الكتب في حياة كولن ويلسون (3)

 

*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

 

فصول مترجمة من كتاب ( الكتب في حياتي ) للكاتب – الفيلسوف

                                 كولن ويلسون

                                   القسم الثالث

________

                               الحقيقة بشأن ويلسون

 

 

     على الرغم من أن هوسي بالكتب بدأ معي في وقت مبكر كما أحسب ، غير أنني لم أكن واحداً من هؤلاء الأطفال الذين تعلموا القراءة وهم لايزالون في عمر الثالثة أو الرابعة : تملّكتني في طفولتي على الدوام رغبة طاغية في توجيه جهودي واهتماماتي نحو تلك الأشياء التي لها القدرة على إستثارة حماستي فحسب – الكيك cakes ، قطع اللعب ، الرسوم الهزلية ( وبخاصة تلك التي تشبه ميكي ماوس والبطة دونالد ) ، ومع أنني تعلّمت الأبجدية اللغوية خلال السنتين الأولى من المدرسة لكني لم أجد في نفسي دافعاً قوياً نحو الكلمات في كتب التهجئة التي كانت بحوزتي آنذاك ، ولكن مع كل هذا مضيت أرتقي في إمكاناتي اللغوية إلى الحد الذي مكّنني من قراءة الكلمات التي كانت تُكتَبُ داخل البالونات الخارجة من أفواه الشخصيات الهزلية ، واكتشفت حينها – ويالعظيم دهشتي آنذاك –  أنني أستطيع قراءة كل الكلمات الخاصة بأية حكاية تُروى إلى جانب صورة جميلة مثيرة للإنتباه ! ، ثم  مضيتُ أقرأ في مجلة هزلية أسبوعية أخرى غير تلك التي إعتدتُ عليها من قبل ، وكانت حروف المجلة الجديدة أصغر من سابقاتها لكني برغم هذا تمكّنتُ من قراءتها بيسرٍ . عندما غدوتُ في حوالي السابعة من عمري وجدتُني أقرأ المجلات الأسبوعية المصمّمة لليافعين بعمر إثنتي عشرة سنة .

     بعد سنتين لاحقتين ، وعندما كنت بعمر التاسعة أو العاشرة في السنوات المبكرة من الحرب العالمية الثانية ، كنت قد غدوتُ قارئاً متحمّساً لصحيفة مخصصة للصبيان تدعى ( الساحر ) : كانت تلك الصحيفة واحدة من بين خمس صحف على نفس الشاكلة التي تخاطب الصبيان ، وكانت كل واحدة منها تُطبَع في يوم مختلف عن الأخريات من أيام الأسبوع : صحيفة ( المغامرة Adventure ) يوم الإثنين ، صحيفة (  الساحر Wizard ) يوم الثلاثاء ، صحيفة ( المتجول Rover ) يوم الأربعاء ، صحيفة ( المُندفع Hotspur ) يوم الخميس ، صحيفة ( القائد Skipper ) يوم الجمعة ، ولكن صحيفة ( الساحر ) بقيت الصحيفة الأكثر تقديراً وحيازة للإعتبار بين طلبة المدارس وكانت هذه الحقيقة تعود كلياً تقريباً إلى سلسلة من الحكايات تدعى ( الحقيقة بشأن   ويلسون ) التي عكفت صحيفة ( الساحر ) على نشرها ، ثمّ أعقبتها بأجزاء مكملة لها دامت حوالي سنة . كنت كل مساء ثلاثاء حينذاك وعقب عودتي من المدرسة أندفع نحو الوكيل المحلي لتوزيع الصحف لأنقده البنسَين وأستلم نسختي من الصحيفة المفضلة لدي و كنت أشرع في قراءتها على الفور وأنا في طريق عودتي ماشياً إلى المنزل ، ولم أكن أرفع عينيّ عن الصحيفة إلا عند عبوري الشوارع المكتظة بالسيارات خشية من أن تطرحني إحدى الحافلات أرضاً ثم تدوس عليّ وأنا مستغرق في قراءتي اللذيذة !! .

     بدأت الحكاية الأولى من سلسلة الحكايات في الصحيفة على النحو التالي : ” ها أنا آخر الأمر قادر على إخباركم بحقيقة ويلسون . لم يظهر على الساحة حتى اليوم من يماثل روعته وجاذبيته في التأريخ الرياضيّ – فقد بات إسمه يتردّد على شفاه حتى أولئك الذين قلّما شعروا بأيّة رغبة أو تعاطف نحو أية رياضة من الرياضات المعروفة . إن صور هذا الرجل المدهش باتت ملء السمع والأبصار في كل أنحاء العالم ، كما باتت الأفلام التي يظهر فيها تومض ببريقها الساحر على شاشات دور السينما من ملبورن وحتى بالباريسو Valparaiso ) مدينة ساحلية تخدم كميناء بحري ، تقع على سواحل تشيلي ، المترجمة )  ” .

     يعمل المقطع الأول من الحكاية على توضيح السبب وراء الإغراء الذي تقدّمه تلك الحكاية لقرّائها من طلبة المدارس اليافعين : فهي إفترضت مسبّقاً أن هؤلاء اليافعين كانوا يحوزون من الذكاء ما يمكّنهم من معرفة أسماء مدن مثل ملبورن أو بالباريسو ، والحق أن سلسلة الحكايات الكاملة كانت مكتوبة بمستوى ذهني راقٍ يبعث على الإدهاش متى وضعنا في حسباننا أنّ تلك الحكايات كانت مكتوبة في صحيفة تخاطب اليافعين . إن المعرفة غير المحدودة بشأن اللقاءات الرياضية في أمكنة مختلفة ومتباعدة من العالم عملت على نقل إنطباعٍ قوي بالأصالة والتفرّد للقارئين الصبيان ، وبإختصار كانت حكاية ( الحقيقة بشأن ويلسون ) تخاطب اليافعين الصغار كما لو كانوا بالغين ، لكنّ نقطة الجذب الرئيسية في الحكاية كانت – بالطبع –  هي البطل ويلسون ذاته : يبدأ المشهد الإفتتاحي في الحكاية بالحديث عن مسابقة رياضية عالمية راحت فيه بريطانيا تخسر معظم مسابقاته الرياضية ، ثم حصل أن مضت مكبّرات الصوت في الإعلان عن سباق الجري لمسافة ميل من غير حواجز ، وما أن إنطلق المتسابقون بكل قواهم في سباق الجري ذاك حتى قفز شخص غريب فوق الحاجز الذي يفصل بين المشاهدين وساحة السباق وراح يندفع سريعاً في أعقاب المتبارين . كان للرجل وجه ضامر مع عينين تقبعان عميقاً في محجريهما ، وكان يرتدي بزّة سباق قديمة سوداء اللون مصنوعة من الصوف وتغطي جسمه حتى الكاحليْن – وحدهما قدماه ظلّتا عاريتين من غير لباس الصوف ذاك ، وفيما كان المسؤولون الرسميون عن المسابقات ينظرون في وقف السباق راح المتسابق الغريب يندفع بسرعة مذهلة وسرعان ماتجاوز المتسابقين جميعاً . كان جميع المشاهدين يحبسون أنفاسهم في إنتظار أن ينهار ذلك المتسابق بعد بلوغه خط النهاية لأنهم كانوا مقتنعين قناعة مطلقة بعدم قدرة أي مخلوق آدمي على الإحتفاظ بتلك السرعة الخارقة لأكثر من مائة ياردة ، لكن الرجل خيّب ظنّهم – فقد إستمرّ يجري مثل حصان سباق وراح يقطع الدورة إثر الدورة حتى اكمل الميل كاملاً في ثلاث دقائق وثمانٍ وأربعين ثانية !! ، وبينما راحت أصوات الجموع الغفيرة تعلو مبتهجة بإيقاعات غليظة وخشنة إنهار الرجل الأسود وسقط مغشياً عليه . كان المعلّق الرياضي وهو مراسل صحيفة رياضية أيضاً ويدعى ( ويب ) هو أوّل من بلغ الرجل الأسود الجاثم على الأرض ، وعندما أراد إسعافه فتح الرجل عينيه وسأل : ” هل أكملت المهمة بأقلّ من أربع دقائق ؟ ” ، فأجابه ( ويب ) : نعم لقد فعلتَ ، وحينها تنهّد الرجل تنهيدة تنمّ عن إرتياحه ، وواضح أنه لم يكن يبتغي الفوز في السباق بقدر ماكان يريد كسر الرقم القياسي المسجّل في تلك المسابقة .

     جواباً على بعض الأسئلة التي وُجّهت إليه أفصح الرجل عن حقيقة إسمه : ويلسون ، لكنه رفض التعقيب أو الإدلاء بأية معلومة إضافية ( الحقيقة أننا بقينا لانعلم إسمه الأول ) ، ثم أبان ويلسون عن رغبته في المغادرة وساعده ويب على النهوض وترتيب أمر مغادرته أرض السباق في سيارته ، ولكن عندما أوقف ويب سيارته عند أحد الهواتف العمومية ليكلّم أحد المحررين في الصحيفة التي يعمل فيها ، عاد ليجد ويلسون قد إختفى !! ولكن لحسن الحظ وجد ويب مفكّرة ويلسون في سيارته بعد أن سقطت من جيبه في غفلة منه ، وقد إحتوت المفكرة على عنوان في قرية تدعى ( ستايلينغ ) في يوركشاير ، فما كان من ويب إلا أن يقود سيارته على الفور بحثاً عن العنوان وإبتغاء لرؤية ويلسون ثانية ، وبعدما بلغ ويب غايته علم من سكّان القرية أن ويلسون يعيش في المستنقعات التي تملأ الأراضي البور المحيطة بالقرية لكن أحداً لم يكن يعلم أين يقيم ويلسون على وجه التحديد ، لكن ويب لم يركن للراحة حتى عثر على ويلسون في نهاية المطاف ، وكم كانت دهشته عظيمة عندما علم أن ويلسون عاد مشياً على الأقدام إلى يوركشاير قاطعاً مايزيد على المائتين من الأميال .

     علم ويب حينها لِمَ كان ويلسون مغتبطاً في كسر الرقم العالمي لسباق الجري ذاك : إذ حصل قبل ماينوف على المائتي سنة أن قطع رجل من أهل ( ستايلينغ ) يدعى ( نتسفورد ) مسافة الميل في ثلاث دقائق وثمان وأربعين ثانية – الرقم الذي أراد ويلسون كسره في السباق .

     يمضي ويلسون في كل حلقة من حلقات الحكايات التالية في كسر بعض الأرقام القياسية المسجّلة سابقاً –  في القفز العريض ، في القفز العالي ، في القفز بالزانة ، في سباق الثلاثمائة ياردة ،،، بل ذهب به الأمر أبعد من هذا بعد أن فاز على منافسه الغجري في الملاكمة بإستخدام قبضات اليد العارية ، ونعلم لاحقاً أن الرجل ماكان ليفعل مافعل إلا لأنه وببساطة أراد كسر بعض الأرقام القياسية المسجلة في تلك الرياضات والتي بدا أنه يعلم شيئاً غير شائع عنها : أراد ويلسون مثلاً في إحدى السباقات كسر الرقم العالمي المسجّل للركض حتى أعلى قمة الهرم الأعظم .

     في واحدة من أخريات حكايات ويلسون المنشورة في الصحيفة أراد الرجل تسلق أحد المنحدرات الصخرية الشاهقة في سويسرا ، ولم يكن أحدٌ من قبل قد إمتلك مايكفي من الجرأة للإقدام على مثل هذا الفعل بإستثناء رجل واحد فحسب : رجل إنكليزي غامض في القرن التاسع عشر عاش حياة تشبه الأحجية ، وبعدما علم ويب أن إسم ذلك الرجل الإنكليزي الغامض هو ويلسون أيضاً تشكّلت لديه شكوك قوية بشأن حقيقة شخصية ويلسون ، لذا يقرر سؤال ويلسون ” كم عمرك يارجل ؟ ” ، لكن تحصل ثمة أمور تعيق ويب من الحصول على إجابة صريحة .

__________
*المدى

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *