( ثقافات)
-
مجدي دعيبس
من خلال التنويه الذي استهلّت به رجاء بطارسة كتابها «مدمنة مع وقف التنفيذ» يتسرّب إلى نفس القارئ شيء من الثقة والطمأنينة، ويتشكّل لديه انطباعات أوليّة عن محتوى الفصول اللاحقة التي سوّدت أربعمئة صفحة من القطع المتوسط بغلاف جميل وذكي يختزل الرحلة الطويلة من حالة إلى حالة ومن صورة إلى صورة. الكتاب من اصدارات «الآن ناشرون وموزعون» لهذا العام والغلاف من تصميم بسّام حمدان. ومن أهم هذه الانطباعات الصدق الفني النابع من تجربة مريرة مرّت بها الكاتبة وعاشت فصولها على مدى ثلاثين عامًا ما بين مدّ وجزر وتقلّب في المزاج وتردّي الحالة النفسيّة والوصول إلى لحظات صعبة لم تتغلب عليها إلّا من خلال استجماع كل الأوقات الجميلة في حياتها لتصل إلى حالة من التصالح مع الذات والاتّكال على تدبير السماء التي جعلت الداء ويسّرت الدواء.
وكلّما تقدّمتُ بالقراءة وطويت خمسين أو سبعين صفحة أخرى، يلحّ عليّ الهاجس عينه: لو كان لدينا في العالم العربي منظومة نشر وتسويق وتوزيع كما هو في النموذج الغربي- حيث تدخل مراحل وقطاعات كثيرة في «صناعة الكتاب» وتصبح متسلسلة بتدفق طبيعي تبدأ من الفكرة وتنتهي بملايين النسخ التي تغزو العالم وتغيّر حياة الملايين في القارات الستة- لأصبح هذا الكتاب أحد المرشحين الأقوياء لدخول هذا المعترك.
ولعل بيت شعر أبي ذؤيب الهذلي الذي أوردته الكاتبة في التمهيد يشير إلى ما يُراد قوله بكلمات قليلة على عادة العرب من الإيجاز الذي يفتح ألف باب وباب على سماء لا تنتهي.
والنفس راغبة إذا رغّبتها وإذا تردّ إلى قليل تقنعُ
ولعل هذه الحالة من الفلسفة الصوفيّة التي تمسك بلجام النفس ستظلّ تطلّ عليكَ كلما انتقلتَ من فصل إلى ما يليه. عندما وصلتُ إلى حادثة قرص حلوى المارزيبان في الطائرة الذي دفعته الكاتبة إلى سلة المهملات في لحظة من تأنيب الذات والسخط عليها، ثم استعادته تحت وطأة الرغبة الملحّة، أدركتُ أن إدمان الطعام لا يختلف عن أيّ نوع آخر من الإدمان الذي يكون احترام الذات أول ضحاياه. وسواء كان المسمّى إدمان الطعام أو الشّراهة، كما هو مألوف لدي، فإنه- وبتصريح مباشر من الكاتبة- حالة مرضيّة سببها خلل بيوكيميائي في الدماغ يؤدي إلى علاقة إدّمانية مع الطعام الأمر الذي يستدعي العلاج وتدّخل الطبيب أو المعالج. وكما أنّه من غير الممكن لأحد أن يقوم بعملية استئصال الزائدة الدوديّة لنفسه، لا يستطيع الشخص المصاب بإدمان الطعام أن يشفى منه دون تلقّي مساعدة من قبل المختصّين، حيث يتطور هذا الإدمان مع الوقت على ست مراحل وينتهي بالموت.
تعمد الكاتبة بقصديّة واضحة إلى تكرار وتوضيح مفهوم التعفّف والتعافي الروحاني للوصول إلى علاقة سويّة مع الطعام، والتعفّف في اللغة هو الكفّ عمّا لا يحلّ، أو عمّا لا يجمُل من قول أو عمل. وورد في سياق الكتاب على أنه الامتناع الطوعي عن أي مادة أو سلوك ما من دون إجبار أو إكراه، والتّعافي الروحاني هو الوصول إلى حالة شفّافة وعلاقة يقينيّة مع قوة أعظم من الشخص المتعفّف تمدّ له يد العون في لحظات الضعف والانكسار وتمسك بيده وتعيده إلى الطريق القويمة وتبعده عن حافة الهاوية. تأسيس هذه الحالة من المناجاة والصّفاء ومخاطبة القدرة الربّانية والاتكال عليها والتواصل معها والإيمان بتدخّلها في الأوقات الحالكة يعتبر العتبة الأولى للوصول إلى حالة تعفّف مستدامة، وهي كما أراها حالة صوفيّة من تهذيب النفس وتطويعها إلى سلوكيّات رشيدة من احترام الذات وكبح الشهوات.
تورد الكاتبة ثلاثة أنواع من العلاقة مع الطعام التي تعتبرها أساس المشكلة وليس الوزن الزائد الذي يتأرجح صعودًا ونزولًا، وهذه الأنواع هي: الطبيعية والإدمانية والعاطفية التي تكون من خلال نوبات نهم شديدة يتبعها التقيؤ القسري أو التجويع القاسي. الخطوة الأولى في طريق الحلّ هي الاعتراف بالمشكلة وعدم إنكارها ليتم التشخيص الصحيح وبالتالي المضي بخطوات ثابتة نحو العلاج.
وقد يتساءل البعض عن سبب اختيار هذا العنوان «مدمنة مع وقف التنفيذ» والذي ينطوي على بعض السلبيّة فالإدمان ما زال حاضرًا ولكن مع وقف التنفيذ . برأيي اختارت الكاتبة هذا العنوان، ولم تبحث عن عنوان آخر يعطي إيحاءات غير واقعية لأنها اعتمدت الصراحة والصدق منذ البداية. إدمان الطعام ناتج عن خلل في دماغ الإنسان ويشبه- في تقديري- الأمرض الوراثيّة التي تأتي مع الولادة. الفلسفة الروحانية والتعفف تهدف إلى السيطرة على هذا المرض الذي سيبقى كامنًا أو متنحيًّا ولن يطفو على السطح ما دام المتعفّف متمسكًا بعلاقته مع الله وثقته بتدبيره. لذلك تؤكد بطارسة على أن الكتاب ليس من كتب الحميات الرائجة هذه الأيام والتي تعتمد على حساب السعرات الحراريّة، وإنما هو أسلوب حياة يعتمد على تنمية النواحي الروحية وتنظيم العلاقة مع الطعام. هناك خطة طعام تعففيّة تشتمل على أربع وجبات بأوزان ومواد غذائية ومواعيد صارمة وتؤكد على تجنب السكر والدقيق المكررين والأغذية التي تثير اشتهاء المنخرط في هذا البرنامج وتزعزع ثباته، ولكن الأهم من هذا هو التركيز على الروحانيات من تأمل وتلاوة دعاء السكينة وتلقي الدعم والتوجيه والارشاد من متعفّفين آخرين نجحوا في هذا البرنامج. ويظهر هذا بشكل جلي في الخطوات الاثنتي عشرة للتعافي من الإدمان. سأكتفي هنا لتوضيح وجهة النظر بإيراد الخطوة الأولى والثانية والحادية عشرة «1.اعترفنا أننا بلا قوة تجاه إدماننا، وأن حياتنا أصبحت غير قابلة للإدارة. 2. توصلنا إلى الإيمان بأن قوة أعظم من أنفسنا باستطاعتها أن تعيدنا إلى الصواب. 11. سعينا من خلال الدّعاء والتّأمل إلى تحسين صلتنا الواعية بالله بحسب فهمنا له، داعين فقط لمعرفة مشيئته لنا ومنحنا القوة على تنفيذها».
وعلى صعيد اللغة مازجت الكاتبة بين اللغة الفصحى المباسرة واللغة المحكيّة التي حملتْ الحوار والمناجاة وحديث النفس، وأظنها كانت موفّقة في هذا الخيار لأن الكتاب ينطوي على معلومات فنيّة ومصطلحات علميّة بحاجة لتعريف واضح ومباشر، ولا تنفع معه الإزاحة اللغوية التي تضبّب المعنى وتميّع الحدود الفاصلة بين ماهية الأشياء وأشكالها وأحجامها وما تثيره في نفس الأديب من صور غير حقيقيّة، لكنّ الكاتبة وفي غير ذي موضع تخلّتْ عن أسلوب السّرد المباشر للخروج من دائرة الحكي أحادي النغمة والكم الهائل من المعلومات والملاحظات والإرشادات، فنقرأ في الصفحة «356» الفقرة الآتية: «عندما لاحظتْ الكعكة نظراتي صوبها، ابتسمت لي بإغواء، ثم همست في أذني بصوت يقطر دلالًا وحنانًا قائلة: قومي خبّيني بالتلاجة عشان بالليل، وبعد ما عيلتك تنام، نسهر أنا وإنتي مع بعض، فأنا كتير مشتاقيتلك.
ومثل الشخص الهائم بالحب، أسدلت جفوني بدلع وحياء، ثم بلعتُ لعابي الذي سال نتيجة تخيّلي لحظة انصهار الكعكة داخل فمي. وقبل أن أهمّ بالنهوض من مقعدي لنقل بقايا الكعكة إلى الثلاجة، أصدرت ابنتي نحنحة فهمتُ منها بأنها كانت تريد أن تقول لي شيئًا».
هناك اشتغال واضح على إيراد أقوال مأثورة في التعفّف وأقوال للكثير من المشاهير جاءت في سياق السرد دون تكلّف أو إقحام غير مستساغ، والهدف منها تثبيت وتدعيم الطرح والجملة الخبرية التي تبثها فلسفة التعفّف والتّعافي الروحاني من القلق والخوف، والتقرب من الخالق من خلال الابتهالات المشحونة بالصدق والعاطفة الجيّاشة والتسليم بمشيئة الله والرضوخ لتدبيره. «إذا بقيت تفعل الشيء نفسه، سوف تبقى تلقى النتيجة نفسها»، «إذا ركّزتَ على الوزن سوف تخسر التعافي، وإذا ركّزتَ على التّعافي، سوف تخسر الوزن» وهناك أيضًا قول لأبقراط «تناول طعامك وكأنه دواؤك، وإلّا سيأتي يوم تتناول فيه دواءك وكأنه طعامك».
من الصعب الإحاطة بمضامين الكتاب كلها في سطور قليلة، وإنما هي إضاءة لأكثر ما شدّني من طرح ومعلومات وأسلوب. ولماذا «حجر في مياه راكدة»؟ لأننا لا نجد مؤلفات مكتوبة أصلًا باللغة العربية تتناول هذا المرض بهذا العمق وهذه الفلسفة البسيطة التي تمدّ يدها لكل من يطرق بابها. وننتهي من حيث ابتدأتْ الكاتبة عندما نصحتْ بقراءة هذا الكتاب من قبل الذين يعانون من إدمان الطعام لعلهم يجدون السلام والسكينة كما حدث مع الكاتبة نفسها، وأيضًا من قبل الأسوياء في علاقتهم مع الطعام حتى يشعروا مع هؤلاء الذين ابتلوا بهذا المرض الخطير ويستنيروا في طريقة التعامل معهم ومساندتهم. ويبقى أن نقول إن رجاء بطارسة حاصلة على بكالوريوس في الأدب الإنجليزي من الجامعة الأردنية ولها كتابان: أنا والرداء الأصفر و «My Yellow Suit».
-
روائي أردني