*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
فصول مترجمة من كتاب ( الكتب في حياتي ) للكاتب – الفيلسوف
كولن ويلسون
القسم الرابع
الحقيقة بشأن ويلسون – تتمّة
في الحكاية الأخيرة من السلسلة يروي ويلسون حكايته المدهشة : هو يبلغ مايقارب المائتي سنة ، وأنه أطال النظر في في معضلة الموت وقصور الجسد البشريّ بعدما إجتاح وباء قاتل سكّان ( ستايلينغ ) في بواكير القرن التاسع عشر فأتى على كلّ فرد من سكانها على وجه التقريب . ” بلغتُ قناعة متجذّرة أن الجسد البشري – إذا ما إرتقى بثبات وعومل بطريقة لائقة – هو آلية تستعصي على التدمير والتلف من الناحية العملية ” – هذا مايقوله ويلسون الذي مضى بحثاً عن الجامعات في القارة الأوربية ودرس فيها الطب وعلم الأحياء ( البيولوجيا ) ليتعلّم كيفية خداع الموت حتى إكتشف السرّ أخيراً : الإبطاء المقصود للفعاليات الأيضية ( البنائية ) الحيوية للجسم Metabolism بإستخدام القدرة الخالصة للإرادة الفردية . كان ويلسون بالفعل مثالاً حياً لما أراد – فقد كانت ضربات قلبه متباطئة إلى الحد الذي نلحظ فيه فاصلة سكون طويلة نسبياً بين نبضة وأخرى .
تبلغ حكاية ويلسون خاتمتها عندما ينضمُّ ويلسون إلى القوة الجوية الملكية ، ثم يُبلّغ عن فقدانه في إحدى الفعاليات العسكريّة ، ولكنّ كل يافع يرتاد المدرسة كان يعلم حينها أن الرجل عصي على الفناء وأنه سيعود عمّا قريب !! ، وقد عاد الرجل بالفعل وعاود الإعلان عن نفسه في واحدة على الأقل من الحكايات اللاحقة على الرغم من أنني لم أعد أذكر منها شيئاً .
أثّرت حكايات ( الحقيقة بشأن ويلسون ) فيّ عميقاً وإلى أبعد الحدود : بدا لي ويلسون صائباً دوماً وعلى نحو مطلق ، كما لم أقتنع بأي سبب يبعِد الكائنات البشرية عن محاولة تعلّم كيفية مراوغة الموت وخداعه وعصيان سطوته ، وعندما بلغت الخامسة عشرة وقرأت عملَيْ برناردشو ( الإنسان والإنسان الخارق ) و ( العودة إلى ميتوشالح ) أدركتُ على الفور أن برناردشو كان يقارِب موضوعة الموت ذاتها وانتهيت إلى أنّ برناردشو وحده – بين كُتّاب القرن العشرين – إمتلك الشجاعة لتأكيد حقيقة أن الإنسان يمكن أن يكون إلهاً في حين كانت الكآبة والروح الإنهزامية السمة النموذجية المميزة لأدبيات الكتابة السائدة في القرن العشرين .
في عام 1958 ، وبعد سنتين من نشر كتابي الأول ( اللامنتمي ) ، بدأت بكتابة كتاب عن الروح التشاؤمية التي تتغلغل في كل مفاصل الأدب الحديث ، وبالطبع كنت عالماً حينها كيف تطور الأمر وانتهى إلى هذه النهاية السوداوية : إختبر الرومانتيكيون العظام في بواكير القرن التاسع عشر نوباتٍ من الأمزجة المتخمة بالنشوة التي دفعتهم دفعاً ليكونوا مقتنعين بأن الإنسان يمتلك القدرة ليستحيل إلهاً ، ولكن المعضلة التي جابهتهم أنهم لم يكونوا قادرين على إدامة تلك النشوة بعد أن تغادرهم – كانت النشوة تختفي بكل بساطة تاركة إياهم تعساء ومتعبين من الحياة ؛ الأمر الذي دفع الكثير من أعاظم الرومانتيكيين لمغادرة الحياة إنتحاراً أو موتاً بفعل الخذلان والإفتقاد إلى الشجاعة اللازمة في الحياة . ورث الكتّاب في بدايات القرن العشرين ( مثل تي. إس. إليوت و دي. إج. لورنس ) هذه المعضلة من أسلافهم وماكانوا قادرين على إيجاد أي حل معقول لها ، ثم جاء ورثتهم ( سارتر ، كامو ، صامويل بيكيت ، غراهام غرين ) فنظروا إلى هذه المعضلة بإعتبارها أمراً لانملك أزاءه دفعاً مثلما رأوا أنّ في عداد الأمور المفروغ منها والمقطوع بصحتها كونُ الحياة البشرية عديمة المعنى وأن ” الإنسان ليس سوى محض عاطفة لانفع يرتجى منها ” كما قال سارتر ، ولم يتغير المشهد كثيراً في لحظتنا الراهنة بعد حوالي نصف قرن – إذ لايزال المتشائمون مهيمنين على الأدب الحديث حتى بات في عداد الأقوال الصائبة أن أي كاتب إذا ماإبتغى الحصول على جائزة نوبل للأدب فينبغي عليه أن يؤمن إيماناً جازماً أن الحياة البشرية عبثية ومأساوية تماماً !! .
جاء كتابي ( عصر الهزيمة ) ليكون ردّاً معاكساً على هذه النزعة التشاؤمية العدمية برمّتها ( ظهر الكتاب في أمريكا تحت عنوان ” قامة الإنسان ” لأن ناشري الأمريكي إبتغى عنواناً أكثر خفّة وتفاؤلاً ) ، وقد جاءت حكاية ( الحقيقة بشأن ويلسون ) في سياق كتابي هذا كمؤثر إمتلك سطوة عظيمة على أفكاري ، وكانت نتيجة قراءتي لتلك الحكايات المدهشة أنني تسلّمت يوماً ما رسالة من أحد الأشخاص الذين عملوا لحساب صحيفة ( الساحر ) ، وقد أرفق الرجل رسالته مع مجلّدات عدة ذات أغلفة ورقية تضمّ كل حكايات ( الحقيقة بشأن ويلسون ) ، وأوضح الرجل في رسالته أن تلك الحكايات كانت نتاجاً لجهد جمعي مشترك نهض به فريق من الكتّاب كان هو أحدهم وحسب ، كما أخبرني أنه كان في غاية السعادة والإنشراح بعد إتمامه قراءة رسالة الإطراء التي كتبتها للصحيفة بشأن حكايات ويلسون .
بدأت بقراءة كتب حكايات ويلسون الكاملة مع بعض الشكوك التي كانت تراودني ؛ كنت حينها مقتنعاً أنني سأجد الكتب مخيبة لآمالي ، ولكنني في واقع الأمر غدوت مندهشاً لإكتشافي كم كانت تلك الحكايات رائعة – إذ على خلاف الحكايات الأخرى التي كتبها فريق العمل ذاته مثل ” القاتل سليد ومُهرته السريعة ” و ” صانع الأهداف ” فقد كانت حكايات ويلسون تمتلك إيقاعاً سريعاً إلى جانب التشويق والخيال ، غير أنني سأسارع إلى القول أن أسلوب الحكايات كان فظيعاً للغاية : إذ مامِن أحد يقول شيئاً مثلما يقول كل الناس بل نقرأ عوضاً عن ذلك عبارات مثل ” إجترحتُ نميمة ” ، أو ” تمتم بسخرية ” ، أو ” صرّح ويلسون ” ، أو ” أوضح الصبي بفضول ” ،،،، ولكن برغم كل هذه الهنّات فقد إمتلك العمل صفة النزوع الإكتشافيّ الخالص – ذلك النزوع الذي وجدته مثيراً للإعجاب ، لكن بالطبع كان لكتاب الحكايات جوانبه اللامعقولة : عندما إنهار ويلسون مثلاً بعد إتمامه ركضة الميل في أقلّ من أربع دقائق ، هل يبدو أمراً محتملاً أن يتركه الصحفيون المتجمهرون حوله يتسلّل مختفياً من غير أن يلاحظه أحدهم ؟ كان موكبٌ من السيارات سيرافق الرجل حتى يوركشاير في أقل تقدير !! . يبدو ويلسون في حكاياته وهو يتصرّف طبقاً للقناعات الأساسية السائدة بشأن ( سوبرمان ) أو ( باتمان ) حيث ينبثق البطل الخارق من وراء أقنعته المستعارة متى ماوجد الأمر يتطلب فعلاً بطولياً خارقاً ، ثم سرعان مايُسمح له بالعودة إلى مخبئه الغامض بعد أن ينجز عملاً من الأعمال البطولية المدهشة والعصية على التصوّر .
عندما أعقُدُ مقارنة بين حكايات ( الحقيقة بشأن ويلسون ) و حكايات ( القاتل سليد ومُهرَتُهُ السريعة ) وكذلك مع حكايات أخرى شبيهة بها ، لاينفكّ عقلي يذكّرني بالكاتب ( برام ستوكر Bram Stoker ) الذي أنتج تحفة أدبية وحيدة في حياته – دراكولا Dracula ، ثم أعقبها ببضعة أعمال روائية بلغت من السوء مبلغاً يتعذّر معه على المرء التصديق بأن كاتبها هو ذاته الذي كتب ( دراكولا ) ، ويبدو الامر في معظمه كما لو أن نزعة مصّ الدماء Vampirism هي التي ألهمت ستوكر ودفعته لكتابة تحفته الروائية ، وأن ومضة الإلهام العبقري تلك هي التي أنضبت موهبة ستوكر وجعلت أعماله اللاحقة تبدو متصحرة قاحلة .
بدا مؤكّداً أن يعلن يونغ ( العالم النفسي المعروف ) أنّ مصّاص الدماء هو أحد ” النماذج البدائية الاصيلة للّاوعي الجمعي ” ، وان هذا اللاوعي الجمعي هو أحد المصادر التي لعبت دوراً ما في كتابة ( دراكولا ) ، ولكن : أليس البطل الخارق هو الآخر أحد النماذج البدائية الأصيلة للاوعينا الجمعي ؟ وفي تلك الحالة ، ألن يكون ممكناً أيضاً أن اللاوعي الجمعي يمكن أن ” يستحوذ ” على عقول مجموعة من الكُتّاب القراصنة الذين يعملون في صحيفة لليافعين وينتجون تحفة أدبية تحكي عن نموذج بدائي أصيل لإنسان خارق ؟
_________
*المدى