حكاياتي نوع من الخرافة عن التاريخ وأهل الخلافة والبرابرة وأهل الظرافة، خذ الحكاية وتصرف بها على هواك، صدقها أو اضحك منها أو إنسها، نحن نروي الحكايات لنستطيع تحمل الزمان . لطفية الدليمي ..
بداية ، أرى قبل سبر عوالم سرد المبدعة لطفية الدليمي ، وفي هذا العمل بالذات “سيدات زحل.. سيرة ناس ومدينة “، ما ينبغي على المرء التوضؤ والتأمل وتطهير الروح ، ذلك لأنَّ بحارها هي من العمق والتيه بحيث من الصعوبة بمكان المغامرة فيها ، إلاّ مَنْ تمرَّس على الإبحار في قاعها رغم ما يُغري فيها من سردِ حزنٍ حلمي لذيذ ، وقد يكون هذا طعما . نعم ، هذا ما حصل لديَّ حين غامرتُ ودخْلت تلكَ العوالمِ الهيولية – الصوفية وتمنيت على نفسي أنْ لا انتهي منها والبقاء محلًّقا في أجوائها من المتعة ولذة القراءة ، حسب باشلار .
لا شك ، أنَّ مَنْ يتابع أعمال الروائيةِ لطفية الدليمي ، يدْرك تَماما أنّها في حالة تجاوز لكلِّ عمل إبداعي ناجز لها، رواية ، قصة ، الخ . ويدرك أيضا أنَّ مَسْردَها الإبداعيّ الروائيّ ليس بالأمْرِ الهيِّن ، خاصة إذا عرفنا أنّها من الهامات المتعملقةِ في السرد إنْ صحَّ التعبير . وفي هذه الروايةِ ، رواية “سيدات زحل .. سيرة ناس ومدينة .” سطَّرت ملحمة تراجيدية لتاريخ شعبٍ قاده حكام وملوك وأباطرة إلى محارق النارِ، ولهبِ الجحيم، ودياجين السجون ، والفقرِ المْدْقعِ ، بمنتهى الخسة والهمجية والانحطاط الإجتماعي والسياسي والفكري ..
وهنا ، في هذه الرواية ، المدوَّنةِ ، لا أريد أن استرجع العمل السردي تعريفا أو عرضا ، لأنّه بهذا يمس النص مسًّا خفيفا دون البحث ما ورائه ، أوالغور في مضامينه . كما لا أريد أنْ اعرض ملابساته وتحليل شخصياته ، رغم ما تعرضت له هذه الشخصيات من مكابدات وتهميش واستلاب وقتل وامتهان واستباحة ، ورغم أهمية ودور هذه الشخصيات . وربما تُعدُّ هذه الرواية ، رواية شخصيات أصلا؛ ولكن ، سأشير إليها في تناولي للجانب الملحمي والتراجيدي ، فضلا عن الثيمي قدر حاجتي إلى ذلك ، والتركيز على ثيمته حاضرا وتاريخا لتنسجم مع ما قامت به الساردة لطفية من تفكيك للتاريخ archeology ومحمولات دلالاته ، بكل مفاصله الحاضرة والغابرة ، مما يتيح للقاريء أنْ يمتح نصّه إيّاه. وسنتحدث عن هذا من خلال تناولنا هذا للعمل ..
إذا ، هذه الرواية ، يمتد ويتسع سردها الى أعماق أزمنة ، وعهود غابرة عاشها العراق ، ثيمتها تاريخ طويل لشعب واجه العسف والإبادة والتنكيل ، ناهيك عن الحروب ، من حكام طغاة أحكموا قبضتهم عليه بالنار والحديد .. واستطاعت الراوية لطفية الدليمي من خلال هذا السرد ، الإمساك بخيوط اللعبة وتحريكها للمكان والزمان . حاضران وغائبان ، وبجدارة .
وربما أرادت الساردة ايضا أنْ تجعل من الزمكان أبطالا لهذه الرواية كبطولة الإنسان – الشخصيات ، أو حتى بطولة السرد ، ومثل هذا يحتاج الى مقدرة إستثنائية للعملية السردية . وقد نجحت تماما في ذلك ، خاصة إذا علمنا أنَّ المساحة الزمكانية لهذا العمل تمتد من 1258 م، حين غزا مغول هولاكو العراق وحتى زماننا هذا. وهذا يعني امتداد احداث هذا التاريخ على مساحة هذا الزمان – المكان ولا يمكن الإمساك بكل تلابيبه ما لم يكن له سارد مؤهل تماما ، ويلُّم بكل احداثه وتداعياته ونوع منظومته فنّا وتقانة وسايكولوجيا ، كما فعلت المبدعة لطفية الدليمي ..
وثمة سؤال يطرح نفسه علينا هنا ، هل هذه الرواية ، هي رواية تاريخية بالمعنى التسجيلي للتاريخ والمكان والزمان، أم انها رواية اعتمدت السرد الإبداعي ثيمتها التاريخ حسب ؟
يجيبنا والاس مارتن في كتابه نظريات السرد الحديثة ” أظهر فلاسفة التاريخ أنَّ السرد ليس بديلا إنطباعيا ، لا غير، للاحصاء المعول عليه ، وإنما هو طريقة لفهم الماضي لها أساسها المنطقي .ص 5″ وانطلاقا من هذا الفهم ، فإنّ المسرودات الأدبية في هذه الرواية إستخدمت التاريخ والتخييل أو ما يسمى Metafictionفي آن متوازيين ، أو متقاطعين ، أو متداخلين ، باعتبارهما مادة من اشكال المسرودات للوصول الى غايتها الإبداعية . وكانت الراوية لطفية مدركة تماما لهذا الجانب حين استخدمت التاريخ عجينة لصياغة احداث الرواية التخييلية ، إبتداء من هبوط المارينز وصعودا إلى عصر داود باشا ونزولا إلى النظام الشمولي وهروب رأسه بحثا عن طريقة ينجي نفسه من الموت بها وهذا شأن الحكام الشموليين .
أو بمعنى آخر، أنَّ الروائية لطفية لم تخلق من التخييل تاريخا واقعا ، بل خلقت من التاريخ تخييلا ، له امتدادات وازمنة وتاريخ وشعب وأنظمة حكم، وانطلقت تنسجُ عملها الإبداعي على وفق منوالها ، وقدَّمت لنا رائعتها الأدبية هذه ، وهذا هو الفرق بين الأدب والتاريخ.. ولا شك أنَّ ثمة مقاربات سردية بين التخييل الروائي والجسدِ التاريخي . وكانت الروائية تلعب بلعبتها بين َذيْنك المفهوميْن من الكتابة رغم إنَّ لكل منهما مساره الذي اختط . وكانت لعبتها هذه ماهرة ، أتقنتْ إجادتها تماما ، كما ثمة لعبةُ جميلةُ تقوم بها الساردة إذ تنتقل بانسيابية بين ذيْنك المفهومين ، وأحيانا تمزج بينهما بطينة مرنة لتخلق منها تماثيل بجماليونيَّة ، وأحيانا اخرى لعبًا دميمة.
هذه الرواية ، رواية سيدات زحل – قصة ناس ومدينة – هي ملحمة شعب عريق ذاق الويلات والحروب والكوارث والمحن والجائحات والنازلات ، عبْر عصور متعددة ، فيها تسرد قصصا دامية لقسوة الحكام الطغاة وبطشهم ، وتقترب ثيمتها من فضاءات ملحمة شعب ، والرواية هذه إنْ كنت لا ابالغ تّعدّ مشهدا ملحميا وتراجيديا من مشاهد يوم القيامة ، تختلط فيها الأزمنة والأمكنة وتتعدد المشاهد المفجعة وتتشابك النكبات ، وتسقط تيجان وعروش ملوك وأباطرة ، ويأتي غيرهم لا يقلون عنهم بطشا وتدميرا . وهكذا تتداور دهور وحياة هذا الشعب :
وهنا ، تروي لنا شخصية الصوفي والعرفاني الشيخ قيدار عم حياة البابلي، أنَّ بغداد تديم حياتها بين نار ونار ومذبحة وطاعون حتى يختم هولاكو عمرانها ببرج من جماجم ويقيم تيمور لنك مئذنة من رؤوس أهلها ويطلب من كل مغولي أنْ يأتي بعشرة رؤوس لرجال بغداديين ولما لم يعثروا على المزيد من الذكور فقد عمدوا إلى جزِّس رؤوس النساء وجعلوا رؤوسهن في عداد رؤوس الرجال.. الرواية ،212 ط 1.
وهي بعد ذلك كله، رواية الموت والفقد والوجع العراقي، وخرابه الإنساني وفجاعية احداثه، وتراجيدياته حاضرا وماضيا ، رواية الإنسان الذي قذف به قدره على أرض يديرها طغاة لا يشبهون أيّ طغاة في العالم ، كما عانى الوطن عبر تاريخه الدموي تراجيدية ذلك الإنسان وصراعه في مواجهة اقداره وطغاته أيضا.. لذا ، فإنَّ لطفية الدليمي عبَّرت عنه في روايتها هذه لأنها مؤهلة في أنْ تكون في مستوى الحدث الجلل ، ذلك لأنها ، ذاكرة تاريخية ، وسوسيولوجية ، وثقافية ، وفكرية، وخزين إرث شعب ، وتعبير عن حاضر وماضٍ، والإبداع سِمتها الأساس في التعبير عنها ، وامتلكت ناصيته . ولو وضعنا اعمالها على وفق تسلسل زمني ، لرأينا تسطيرملاحم شعب تراجيدية ، وإنْ بحثنا عن كوَّة فرح في حياتها لن نجد غير مسارات احزان ونكبات متواصلة ؛ وإنْ توقفًتْ الساردة عن عمل روائي ما ؛ لم يكن إلاّ فاصلة لإستنشاق نفس عميق ، كما لو أنها غرقى في عمق قاع بحر ، تبحث عن تنفس للصعداء . لطفية الدليمي امرأة افتقدت لشيء اسمه البسمة ، وإنْ تسنَّت لها ضحكة ، فهي كما يقال ضحك كالبكاء .. بأختصار ، حياتها الإبداعية كوميديا سوداء . نرى هذا جليّا في رواية سيدات زحل واعمالها الروائية الأخر، فضلا عن قصصها القصيرة ، أو كتابات نصوصها السردية .
نعم ، الإبحار في هذا السِفر، في هذا العالم السردي يشِفُ عن اسطورة مخيفةٍ ، كانت الساردة لطفية تطوف عبْرعوالمِ بحارِها التي ظلت تبحث عنها عمرا مديدا ربما وجدت ضالتها فيه هنا في هذه الرواية ، أو تحفتها الأدبية ، أذا جاز لي التعبيرالتي ضمت تسعة فصول توزعت عليها 35 كراسة ، وكل كراسة احتوت على عنوان، كما احتوت على ثيمة. وما يربط بين هذه الكراريس هو المناخ المأساوي العام للرواية ، ووحدة الموضوع ، رغم تباعد زمن عهود احداث الثيمة الرئيسة التي جزأتها الراوية الى ثيمات – كراريس بامكاننا أنْ نقرأها منفصلة عن بعضها البعض ، أونقرأ الكراريس كوحدة موضوع من الفها الى يائها وبعدد صفحاتها ، رواية مترابطة الأحداث، متماثلة الهموم والشخصيات والثيمات والبناء الفني المتساوق مع احداثها الجسام التي تشكل ايقاعات جسد الرواية الملحمية .
وهنا، وعلى ذكر هذه الكراريس ، إنصرف ذهني الى كتاب ” الديكاميرون – الألف ليلة وليلة الإيطالية ” لجيوفاني بوكاشيو الإيطالي الذي تضمن مائة قصة تضم مائة ثيمة ؛ بيد أنها جميعا تصبُّ في اتجاه واحد من حيث المضمون ، تلقيها سبع نساء شابات وثلاثة رجال شباب يلتقون في كنيسة سانتا ماريا في ايطاليا ، ويتفقون على الهرب من هلع وباء الطاعون الذي اجتاح ليس فلورنسا وحدها عام 1348 م ، ليحكون قصص هذا الوباء كما يقول مترجم الكتاب صالح علماني بل ايطاليا ، واوربا باسرها ، تحولت الى مسرح يجتاحه وباء رهيب ، قضى على ربع سكان القارة وأودى بحياة خمسة وعشرين مليون نسمة في أوربا وحدها .
والفرق هنا ، بين وباء الطاعون في اوربا ووباء طاعون الأنظمة لدينا هوأنه فعلا أشد إيلاء من مرض الطاعون ، وقد يكون الأخير حالة عابرة وتستعيد الشعوب وضعها الصحي والطبيعي ، لكن كيف بحكام طغاة يسْتولِدون حكاما أشد طغيانا وبطشا منهم .. كيف القضاء عليهم ونحن نعيش متواليات إرتجاعية متصاعدة لهذا الطغيان المستبد منذ فجر الانسان الأول على هذا الكوكب ولا نؤمن بالأنسان واحترام الرأي الآخر ؛ بل نؤمن حسب ، بالسيف وجز الرقاب والسلفية المقيتة والغيبيات .
ويبدو أنَّ الساردة لطفية في نصها الروائي هذا ارادت ان تقول لنا ان سيدات زحل لن يحالفهنَّ السعد .وانا أثني على كلامها واقول :” إنَّ المتواليات الفلكية لتاريخ العراق القديم والحديث وكل ما ورد في رواية سيدات زحل تعطينا الدليل القاطع أنَّ سوء طالع الشعب العراقي في دوراته الفلكية المنحوسة التي كان يطل علينا بها زحل عكس ما يعتقده علماء الفلك تعلقا بدورات زحل في حسن طالعه .
وتعلقا بهذا الامر أيضا ، أنَّ شخصيات رواية سيدات زحل ، شخصيات مسختها الحروب والغزوات وحكم الطغاة والكوارث وجعلت منها نماذج تماثل شخصيات رواية العمى لخوزيه ساراماغو التي حلًّ بها مرض العمى الأبيض الشبيه ببياض الحليب الذي تحول الى وباء اصاب ناس المدينة باكملها . كما أنَّ انثيالات لطفية في سيدات زحل تشبه الى حد ما انثيالات جيمس جويس في رائعته يوليسيس او كما يطلق عليه البعض عوليس. والفرق هو أنَّ رواية زحل هي الاقرب الى نفوسنا وعواطفنا وتاريخنا وتربيتنا وجغرافيتنا وحروبنا وحضارتنا ..
هنا ، أريد أنْ اقول إنَّ تشابه ما مرت به شعوب العالم ومنها شعبنا العراقي من محن وكوارث ومآسٍ إنما عبَّر عنه وسيظل يعبِّر عنه كتُاب وروائيون كبارعن حالات شعوبهم هذه ، خاصة تلك الكوارث التي عاشها الروائيون أنفسهم كما هو شأن الروائية المبدعة لطفية الدليمي وخاصة في روايتها هذهالتي لا تشبه الا نفسها..
كما وأنا أتابع بعض مًنْ تناول هذه الرواية ، نقدا أو عرضا او تعريفا، لاحظت أنَّ ثمة اشارات الى أنَّ الساردة لطفية الدليمي تبغي من خلال شخصياتها الإناث في هذا العمل الروائي أنْ تُظهِر الظلم والحيف والتمييز والعسف، الذي يمارسه الرجال ضد النساء، وخلل مكابدات الشخصيات النسائية اللائي يحملن عذاباتهن ، واوجاعهن في مواجهة اقدارهن من الواقع الإجتماعي والنفسي ، بخاصة الشخصية الرئيسة الكارزمية حياة البابلي التي كابدت كثيرا خلال أتون الحرب . وعلى الساردة أنْ تنتفض للدفاع عن بنات جنسها على مرِّ العصور. بيد أنَّ هذا الفهم هو مجافٍ للحقيقة تماما . صحيح أنَّ الرواية حملتْ عبارة ” سيدات زحل ” وأنُّ الكراريس الأخيرة في الرواية كُرسْت لشخصيات إناث؛ َوأن عدد الاناث يتجاوز عدد الذكور، لكنَّ الواقع المزري ، شمل النساء كما شمل الرجال على حدٍّ سواء ، مثل حامد الأخرس ، مدرس اللغة الانجليزية الذي قطع النظام الشمولي لسانه لأنه كان يتلو قصيدة تضمنت حوار مالكولم ابن الملك مكبث . والشخصية الصوفية قيدار الذي اختفى بطريقة غامضة ، واوكل لابنة اخيه حياة البابلي أن تقوم بمهمة الجمعية السرية التي اسسها فضلا عن حبيبها ناجي الحجاوي . ربما يزيدالظلم هنا أو ينقص هناك تبعا لظروف سوسيولوجية وانثروبولوجية معينة في المجتمع . ولا نجافي هذه الحقيقة إذا قلنا إنَّ هذه المجمتعات عبر التي تناولتها الروائية هي مجتمعات ذكورية ، وهذا لا يبرر أبدا وقوع الظلم على النساء اكثر منه على الرجال ؛ إنما مَنْ يحكم هذه المجتمعات من الأباطرة والحكام هم الذين يمارسون الإضطهاد والظلم والتمييز على وفق قوانيهم وانظمتهم الإجتماعية المتعسفة، على الجنسين من الرجال والنساء .. وإنْ كان ثمة عدل لهؤلاء الأباطرة ، فهو توزيع ذلك الظلم والإضطهاد بين ذيْنك الجنسين ..
ومسك ختام مقالي هذا ، أنَّ ثمة هاجسا كان يروادني ، قبل الولوج في قراءتي رواية لطفية الدليمي في أن اطالة المساحة الورقية للرواية قد يؤثر سلبا على تواتر اسلوبها البديع ، أو يبعث على ملل القاريء ، بيد أنني لا اكتمكم أنني واضبت على قراءتها دون ملل أو كلل ؛ وعلى العكس من ذلك ، فقد ارتقت لغتها الى مصاف الشعر الصوفي ، وإلى مستوى حدث العمل السردي، مما ضاعف إمتاعنا في القراءة ، دون أنْ تفقد سردها الروائي ؛ بل ، واحيانا تتحول مقطوعاتها السرديةوبخاصة المناجاة الذاتيةmonologue ، منها الى مناخات شعرية صوفية ، ونغمات إيقاعية متساوقة ، وسحر لغة شفيفة، رغم إنها في تيه عذاب ، ربما عذاب من نوع عذابات سيزيف وعبثية فعله في محاولاته لدحرجة صخرته الى قمة الجبل .. كيف استطاعت الساردة لطفية الدليمي أنْ تحوًّل الخراب والدمار وسفك الدماء ونسف البنية المجتمعية وتخريبها عبر أزمنة غابرة وحاضرة إلى همِّ ومتعة وشد من الجمال ، إسلوبا ومضمونا ، من خلال تناولها للغتها التي بلغت شأوا من مساس شعري وبنى صور ورموز واستعارات موحية ، شدتنا تماما ، للإستمرار بنفس واحد للوصول الى نهاية الحكي . ” من الطرف القصي لبغداد، من جهة مبهمة في الليل ينهمر عليّ غناء امرأة هو ليس بغناء، هو أي شيء آخر سوى الغناء، امرأة تتلظى في الشوق من ألف عام، نشيج جسد شمسي ولوعة أنثى قمرية، صوتها العباسي مختنق بالنحيب، نبرتها جرح ليلي، آهاتها تمط الوقت في ليل مكلل برماد الحب وعظام الموتى، ما هذا الغناء القاتل؟؟ أردد معها الكلمات وأرتجف في عويل الريح تحت نجوم تموز الراعشة..ص151 ط 1.” كما وقدَّمت لنا توازنا لا يتأرجح ابدا بين مضمون هذا العمل الملحمي ، وشكله الروائي ، وحوَّلت صور وآثار الخراب والدمار والحروب الى مبنى جمالي . وهنا يحضرني قول ميلان كونديرا وهو يتحدث عن الجمال في روايته ” كائن لا تُحتمل خفته ” : يبدو أنَّ في الدماغ منطقة خاصة تماما ويمكن تسميتها ب” الذاكرة الشاعرية “، وهي التي تسجل كل الأشياء التي سحرتنا أو التي جعلتنا ننفعل امامها ، وكل ما يعطي لحياتنا جمالها ..” وهنا لعمري تكمن طاقة الإبداع السردي الجمالي لدى لطفية الدليمي .