشبه خط المؤرخ الطبري، ومحمّد بن أبي الجوع الذي أثنى عليه ابن خلكان في وفياته، وأيضاً السرّاج، الورّاق المشهور.. أما في المغرب، فقد وفد على بلاد الأندلس طائفة من الورّاقين المُبدعين، منهم ظفر البغدادي في قرطبة، من رؤساء الورّاقين المشهورين بالضبط وحُسن الخطّ، وأحمد بن محمد بن الحسن الخلاّل الأديب الذي اشتهر بخطه المليح الرائق والضبط المُتقن الفائق، وعباس بن عمر الصقلي، ويوسف البلوطي.

تلك الكتب التي نسخها الخطاطون المعروفون، أو التي كتبها المؤلفون أنفسهم، كانت غالية جداً، ولم يكن في استطاعة أحد أن يقتنيها سوى الأغنياء، وعلى سبيل المثال بلغ ثمن كتاب المؤرخ الطبري (ت 923م) مئة دينار، بينما الكتاب المتوسط كان يباع بدينار أو دينارين، وحتى هذا يبدو ثمناً مرتفعاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار، أنّ الأجر السنوي لمقهى في تلك الأيام، كان لا يتعدى الدينار.

كل ذاك الورق والمداد المسخرين لتعميم المعرفة والعلم، هزمهما الحدث الكبير المؤلم بغزو المغول البرابرة بغدادَ، وإسقاطهم الخلافة العباسية العام (656 ه/1258م) عندما رموا الكتب في نهر دجلة، فاصطبغت مياهه باللون الأسود! ناهيك عن الحرائق المتعمدة للمكتبات من قبل الدول الغازية لمصر والأندلس وبلاد فارس والشام.

وقد وصلت صناعة الكتاب في منتصف القرن الثاني عشر للميلاد إلى إسبانيا، ثم إلى إيطاليا، ثم إلى سائر أوروبا.. وبهذه (الوراقة) حملت الحضارة العربية الإسلامية التراث الكلاسيكي اليوناني وتراث الهند وإيران إلى غربي أوروبا، خلال العصور الوسطى؛ ليبدأ عصر النهضة والانتقال من (عصور الظلام) إلى عصر الكشوفات العلمية.

* عن الشارقة الثقافية

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *