ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي*فصول مترجمة من كتاب ( الكتب في حياتي ) للكاتب – الفيلسوف
كولن ويلسون
القسم الثامن
العلم والعدمية – تتمّة
أصابني الفصل الثاني من كتاب آينشتاين بإرباك أعظم من ذاك الذي حصل معي في الفصل الأول : كان الفصل الثاني تحت عنوان ( نظام الإحداثياتThe System of Coordinates ) ، وقد بدأ في عباراته الإفتتاحية بتوضيح مسألة أننا متى ماأردنا قياس مسافة بين نقطتين على سطح صلب solid فإننا نعمد إلى مقارنة تلك المسافة مع مسافة معلومة لنا مثبتة على جسمٍ ما ( مسطرة قياس مثلاً ) ، وقد بدا لي الأمر في غاية الوضوح وتساءلت عن السبب وراء عدم مضيّ آينشتاين في توضيح ماكان يقصده من عبارته الإفتتاحية الواضحة بذاتها تلك ، ثم مضى آينشتاين في القول : ” إن أي وصفٍ لحادثتين في الفضاء يستلزم إستخدام جسم صلب يخدم كمرجعٍ تنسّبُ إليه تلكما الحادثتان ، وأن العلاقة الناتجة عن هذا تفترض بصورة مفروغ منها ومقطوع بصحتها أن قوانين الهندسة الإقليدية تصحّ على المسافات جميعاً ” ، وعند هذا الموضع من الكتاب وجدتُني كمن يريد الصراخ ( إمضِ يارجل بحق السماء أبعد من هذا البديهي الذي تقوله ) ، ولكنني مع هذا مضيت في حثّ خطاي على الإندفاع في قراءة الكتاب ، وفي خاتمة الأمر إنبلج أمامي ضياء الفجر مع بلوغي الفصل التاسع الذي وضع له آينشتاين عنوان ( نسبية التزامن The Relativity of Simultaneity ) ووظّف فيه واحداً من أكثر الأمثلة المحببة له دوماً : قطار يسير على سكة حديدية . إفترِضْ الآن – كما يقول آينشتاين – أن البرق كان يضرب السكة الحديدية في نقطتين معلومتين دون غيرها من النقاط ، وكانت مهمّتك أنت أن تخبرنا هل كان البرق يضرب النقطتين المعلومتين في السكة في الوقت ذاته ( أي بتزامن ، المترجمة ) ، فكيف ستتعامل مع مهمّتك هذه ؟
إن طريقة يسيرة لإنجاز هذه المهمة هي أن تموضع نفسك في منتصف المسافة بين النقطتين ، ثم تمسك بمرآتين متعامدتين مع بعضهما ؛ حينها يمكنك رؤية الومضتين وهما تنعكسان عن المرآتين ، وإذا ماتمت رؤيتك لهما في الوقت ذاته عندئذ يمكنك القول أن ومضتي البرق حدثتا بتزامن ، لكن إفترض أنك كنت جالساً على سقف قطار ينتقل من النقطة ( أ ) إلى النقطة ( ب ) وحينها سيكون على شعاع ضوء البرق المنعكس من النقطة ( أ ) أن يلحق بالقطار المتحرك بينما سيندفع شعاع الومضة من النقطة ( ب ) أن ينطلق بإتجاه القطار المندفع نحوها ، ومن الواضح تماماً أن الإنعكاسين على المرآة لن يحصلا بتزامن مثل السابق .
فكّرت آنذاك أن ماحكى عنه آينشتاين كان حقيقة واضحة بذاتها : إن ومضتي البرق متزامنتان حتماً في الأحوال الإعتيادية لكن وجود قطار متحرّك في المشهد فنّد تلك الحقيقة ، غير أن آينشتاين لايوافق على ذلك – إن القطار كما يراه آينشتاين هو نوع من ( نظام إحداثيات ) أي أنه بمثابة نوع من جهاز قياس للأبعاد طولاً وعرضاً وإرتفاعاً ، وإن السكة الحديدية هي نظام إحداثيات هي الأخرى ، لذا يتساءل آينشتاين : لِمَ يتوجّب علينا تفضيل نظام إحداثيات على الآخر ؟ تصوّر أنك بدلاً من القطار كنتَ تستقلّ سفينة فضائية طويلة في الفضاء الفارغ وعلى مبعدة ملايين الأميال من أقرب نجم لنا ، ولم تكن تعرف فيما لو كانت تلك السفينة الفضائية تتحرك أم لا ، فكيف ستعرف فيما لو كانت الومضتان متزامنتين أم لا ؟ بالطبع لن تعرف هذا . الآن لنستبدل السفينة الفضائية بقطار فضائي طويل يسير على سكة فضائية تبعد أيضاً بملايين الأميال عن أقرب نجم للأرض : قد تظن الآن أنّ في مقدورك معرفة فيما لو كان القطار يتحرك أم لا ، لكن ماذا لو كانت السكة هي التي تتحرك في إتجاه معاكس لحركة القطار ؟
بدأت اخيراً أتفهّم ماكان آينشتاين يرمي إليه : قد نعرف مثلاً أن القطار يتحرك إذا ماقورن بالسكة ، أو أن السكة تتحرك إذا ماقورنت بالقطار ، وان العبارتين يمكن أن تكونا صحيحتين معاً . عند هذا الموضع من قراءتي داهمتني فكرة رهيبة : يصرّح آينشتاين أن الحركة ” نسبية ” ،ويمكن لنا على الأرض وببساطة أن نعرف أن القطار يتحرك في الوقت الذي تبقى فيه السكّة ساكنة ، ولكن لو حصل ونظرتَ إلى المشهد برؤية كونية مثل إله يمتدّ جسده ليتغلغل بين النجوم فإن نظرتنا ستبدو ضيقة للغاية وخليقة بأناس محدودي التفكير إلى حد بعيد .
كنت قد واظبت للسنتين السابقتين على الإنغماس في دراسة العلم لأنه منحني إحساساً بالإقتحام ومواجهة الحقائق التي لن يجادل السفهاء والسفسطائيون بشأنها – نوع شبيه بالحقيقة التي تملك صحة كونية أعظم بكثير وأبعد مدىً من مشاعرنا البشرية اليومية العادية وأهدافنا الصغيرة التافهة : ففي كل مرة كنت أشعر فيها بالغضب أزاء غباوة أحد الجيران أو بالإذلال المصاحب للنقد القاسي الذي كان يصبّه على رأسي أحد معلّمي المدرسة كان عليّ بكل بساطة أن أفكّر بشأن علم الفلك أو الكيمياء ؛ وهو التفكير الذي تكفّل دوماً بمنحي إحساساً رائعاً بالهدوء والإسترخاء ، وقد بدت لي المعضلات الإنسانية سخيفة ومضجرة على الدوام في حين ان العلم وحده هو مابدا لي موضوعاً راسخاً وجديراً بالوثوق والركون إليه أي وقت نشاء ، ولكن هاهو آينشتاين يخبرني بإستحالة العثور على ” يقينية ” في العلم ، وغدوت بعد قراءتي ملاحظات آينشتاين مثل مسيحي كرّس حياته كلها في الإيمان ثمّ حصل تمّ إقناعه بغتة بعدم وجود الرب ، وشعرت حينذاك كمن كان واقفاً على أرض بدت صلبة له لوقت طويل ثم مالبثت فجأة أن فُتِحت فيها فوهة تسعى لإبتلاعه من موضع قدميه !! .
من المؤكد أنني فكّرت في تلك الأيام بأن ” التزامنيّة ” تعني شيئاً أبعد بكثير من محض كون قطار آينشتاين متحركاً أم لا ؛ إذ لو كنت أصفّق بيديّ فسيكون من المحتّم أن تلامس إحدى اليدين الأخرى بتزامن ، ولو أن أحداً آخر صفّق بتناغم معي فسيكون تصفيق كل منا متزامناً مع الآخر أيضاً ، وعلى هذا الأساس يكون لمفهوم ” المتزامن ” معنىً حدسيّ . إذن ، ألن يكون في مقدورنا توظيف هذا الحدس الطبيعي في توضيح أنّ ومضة البرق ستصلك لو كنتَ في مقدمة القطار أسرع مما لو كنتَ في مؤخرته فيما لو وضعتَ حركة القطار موضع الحسبان ؟ عند هذا الموضع يفجّر آينشتاين مفارقته الثانية : لو كنتُ مسافراً في قطار يتحرّك بسرعة خمسين ميلاً في الساعة ، وكنت أنا ذاتي أتحرّك عبر الممر الداخلي في القطار بإتجاه عربة المحرّك في مقدمة القطار بسرعة عشرة أميال في الساعة فمن الطبيعي أن تكون سرعتي المحصلة النهائية ستين ميلاً في الساعة ، ولكن لو كان القطار يتحرك بسرعة مساوية لنصف سرعة الضوء ووجّهتُ ضوء مصباح يدوي صغير بإتجاه قاطرة المحرك فإن سرعة شعاع الضوء الواصل للمحرك يتوجب أن تكون مرةّ ونصف المرة بقدر سرعة الضوء العادية ، ولكن بالنسبة لآينشتاين فإن الأمر لايحصل هكذا !! : الزمن بالنسبة لآينشتاين يمضي ببطء كلما إقتربت السرعة من سرعة الضوء وبالنتيجة فإن أعظم سرعة ممكنة لن تتجاوز سرعة الضوء .
هنا ثانية تقاطعت فكرة إمكانية أن يمضي الزمن بسرعات متباينة مع الحس البدهي العام السائد ، كما عملت تلك الفكرة على تعزيز شعوري بأن آينشتاين قوّض كل يقينياتي القديمة ، وقد شعرت بطريقة حدسية معظم الوقت أن آينشتاين لابد أن يكون مخطئاً بإعلانه أن سرعة الضوء هي الحد الأقصى وأن هذا الإعلان قانون طبيعي مثل القوانين الأخرى المعروفة . كنت أفكر بعد كل هذا : إذا كان الضوء ينتقل حقاً أبطأ في الماء عنه في الهواء ، فلماذا لايمكن له ايضاً أن ينتقل أسرع تحت ظروفٍ ما ؟ . تعاظمت تلك المعضلة معي وبخاصة إذا ماعلمنا حقيقة رغبتي في تصديق آينشتاين ، لكنّي وبرغم كل هذا كنت أستشعر متعة كبرى في الحديث عن نظرية النسبية لأصدقائي في المدرسة و من بعدها الإجابة على إعتراضاتهم ، ومضيت في ” إبتلاع ” أفكار آينشتاين بشأن نسبية الفضاء والزمن وقبلتها على مضض رغم أنها كانت تسبّب لي عسر هضم إلى جانب أنها كانت تجعلني أشعر شعوراً متفاقماً بالقلق وعدم الأمان .
تعاظم شعوري فجأة أحد الأيام بعدم الثبات والإستقرارية في المدرسة خلال إحدى حصص تشكيل المنحوتات الطينية : فقد مضيت حينذاك في مناقشة طويلة حول معضلة الكون المتوسّع مع صديق لي يدعى ( سايريل فلين ) ، وكانت الموضوعة الرئيسية في نقاشنا هي إلامَ يستحيل الكون بعد أن يتوسّع ؟ كان المفترض السائد طبعاً أنه يتوسّع نحو الفضاء الفارغ الممتد خلف النجوم ، ولكن : هل ثمة حدود ينتهي عندها الفضاء ؟ لايمكن للفضاء أن يكون لانهائياً ( كما نتصوّر ) ومع ذلك فإن من المستحيل أيضاً أن نتخيّل حافات نهائية له – هكذا مضت مناقشتنا ، ثم شعرت على نحو فجائي بخطر داهم ينتابني وتلبّسني شعور بأن العالم حولي لم يكن ثابتاً وآمناً كما بدا دوماً . يأتي الأطفال لعالم ممهّد لهم بصورة مسبقة : يفترض الأطفال أن البالغين يعرفون كل شيء ، وحتى بعدما يدركون أن هؤلاء البالغين هم أكثر جهلاً ممّا توقّعوه فإنهم يستمرون في الإعتقاد بأن كل الأسئلة لابد أن يكون لها جواب ما ، وأن كل الحقائق الأبدية لابد أن تبقى أبدية خالدة ، لكنني كنت في المدرسة آنذاك قد إكتشفت سؤالاً بدا أن لاجواب سهلاً له إلى جانب أنه جعلني مشوش الذهن وخائفاً .
يدرك الجميع أنّ من الأمور الصعبة للغاية التركيز على قراءة كتاب إذا ماكان المرء مضطراً للتوقف وتفحّص بعض التفاصيل كل حين كما يكون صعباً للغاية في الوقت ذاته مواصلة العيش بثقة وعلى نحوٍ طبيعي طالما ان المرء يشعر مع الكتاب بإفتقاده الثبات والتوازن ، وحينها سيغدو كل جهد لإستعادة الإستقرارية عديم الجدوى ، وبدا لي آنذاك أن الإشكاليات التي أثارها آينشتاين قد هشّمت إحساسي القديم بالأمان الفكريّ . لطالما مثّل لي كلّ من شارلوك هولمز وَ دوبين* رمزاً لإحساسي بكون المثقف قادراً على تفكيك أية معضلة إشكالية ، وبناءً على هذه القدرة فإن الإرتقاء بالعقل إلى جانب إكتساب المعرفة هما الهدف الأسمى الأكثر أهمية من سواه والذي ينبغي أن يكرّس كل كائن إنساني نفسه له ، ولكنّ هذا الهدف بدا لي الآن وهماً خالصاً وبدا أنه بدلاً من أن يوفّر لي ملاذاً عقلياً آمناً يمكنني أن أطلّ منه بثبات نحو الفوضى التي تجتاح الوجود الإنساني فإن العلم جعلني أغطس في محيط لانهائي من الفوضى الشاملة .
هوامش المترجمة
_____________
* أوغست دوبين: C. Auguste Dupin شخصية خيالية لمُحقق ألفها إدغار آلان بو ، وقد ظهر دوبين لأول مرة في العمل المسمى ( جرائم شارع مورغ ) الذي ألفه بو عام 1841 والذي تم اعتباره على نطاقٍ واسعٍ أول قصة أدب بوليسي في العالم.