الكتب في حياة كولن ويلسون (7)

 

*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

 

فصول مترجمة من كتاب ( الكتب في حياتي ) للكاتب – الفيلسوف

                                 كولن ويلسون

                                   القسم السابع

 

                               العلم والعدمية

     عندما أفكّر في حياتي بطريقة إسترجاعية لما حصل فيها أستطيع تسويغ السبب وراء قراءتي المتواصلة التي بدت وكأنها لن تنتهي يوماً ما – كانت قراءاتي ببساطة علامة على غريزة طبيعية فيّ للغوص بداخل الفضاء الجوّاني اللانهائي للعقل البشري ، ولكن بدا لي منذ البواكير الأولى لحياتي  – مثلما بدا لمن حولي – أنني أفضّل العيش في عالم الخيال بدلاً من العيش في الواقع ، وحصل بعد قرن مضى على عصر ( هوفمان* ) و ( بو ) أنني كنت في طور الإستحالة لأغدو رومانتيكياً نموذجياً من رومانتيكيي القرن التاسع عشر بكل ماترتّب على هذه الإستحالة من كراهية ” العالم الواقعي ” وتفضيل عالم الخيال عليه ، ولحسن حظّي عندما بلغت العاشرة كنت قد إكتشفت مملكة ساحرة تناظر في سحرها عالم الخيال الرومانتيكي – ذاك هو عالم العِلم .

     حصل الأمر في بداية علاقتي مع العلم عندما زوّدتني إحدى عمّاتي ببضعة أعداد من مجلة تدعى ( العلم الذي تقرأه وأنت جالس على الأريكة ) ، وقد إحتوت تلك الأعداد على مقالات في موضوعات متباينة مثل : القنوات على سطح المريخ ، الآلة التي تدعى السايكلوترون والمستخدمة لشطر الذرات . في إحدى زياراتي لعمّةٍ وعمٍّ لي يقيمان في مدينة قريبة من منزلنا أسهبتُ في الحديث عن العلم إلى الحد الذي دفعهما لشراء مجلّد لي عنوانه ( أعاجيب العلم وأحجياته ) وقد كلّفهما الأمر التضحية بخمسة شلنات آنذاك . كان المجلد يبدأ بقسم إفتتاحيّ عنوانُهُ ( عجائب السماء ) وهو الآن أمام ناظريّ وأنا أكتب هذه الكلمات ، وقد إحتوى ذلك القسم تفاصيل بشأن الشمس والقمر والكواكب والنجوم كما ضمّ فصلاً يحكي عن كيفية نشوء الأرض . بعد أن قرأت ذلك القسم تعاظمت حماستي للإستزادة من علم الفلك ، وعلى غرار ديكنز ودوماس فقد أسهمت حماستي تلك في تعزيز نزعتي الرومانتيكية : أظهرت إحدى الصور الفوتوغرافية في المجلد السديم الحلزوني المسمى ( أندروميدا ) مع آثار مسار نيزك في السماء شبيه بضربة برق ، وأظهرت صورة أخرى صخرة عظيمة على حافة فوهة بركان في أريزونا ، وفي الوقت الذي مضيتُ فيه بإندفاعة وشغف أقرأ بشأن مذنّب هالي وتوابع المريخ والبقعة الحمراء الغامضة على سطح المشتري ( التي بتنا نعلم الآن أنها عاصفة عملاقة ) فإنني لم أعُدْ بعدها صبي المدرسة الذي يعيش في مدينة صناعية تبعث على الملل بل كنت أرى نفسي عالماً إستبدّت به  أحجيات الكون وملكت عليه حواسه وملأته ذهولاً ودهشة .

     أعجبتُ آنذاك بكتاب آخر أهدانيه جدّي وكان عنوانه ( معجزة الحياة ) ، وعلى الرغم من أنني كنت أقل إهتماماً بالدببة القطبية وحيوانات خلد الماء بطّيّ المنقار** بالمقارنة مع إهتمامي بالنجوم والكواكب لكنّ صورةً لأخطبوط مستلقٍ على صخرة أدهشتني غاية الإدهاش : فقد كنت مثل كل الأطفال أجد شيئاً من السعادة والتشويق في المواقف التي تنطوي على رعب معتدل الشدة ، وقد إختبرتُ الدهشة المرعبة ذاتها وأنا أدقق في صور أسماك القرش المفتوحة الأفواه ، و سبق لي مرة من قبل أن رأيت صورة شخص شطرته سمكة قرش إلى نصفين !! وراحت دماؤه تصبغ المياه المحيطة حوله ؛ الأمر الذي تسبب لي بالصدمة والتقزّز . بدا لي دوماً أن ثمة مفارقة ينطوي عليها هذا العالم – إذ كيف يمكن أن يتفق عالم متخم بالجمال ( مثلما نشهده في أشجار الليلك وشلالات المياه والليالي المقمرة الساحرة ) مع عالم يعج بالأخطار ؟

     أجد من اللازم هنا أن أحيد قليلاً لأوضح أنني في الأوقات ذاتها التي إستولى فيها عليّ عشق العلم وأحجياته كنت قد قرأت مقالة نُشِرت في بداية الحرب العالمية الثانية وكتبها مارشال الجو ( داودنغ ) الذي خدم في القوة الجوية الملكية . إدّعى ( داودنغ ) أن مقالته تلك هي ماأملاه عليه طيّار ميت وصف فيها بالتفصيل كيف أسقِطت طائرته والدهشة التي ملأت كيانه لمعرفته بأنه لايزال حياً على الرغم من أن جسده كان ميتاً بعد إسقاط طائرته !! ، ومن المؤكد أنني لم أعد قادراً على إسترجاع تفاصيل تلك المقالة بعد حوالي نصف قرن من نشرها ولكن لاأزال أذكر أن المقالة قالت أن الطيار وجد نفسه في حالة شبيهة بالشفق الفضي الذي يستحيل تدريجياً ليغدو ضوء نهار مشرق ، ثم يشرع الطيار في وصف كيفية إنتقاله التدريجي ليصبح مهووساً بالعالم الأخروي ، ولاأزال أذكر لليوم وصفه للسباحة في مياه تجعل جلد جسمه  جافاً تماماً . لم أشعر حينذاك بأية نزعة شكوكية تجاه ماورد في المقالة ؛ فقد بدت لي صريحة ومباشرة وموضع ثقة وإعتمادية تماماً مثل مقالات كتاب ( أعاجيب العلم وأحجياته ) ، ويبدو أن المرء وهو بعمر التاسعة أو العاشرة يميل لإعتبار أية مادة مطبوعة مقبولة ويتعامل معها على أنها واقعة حقيقية . بدا أن هذا هو جواب لمعضلة أخرى أرّقتني كثيراً – ماالذي يحصل لنا بعد أن نموت ؟ ملأت مقروءاتي آنذاك بعضاً من الثغرات في معرفتي الآخذة بالنمو التدريجي بشأن الكون والحياة : قبل ثلاث سنوات من ذلك الحين وعندما كنت في حوالي السابعة من العمر كنا قد درسنا الدرس الأول في مادة التأريخ في المدرسة وكان ذلك أول عهدي بوجود كائنات تدعى الديناصورات ، وقد شعرت بدهشة عميقة لأن والديّ لم يكلّفا نفسيهما أبداً عناء حكاية شيء مثير وعلى تلك الدرجة من الأهمية لي ، ومنذ ذلك الحين عزمت على إستعارة الكتب من مكتبة المدرسة لأتعلّم بنفسي الفرق بين الأنواع الشائعة من الديناصورات . بدا لي العالم حينذاك مليئاً بحقائق مهمة لم يذكرها على مسمعي أيٌّ من الناس الذين أعرفهم ، وأصبحت الآن أعلم شيئاً عن الحياة الأخروية بعد الموت واكتشفت أن جدّتي كانت  ذات مواهب روحانية ، وأن ثمة كتب كثيرة في القسم الخاص بالبالغين في المكتبة تحكي عن الأشباح والأرواح الشريرة والمنازل المسكونة ، وكعادتي بالطبع مضيت في قراءة جميع تلك الكتب واحداً إثر الآخر .

     كانت إهتماماتي بالظواهر الطبيعية الخارقة تتخالف مع شغفي بالعلم وتتقاطع معه على نحو بيّن : فبعدما قرأت الكثير بشأن أعماق الكون اللانهائية والعوالم الخبيئة داخل الذرات صرت أشعر بإزدراء تلقائي تجاه الظواهر الخارقة والمفارقة للعالم الطبيعي ، وبالمقارنة مع التساؤل المستديم حول ماإذا كان الكون دائم التوسّع فإن التساؤل بشأن خلود الروح بعد موت الجسد بدا على شيء من السذاجة ، يُضاف إلى ذلك أن كثرة من الناس أصابت عقلي بالدهشة بعد إدراكي لمدى حماقتها ؛ إذ لم أر أي أحد منهم يهتمّ إهتماماً جدياً لمعرفة هل ستخلد روحه أم لا بعد الموت ، ولم يكن بوسعي أن أفهم لِمَ لَمْ يشاركني أيٌّ من أقراني اليافعين شغفي وفضولي بشأن الكون . عندما بلغت الثانية عشرة أو الثالثة عشرة كنت قد أيقنت بعدم أهمية التساؤل حول خلود الروح من عدمه ولازمتني تلك اليقينية لثلاثين سنة لاحقة وحينها حسب عاودني شعور الإهتمام بتلك الموضوعة وإندفعت لإحيائها بعد أن خبت في نفسي طيلة تلك السنوات .

     عندما بلغت الحادية عشرة أهدتني أمي بمناسبة أعياد الميلاد طاقم عدّة كيميائية كاملة تُستَخدَمُ لإجراء التجارب ، ومنذ ذلك الحين  أمست  الكيمياء الموضوع الأثير الأكثر قرباً لنفسي من بين كل الموضوعات التي يحتويها العالم ، وصرت أنفق كل مصروفي الشخصي في شراء المواد الكيميائية كما إعتدتُ على قضاء عطلات نهاية الأسبوع وأنا منغمس في إجراء التجارب الكيميائية في الغرفة الإحتياطية بمنزلنا ؛ الأمر الذي ترتّب عليه شيوع روائح ثاني أوكسيد الكبريت وكبريتيد الهيدروجين في أرجاء المنزل . واحدة من بين التجارب الكثيرة التي أجريتُها أدهشتني أكثر من غيرها : خلط الكبريت مع برادة الحديد ثم تسخين الخليط على نار هادئة ، وحالما تتحول قطعة الكبريت إلى سائل بُنيّ كنت أبعد الشعلة عن الخليط لأترك التفاعل يستمر بهدوء حتى تستحيل الكتلة المتمازجة قطعة من كبريتيد الحديد ، ولطالما ذكّرتني هذه التجربة بالطريقة التي أختبرتها في طفولتي عندما كانت ومضة سعادة صغيرة تتشكّل على نحو فجائي في العقل ثم كانت تنتشر حتى يغدو الكائن البشري منتشياً بكامله مع إحساس متوهّج بالبهجة والثقة .

     أعطاني جدّي ذات مرة وفي وقت مقارب من سني الحادية عشرة مجلة قديمة عن رواية الخيال العلمي ، وهنا صار في مقدوري أن أضمّ الشكلين المتمايزين من إهتماماتي في بوتقة واحدة – العلم وعالم الخيال – وبدأت منذ ذلك الحين أجمع المجلات التي تعنى برواية الخيال العلمي بالحماسة المهووسة ذاتها التي أبديتها تجاه الكيمياء .

     عرفت إسم ( آينشتاين ) لأول مرة بعد أن قرأت بشأنه على صفحات مجلات رواية الخيال العلمي تلك ، وكان من الواضح تماماً أنه يُعدُّ الأعظم بين علماء العصر الحديث وأن نظريته في النسبية تعدّ واحدة من أعظم الإنجازات الفكرية في القرن العشرين .  قرأت أيضاً تعليقاً يقول أن مالايزيد عن ستة أشخاص في العالم هم وحدهم من يفهمون النظرية النسبية حقاً ، ومن الطبيعي أن يكون هذا التعليق قد ملأني بشغف متعاظم لايمكن ردّه أو كبحه لأكون الشخص السابع الذي يفك مغاليق هذه النظرية ، لذا مضيت أبحث في فهرس عناوين الكتب في المكتبة وكنت في غاية الغبطة بعد أن عثرت على كتاب آينشتاين المعنوَن ( النسبية : النظرية الخاصة والعامة ) . يتوجب علي الإعتراف بأن محاولتي الأولى لقراءة كتاب آينشتاين لم تكن سوى خيبة أمل كبيرة : كان عنوان الفصل الأول من الكتاب ( المعنى الفيزيائي للإفتراضات الهندسية ) وقد إبتدأه آينشتاين بالعبارة التالية :

   ” عندما كنتم تلاميذ في المدرسة فإن معظمكم – أنتم الذين تقرأون هذا الكتاب – يدرك البناء الرائع الذي أقيمت عليه هياكل الهندسة الإقليدية …….. “

     وبقدر ماكان الأمر يهمّني فإن ماقاله آينشتاين لم يكن يصدّق عليّ ؛ كنت حينذاك قد بلغت بالكاد الحادية عشرة من عمري وبالكاد أيضاً كنت قد تعرّفت في المدرسة على المقدّمات الأولية البسيطة فحسب للهندسة الإقليدية مثل كيفية تحويل الدائرة إلى شكل سداسي متساوي الأضلاع بإستخدام زوجٍ من الفراجيل ، أو كيفية حساب مساحة مثلث قائم الزاوية ، ولكن لم يحصل وأن ذكر أحد المدرّسين إسم أقليدس أمامي ، كما لم يكلّف أحدهم نفسه عناء الحديث بشأن ماتعنيه مفردة ( البديهيات Axioms ) الشائعة في الهندسة الإقليدية والتي كنا – نحن الطلبة –  سنجدها مضجرة حتماً لأنها تبدو واضحة بذاتها ، لذا فإن ملاحظة آينشتاين التالية ” ….. سنفترض في الوقت الحاضر صحة البديهيات الهندسية الإقليدية ، ثم سنرى في مرحلة أخرى لاحقة ( ونحن نحكي عن النسبية العامة ) أن هذه الصحة المفترضة محدودة بقدرٍ ما … ” صعقتني ووجدتها فاقدة للمعنى تماماً ، وإلى جانب هذا فقد بدا لي أن المفترضات التي إستخدمها آينشتاين كانت غير صحيحة ؛ إذ عندما أوضح آينشتاين لاحقاً في كتابه أن مجموع الزوايا الداخلية لمثلث مرسوم على سطح كرة يبلغ أكثر من 180 درجة شعرت بأن هذا الأمر لم يكن صادقاً بكامله لان هذه الحالة كانت محض حالة خاصة ولم تكن لتطعن في صحة الهندسة الإقليدية المستوية حيث يكون مجموع الزوايا الداخلية لأي مثلث مساوياً بالضبط لِـ ( 180 ) درجة .

                                           هوامش المترجمة

*  إيرنست تيودور أماديوس هوفمان : مؤلف رومانتيكي يعدّ من كبار الكتّاب الرومانتيكيين المؤثرين في الحركة الرومانتيكية ، ولعبت كتاباته دوراً عظيماً في القرن التاسع عشر . ولِد في مقاطعة بروسيا عام 1776 وتوفّي في 1822 وقد شملت إهتماماته حقول أدب الفنتازيا والرعب والقانون والتأليف الموسيقي والنقد الأدبي والحرف اليدوية وفن الكاريكاتير .

**  خلد الماء بطيّ المنقار :  حيوان  فقري من الثدييات ذوات الدم الحار ولكنه يبيض ولا يلد ، ويرضع أطفاله ، وهو أحد نوعين فقط من الثدييات  التي تضع البيض ،  ويعيش في قارة أوقيانوسيا وبخاصة على شواطئ البحيرات والأنهار شرقيّ القارة الأسترالية .
__________
*المدى

 

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *