* نبيل سليمان
(1)
تتوقف السيارة عند الحاجز، وتحيي العسكري. لستُ من أوقفها، ولا من حيّا بكفه متمنيًا أن يكتفي العسكري بذلك. بالأحرى لست من رشاه بالتحية كيلا يطلب البطاقة الشخصية، فيكون عليّ أن أنقّب عنها في جيب البنطال الخلفي، حيث تعودتُ أن أودعها منذ أن تمكّن مني الرعب من أن أضيعها، ليس فقط لأن الحاجز لن يسمح بالمرور من دون بطاقة، بل لأنك ستغدو مشبوهًا، بل متآمرًا، بل مطلوبًا لواحد من فروع الأمن على الأقل. ولن يعبأ العسكري عندئذٍ بأنك في الخامسة والسبعين، ولا بأن لك عشرين رواية أو أكثر منها في النقد وفي الشأن العام. لن يعبأ بتوسلاتك هذا الشاب المدججُ بثيابه المبرقعة وذقنه الشعثاء الفاحمة والكلاشينكوف.
إنه عيشك السوري الرغيد المديد.
(2)
في مثل هذا الضحى، وربما في مثل هذا اليوم الصيفي، ولكن قبل أربعين سنة، عندما كانت سوريا تتزلزل أيضًا مثلها منذ تسع سنوات، انحشرتَ بين ركاب التاكسي الذي يطير من اللاذقية: حلب قصدنا وأنت السبيل. وعلى كل حاجز تبرز بطاقتك الشخصية غير هيّاب ولا وجل. وبأسرع من التاكسي أنجزتَ ما قصدت حلب من أجله. وقبل أن تودع الصحب في دار الحضارة، تتفقد البطاقة السحرية، ويصعقك ما تكتشف، فهذه بطاقة زوجتك، وأنت لا تحمل إذن بطاقتك، والحمد لله أنْ ضرب على أبصار الحواجز، ولكن ماذا لو أن عينًا واحدة فقط تنبهت في طريق العودة إلى جريمتك؟
(3)
عبر خمسةٍ وأربعين كيلو مترًا بين اللاذقية -حيث مقامي منذ 1978م- والبودي (القرية) -حيث مقامي أيضًا منذ 1989م- هو ذا الحاجز الوحيد، فلماذا تخشى إذن أن يظهر لك من يستوقفك، ثم ينتر البطاقة اللعينة من أصابعك، ثم ينقّل نظراته المستريبة بين وجهك وبين الصورة الهلوعة في البطاقة، بينما يزيّفُ خفقُ قلبك ابتسامتك البلهاء؟
فجأة يهجم الرجل الذي ليس بشاب وليس بكهل على السيارة. وقبل أن تعود البطاقة إلى حضنها الدافئ في قفا البنطال، يكون هذا العسكري الغاضب المدجج بثيابه المبرقعة وذقنه الشعثاء الفاحمة والكلاشينكوف، قد نكش حقيبتك على المقعد الخلفي، وقلّب في كتبك وأوراقك، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه: ها هي السيارة الهلوعة قد أفلتت من الحاجز، وطارت حتى بلغت مدخل القرية، وانحنت أمام الصورة الكبرى التي تتوسط صدر معمل السجاد اليدوي. ها هي السيارة تئنّ تحت الصور الصغيرة والكبيرة، الحائلة والطازجة، لشبابٍ قضوا من سنة إلى سنة طوال تسع سنوات، فزفّهم الرصاص والأغاني والزغاريد ملء النهارات والليالي، فأنّى لك أن تكتب؟ وماذا ينفع أن تفر من الكتابة إلى القراءة؟ ماذا ينفع أن تفر من القراءة إلى التلفزيون الذي سينهال عليك بانفجار، أو اغتيال، أو قصف، أو براميل متفجرة، أو بشحنات التعفيش، أو بهياج المراسلين وسعار المذيعات، وضاع/ انطوى، يضيع/ ينطوي نصف النهار.
إنه عيشك السوري الرغيد.
(4)
لا، لن أضيّع الكثير المتبقي من هذا اليوم (الثلاثاء الرابع من آب/ أغسطس 2020م) على الرغم من أنه بدا بلا صباح.
أجل، يومٌ هو بلا صباح، وإن تكن قد نهضتَ في السابعة، وخرجتَ قبل الثامنة إلى ساعة المشي، متحاشيًا كعادتك أن تنظر إلى أول ما يصادفك على الأوتوستراد: صرحان، أي عمارتان، ما عاد يطردك من العبور بهما على مرمى خمسين مترًا حراسٌ، ولا سيارتٌ فارهة أو مموهة أو مدججة بما لم ترَ حتى في أفلام حروب الخيال العلمي. ويبهج خطواتك في سرها أن أهل الصرحين- العمارتين، جَدًّا فأبناءً فأحفادًا، قد تفرقوا بين ميتٍ بالسرطان وميتٍ اغتيالًا وطالبٍ للنجاة في حصنٍ من حصون العاصمة أو من
غياهب بيروت.
الآن، وعيناك تسبقانك إلى البحر القريب البعيد، لكَ أن تفكر بالرواية التي تراودها منذ أكثر من سنة ونصف، حين ملصتْ «تاريخ العيون المطفأة» من بين أصابعكَ إلى شوقي العنيزي ودار مسكلياني. لكنه يوم بلا صباح، لذا لن تبلغ خطواتكَ البحر البعيد القريب، فهذا حاجزٌ طيارٌ يباغت مبكرًا على غير عادته في المباغتة بعد أن ينتصف الليل، وليس هنا في مدخل ساحة اليمن ومحطة القطار، بل هناك في قلب المدينة في ساحة الشيخ ضاهر، أو هنالك في ذيل المدينة في مدخل الرمل الفلسطيني. والآن إذن، عليك أن تستدير هاربًا، فبذلتك الرياضية لا تتسع للبطاقة الشخصية، وحسبك أن تتلوى في الشوارع الفرعية بحثًا عن
الصباح الفقيد.
بعد دهر يتطاول حتى العاشرة، ستكون قد أكملتَ طقوسك الصباحية، وصرتَ جاهزًا للعمل. لكنك بدلًا من أن تبدأ بالكتابة، ستهرب، أي ستميل بك عادتك الجديدة منذ قرابة سنة ونصف، فتنط على الشاشة الزرقاء بين مانشيتات ونتف من مقالات وأخبار جرائد الصباح الفقيد. وفجأة تكتشف أن ساعة بطولها قد ضاعت، وأن عزمك على الكتابة مشوّش، وهذا المكتب في هذا البيت في اللاذقية يضيق بك، فتحشو في الحقيبة الملفَّ الذي يكبر كل يوم منذ سنوات -وبخاصة منذ ملصت من أصابعك «تاريخ العيون المطفأة»- مقدار قصاصة أو صفحة أو كتاب، وتَعِدُ/ تتوعد الكتابة على مرمى خمسة وأربعين كيلو مترًا، في هذا المكتب، في هذا البيت، في البودي. وها هي الرواية «تفلش» الملفَّ أمامك، والملف يتقلّب بشوق إلى بياض صفحة وليس إلى زرقة شاشة، يحرضك ويغويك ويتحداك، فتحرن أصابعك مثلما تحرن روحك، فبأي أفنونٍ من الأفانين سيكون هربك الآن؟
(5)
أن تبكر في الغداء، فهذا أفنون، وأن تطيله، وتتجرع معه وبعده الجرعة السميّة التلفزيونية اليومية من أخبار وتقارير وتحليلات، فهذا أفنون آخر، سيعقبه آخر من القيلولة التي يزيدها الهرب من الرواية قداسة.
لكن الرواية ستتسلل إلى غفوتك، وستهمي عليك بصور من سبقوك إلى رواية أو قصيدة أو أية كتابة عن الحمير، فتتوه بين حمير فولتير، وإميل حبيبي، وعباس محمود العقاد، ويحيى حقي، وأبي منصور الثعالبي، وبريجيت باردو، ولوقيانوس السميساطي، وأحمد فؤاد نجم، وعتيق رحيمي، وغازي القصيبي، ومحمود درويش، وإبراهيم المازني، ومحمود السعدني، وغونتر ديبرون، وتوفيق الحكيم، وخوان رامون خيمينيز، وأحمد شوقي، وحسن أوريد، وواسيني الأعرج، ومصطفى صادق الرافعي، ومجيد طوبيا، ومحمود شقير، ووجدي الأهدل، وأوغست رودان، وجميل السلحوت، وعزيز نيسين، وابن المقفع، وإبراهيم الفرغلي، و… وتختفي الرواية، فتنتفض من غفوتك وأنت تجأر: لماذا نسيت لوكيوس أبوليوس؟ ولأن سؤالك يظل بلا جواب، تنهض وملء عينيك الجحش الذهبي الذي كتب أبوليوس تحولاته في رواية ما برحتَ تأتمّ بها منذ أهداك علي فهمي خشيم نسخة من ترجمته لها، في تونس قبل ثمانية وعشرين صيفًا مثل هذا الصيف الخانق في تونس أو في اللاذقية، ولكن ليس كما في طراوة العصاري الجبلية التي تخفق من البودي إلى البحر بأخيلةٍ تنشد من يكتبها، فتهتف: أنا لها…
(6)
بدلًا من أن تشرع في الكتابة، تهرب إلى آخر ما يخبئ الملفّ الضخم، وجعلتَ عنوانه: «حمار حمزة شحاتة». من جديد تُكْبر في هذا الكاتب السعودي أنه سبق توفيق الحكيم إلى الكتابة عن الحمار، وتبرق عيناك بما كتب: «وفي الحمار خفة، وفي حركاته حلاوة، ونظراته لا تخلو من معانٍ تفيض منها العذوبة، وفيها أناقة ووجاهة يفوقان كثيرًا من الآدميين، وله ابتسامة محجوبة يدركها ويدرك موضع السحر والفتنة فيها كل من يعنيه من أمر الحمير ما عنانا».
في أعداد من جريدة صوت الحجاز سنة 1936م نشر حمزة شحاتة عددًا من المقالات تحت عنوان «حنفشعيات»، والكلمة تقال لمن يخلط بين المتناقضات. وقد تنكّر الكاتب بما وقّع به مقالاته: هول الليل، فأكبر في الحمار ديمقراطيته التي تصرفه عن الخيلاء، وشدد على أنه أكثر الحيوانات شبهًا بالإنسان. وبلغ حمزة شحاتة أن كتب «… حتى تصورتُني حمارًا أرعى وأعيش في هذا الجانب من الأرض عيشًا خفيضًا».
كنتُ قد قرأت هذه المقتطفات مستحسنًا مرة بعد مرة، لكنني أجفلت هذه المرة، وأسرعتُ إلى الشرفة بينما كانت تخترق السمع والسماء طائرة روسية عائدة من القصف أو ذاهبة إليه، ولكن أين تراها قصفت؟ وأين ستقصف؟
أعادني السؤال إلى محاولة الكتابة، ورأيتني ملهوفًا حقًّا، وعازمًا حقًّا، فهل أبدأ بحزب الحمير المغربي، أم بحزب الحمار في السليمانية من كردستان العراق؟ لماذا لا أتجاوز الأحزاب في الكتابة كما تجاوزتها في الحياة، وأكتب عن مهرجان الحمير في زرهون المغربية أو في كولومبيا؟ ولكن لماذا أذهب بعيدًا، فلا أكتب عن الحمار السوري أو عن حمير القامشلي أو حمير عامودة من سوريا رقم 2 أو رقم…
ما همّ الترتيب، ما دامت سوريتك قد غدت سوريات بجمع المذكر السالم -وعلامة ذكورته وسلامته تاء التأنيث المبسوطة- فها أنت قد عشت حتى صارت سوريا التي تعيش أنت والروسي والإيراني فيها رقم 1 مثلًا، وسوريا التي تحتلها تركيا رقم 3 مثلًا، وسوريا رقم 2 مثلًا هي هذه التي يتناهبها الأميركان والإدارة الكردية والشركة الروسية التركية الإيرانية المساهمة المغفلة، وقد كانت حتى البارحة دولة داعش منذ كانت (باقية وتتمدد) إلى أن صارت (فانية وتتبدد). ولك أن تتأسّى بما كانت عليه سوريتك قبل مئة سنة وحربٍ عالمية، حين شققوها فتشققتْ إلى لبنان والأردن وفلسطين، وتركوا لك هذه السوريا التي لهطت تركيا منها لواء إسكندرون، ويزعزعك الخوف الآن من أن تلهط إدلب وعفرين قبل أن يكحّل الموت عينيك.
(7)
يحرن القلم، تحرن الورقة، تغمض عينيك، بالأحرى تعصرهما مستجديًا كلمة، صورة، أخيولة، فتحرن ظلمة عينيك، ويهتف بك هاتف: أيتها الرواية الحرون، فيرجّع الصدى: قل أيتها الكتابة الحرون، وتكرر العبارة المرّة، فتداهمك الأصداء: حتى ألف كلمة لمقالة صارت حرونًا!
ما بقي لك إذن إلا الهرب، ولكن إلى أين؟ البحر من ورائك والعدو من أمامك.
لا لا.
البحر من ورائك والحبيبة من أمامك. وليس لك والله إلا الصدق والصبر. واعلم أنك في هذه الرواية أَضْيَعُ من الأيتام في مآدب اللئام. واعلم أنك إن صبرتَ على الأسف قليلًا، استمتعت بالأَرَفَة الألذ طويلًا، وقد بلغك ما أنشأت الرواياتُ من الحور الحسان، الرافلات في الدرّ والمرجان والحلل المنسوجة بالعقيان، فاهتف: أنا لها، واهرب متدرعًا هذه المرة بحكمة ماركيز عندما شبّه الرواية بالمرأة: إذا ما تمنّعتْ فلا ترقْ ماء وجهك، لا تتذللْ ولا تغتصبْ، بل دعها حتى ترضى.
حسنًا، إذن أنا لها.
(8)
لكنك لست لها، لذلك تراك لا تغادر الشرفة بانتظار أن تغطس الشمس في البحر. غير أن هذا اليوم يبدو بلا مساء، فتلحّفْ بالعتمة وعدْ إلى المكتب، لملمْ ما فلشتَ عليه، وتظاهرْ بالأسف لأن أفنونًا جديدًا للهرب يذكرك بسهرة الليلة مع من تبقى من مجموعة الثلاثاء، وسهرة اليوم في مدينة جبلة التي تنصّف الطريق بينك وبين اللاذقية.
هو حقًّا يومٌ بلا مساء.
منذ مطلع القرن الحادي والعشرين -يا لفخامة القول!- كانت المجموعة التي تلتقي كل ثلاثاء، وعُرفتْ بالثلاثائيين، بعدد أصابع اليد. وبعد أن صار العدد ثلاثين بدهر، حلّ صيف 2011م، فشقّ الخلافُ المجموعةَ على الإصلاح والتغيير والانتفاضة والسلمية والعسكرة والأسلمة مما سيتعنْوَن بالثورة، وسأُعَنْونه بالزلزال. ومن سنة إلى سنة مات من مات، وهاجر من هاجر، إلى أن عادت المجموعة إلى عدد أصابع اليد، لكن كل واحدة من الأصابع الخمس تضاعفت بانضمام الزوجات.
هكذا، وعلى إيقاع البدد الذي أودى بالزلزال أو الثورة، باتت الثلاثائية لقاءً أُسَريًّا، كأنها لم تكن يومًا ظاهرة فريدة في سوريا، تمور بالثقافة والسياسة والصداقة قبل أن تستبد بها السياسة فيبدأ الضمور.
والآن تقودك السيارة إلى كورنيش جبلة حيث تتهادى الأسراب كما في يومٍ بلا مساء، فأين هي الكورونا إذن؟
تُخرس الطائرةُ السؤالَ وهي تخترق السمع والسماء، وأقرب إليك من حبل الوريد، ليس كما كانت للتو في كبد سماء البودي، فمطار حميميم على مرمى حجر من هذا الكورنيش، وما عاد الكورنيش يترنق بمشاوير الناس المسائية، وما عاد نومهم يهنأ إذا لم تخترق الطائرة السمع والسماء.
على إيقاع الطائرة العائدة من القصف أو الذاهبة إليه تبدأ سهرة الثلاثاء في بيت يتوسط البساتين في سوار المدينة. وفجأة يرمينا موبايل أحدنا بالنبأ العظيم: انفجار في بيروت كأنه قنبلة نووية.
(9)
قبل أن يطوي التلفزيون والموبايل والإنترنت هذا اليوم الذي بلا صباح ولا مساء، بلا ليل ولا نهار، بلا يقظة ولا نوم، بلا حياة ولا موت، ستكون قد أرسلت رسالة صوتية أو مكتوبة إلى بيروت فواز الطرابلسي، بيروت إلياس خوري، بيروت عبده وازن، وجمانة حداد، ويسرى المقدم، وحسن داود، ومنى فياض، ونجوى بركات، ومنى سكرية، وأحمد فرحات، و… ولا تصدق أن أرقام عباس بيضون، ورشيد الضعيف، وسماح إدريس قد اختفت من هذا الموبايل الذي تدفقت رسائله: فواز الطرابلسي يكتب: سالمون في مدينة منكوبة، جمانة حداد تكتب: آه من هذه البلاد المقرفة، علوية صبح تنشج رسالتها الصوتية الذبيحة، وكلمة (زمطنا) توحّد بين رسائل رفيف صيداوي وجهاد الزين ومنى سكرية. ويأتي شرح (زمطنا) لمن لا يعلم، في رسالة حسن داود: نجونا هذه المرة أيضًا. ولكي لا ينطوي/ يضيع هذا اليوم تلحق بمن سبقوك وسبقنك إلى بيروتشيما. ولأنك في عيشك السوري الرغيد، لن تلحق بهم، وحسبك أن تتفجر حناياك بالنداء: سوريتشيما، حلبشيما، عفرينشيما، عراقشيما، يمنشيما، ليبياشيما، فلسطينشيما، عربشيما، ولأن النداء يذهب بددًا، رددْ مع من قال:
«لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارٌ نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في الرماد»،
أما الرواية فدعها لأفانين الهرب.
- عن مجلة الفيصل