*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
فصول مترجمة من كتاب ( الكتب في حياتي ) للكاتب – الفيلسوف
كولن ويلسون
القسم الثاني
منزل يعجّ بالكتب ..
في عام 1950 ، وبدفْعٍ من نصيحة مكتبيٍّ يعمل في لوس أنجيلس ، إنطلق ( هنري ميلّلر ) في إعداد قائمةٍ بمائة كتاب من الكتب الّتي عدّها الأكثر تأثيراً في حياته ، وكما يحصل عادة إشتطّ ميلّلر كثيراً وإندفع بعيداً عن مخطّطه الأوّلي وكتب مجلّداً بثلاثمائة صفحة عنوانه ( الكتبُ في حياتي ) . سجّل ميللر ملاحظةً في مقدّمة كتابه هذا يقول فيها أنّ كتابه سيتطوّرُ إلى مجلّدات عديدة خلال السنوات القليلة الّلاحقة ، و لكنّ الحقيقة أنّ المجلّد ظلّ يُطبع بحجمه الاصليّ ولم تحصل أيُّ إضافات عليه كما لم تظهر أيّة مجلّدات لاحقة تكملُ ما إبتدأه ميلّلر في عمله الأصليّ ، وأرى أنّ بإمكاني تفهّم دوافع ميلّلر الكامنة وراء ذلك : فعندما بدأتُ شخصيا بعمل قائمةٍ لأكثر الكتب تأثيراً في حياتي توقّعتُ في البدء أن تكون في حدود العشرين كتاباً ، وعزمتُ أن أُرفقَ مع كلّ كتاب مقالة وافية لاتتجاوزُ دزينة من الصفحات ، وبعدما إنطلقتُ في وضع قائمة أوّلية بالكتب المطلوبة رأيتُ نفسي أدوّنُ خمسين عنواناً من الكتب دفعة واحدة وبدون أن أتوقّف ولو لبرهة قصيرة وتبيّنتُ أنّ بالإمكان بكلّ بساطة ان أضيف خمسين عنواناً آخر دونما جهدٍ كبير أو تفكّر طويل ، وهذا يعني أنً كتابي الموعود عن حياتي مع الكتب سيكون مجلّداً بألف ومائتي صفحة في أقلّ تقدير ، ولك أن تعلم بعد كلّ هذا كم كان عليّ أن أمارس من جهد وإنضباط كي أقلّل عدد العناوين بغية جعل الكتاب في حجم مقبول وقابل للتداول السهل .
لطالما كنتُ طوال حياتي شخصاً مهووساً بالكتب وهو الأمر الّذي يجيب عن سبب إمتلاكي لرفوفٍ كثيرة للكتب في بيتي تحوي ما بين عشرين إلى ثلاثين ألف كتاب ، و يمكن لك أن تتصوّر الحال إذا عرفتَ أنّ كلّ غرفة في بيتي تحوي رفوفاً محتشدة بالكتب – غرف النوم ليست مستثناة من هذا الوصف – حتى بات مستحيلاً من الناحية الواقعيّة إيجاد فسحة لإضافة أيّة كتب جديدة ، ويوجد – إلى جانب الكتب – بضعة آلاف من الأسطوانات والشرائط الفديوية وصارت كلّها تمثّل مشكلة تخزينيّة جدّية بالنسبة لي ، ومن الطبيعيّ للغاية أن الزائرين يسألونني في كلّ مرّة يرون فيها هذه الرفوف من الكتب ” كولن ، هل قراّت هذه الكتب كلّها ؟ ” ، وحينها يتوجّبُ عليّ أن أوضّح الأمر كلّ مرّة : العديد من هذه الكتب تخدمني كمراجع أعود إليها عند الحاجة طالما أنّ المكتبة العامّة بعيدة عن منزلي ولا أستطيع الوصول إليها متى كنتُ في حاجة للنظر في أحد الكتب المرجعيّة ، وأنّ البعض الآخر من الكتب إقتنيتُهُ على أمل قراءته لاحقاً عندما يتيسّر الوقت ( مثل مجموعة كتب السير والتر سكوت Walter Scott الّتي لم أقرأها لليوم ) ، و لكن إذا كان يتوجّب عليّ قول الحقيقة فإنّني قرأتُ فعلاً معظم تلك الكتب وهذا يعني بالضرورة أنّني لو أردتُ الحديث عن الكتب الأكثر تأثيراً في حياتي لتوجّب عليّ فعلاً المضيّ في كتابة بضع مجلّدات عنها و ليس أقلّ من ذلك أبداً .
دعوني الآن أوضّح كيف توطّدت علاقتي الحميمة مع الكتاب : لأربعين سنة خلت كنتُ أنا وزوجتي جوي Joy نعيشُ في منزل ريفيّ صغير قرب البحر بعد أن غادرنا لندن للعيش في كورنوال Cornwall مدفوعين بطلب السكينة بعد الضجّة الّتي رافقت نشر كتابي الاوّل ( اللامنتمي ) عام 1956 ، وكان الشخص الّذي إستأجرنا المنزل الريفيّ منه شاعراً يعمل لدى ناشر في لندن و لديه حنينٌ جارف للعودة إلى بلدته ، وكان الاتفاق بيننا اننا سنستأجرُ منزله لمدّة سنتيْن وإذا لم يجد في نفسه رغبة في العودة فإنّ العقد سيمتدّ لسنتيْن أخريين . كان المنزل الريفيّ مصمّماً على الطراز الإليزابيثيّ و جدرانه مبنيّة من كتل رمادية اللون مصنوعةً من نوع خاص من الطين المفخور وبسماكة قدميْن ، وثمّة جدول ماء صغير ينساب أمام الباب الأماميّ للمنزل مالئاً الفضاء بصوت خرير الماء الهادئ وكانت بضعُ بقراتٍ ترعى في الحقل المقابل لسفوح التلال القريبة من المنزل . أوّل أمر فكّرتُ فيه وعزمتُ على تنفيذه فعلاً هو صنعُ رفّ في غرفة الطعام لوضع الكتب الّتي جئتُ بها من لندن ، و كانت لديّ أيضاً حوالي المائتين من أسطوانات الغراموفون الّذي لم يمضِ على تصنيعه سوى عقد من السنوات ، وكان من أوائل الأمور الّتي أقدمتُ عليها بعد تسلّمي لدفعة من مكافأتي على كتاب ( الّلامنتمي ) أنّني إقتنيْتُ جهاز غراموفون حديثاً مع أسطواناتٍ للموسيقى المفضّلة لديّ : سيمفونيّات برامز ، بروكنر ، ماهلر ، و رباعيّات بيتهوفن و سوناتاتُهُ على البيانو ، إلى جانب عملَيْ فاغنر العظيميْن فالكيري Valkyrie وغروب الآلهة Gotterdammerung . لم يكن في المنزل من مصدر للكهرباء لأنّه يبعد حوالي الميل عن أقرب طريق رئيسيّ لذا إستعضنا عن الكهرباء بدزينة من البطاريّات ومحوّلة للطاقة لتحويل التيّار الكهربائي المستمر إلى متناوب كما إمتلكنا داينمو كهربائيّاً لشحن البطاريّات متى ما فرغت من الطاقة .
كان عيشنا في منزلنا الريفيّ مبعث إرتياحٍ عميقٍ لنا وبخاصّة بعد النجاح اللافت الّذي قوبل به كتابي الأوّل رغم أنّ الأمر لم يكن ليخلو من بعض المنغّصات المتوقّعة : فقد ظهرت أولى المراجعات لكتابي في ذات اليوم الّذي ظهرت فيه مراجعات مسرحيّة ( جون أوزبورن John Osborne ) الشهيرة ( أنظر وراءك بغضب ) و راحت الصحافة تطلق علينا ما بات يعرف تقليديّاً بالشباب الغاضب رغم أنّ هذه الصفة لم تكن لتنطبق على حالتي قطعا – إذ لم تكن ثمّة مشتركاتٌ بيني وبين المسرحيّ أوزبورن و جماعته : كينغزلي اميس Kingsley Amis و جون وين John Waine ، ولطالما رأيت نفسي كاتباً مهووساً بعالم الأفكار وأعمل في ذات إتّجاه التقليد الأوربي كما عمل سارتر وكامو ، ولكنّ المشكلة معي كانت في إنعدام التقاليد الثقافيّة التي تعنى بتأريخ الأفكار في بريطانيا على عكس الحالة السائدة في الثقافة الفرانكوفونية . جاء نجاح كتابي ( الّلامنتمي ) كضربة حظّ غير متوقّعة ، وفي الوقت الّذي إنتقلْتُ أنا وزوجتي للعيش في منزلنا الريفيّ في كورنوال بعد تسعة أشهر من نجاح ( اللامنتمي ) أدركتُ أنّني كنت أعملُ في فراغ بقدر ماكانت بريطانيا معنيّة بالأمر ، وبعد أربعين عاماّ من ذلك الوقت لا أزال أشعر أنّ بريطانيا ليست تلك البلاد الّتي تمنح لتأريخ الأفكار ما يستحقّ من رعاية وإهتمام فائقيْن ولا زلتُ أرى في نفسي مثالاً قياسيّاً لِـ ( لا منتمٍ ) حقيقيّ مثلما فعلتُ طوال حياتي .
مكثتُ أنا وزوجتي جوي في المنزل الريفيّ في كورنوال لسنتيْن كاملتيْن ، وفي ربيع عام 1959 سرتْ إشاعاتٌ أنّ الشاعر مالك الأرض الّتي يقوم منزلنا فوقها ينوي التصرّف بها لأغراض خاصّة به فما كان منّا إلّا أن نكاتبه في حقيقة الأمر لنتبيّن مدى صدقيّته ، ولأنّه شاعر فقد كان كسولاً كما هو متوقَّعٌ من الشعراء ولم يُحمِّلْ نفسه عناء الإجابة على سؤالنا ، وكنت آنذاك منهمكاً في كتابة روايتي ( طقوس في الظلام Ritual in the Dark ) الّتي تحكي عن قاتلٍ مهووس جنسيّاً يماثل جاك السفّاح ( جاك السفّاح Jack the Ripper : هو الإسم الأشهر الذي أطلق على قاتل متسلسل مجهول الهوية كان نشطاً في المناطق الفقيرة جداً في منطقة وايت تشابل وحولها في لندن سنة 1888، المترجمة ) ، لذا تكفّلت جوي بالبحث عن منزل آخر يصلح لسكننا ، وبعد ظهر أحد الأيّام عادت لتخبرني أنّها عثرت على منزل مناسب في قرية مجاورة عندما رأت رقعة مثبّتاً عليها عبارة ” للبيع ” أمام أحد المنازل ، وبعد أن أجالت جوي النظر في المنزل عبر البوابة صدمت لأنّه كان أكبر بكثير من حاجتنا فقرّرت المغادرة لكنّ صوتاً من داخل المنزل إستوقفها فرأت أنّ من غير اللائق المغادرة فإستدارت وذهبت عبر البوّابة لتطرق على الباب الداخليّ ، فما كان من أحد ساكني المنزل إلّا أن يفتح الباب ويدعوها لتناول قدح من الشّاي . كان مالكا الدار ثنائيّاً من برايتون أكبر عمرا مني ومن وزوجتي وقد قرّرا بعد تقاعدهما قضاء سنواتهما القادمة في هذه الدار الريفيّة ولكنّهما وجداها بعد فترة من الإقامة فيها مدعاة لشعورهما العميق بالوحدة فقرّرا بيعها والعودة ثانيةً إلى حياة المدينة الصاخبة . وجدت جوي الثنائيّ فاتناً وجذّاباً ولكنّها رأت أنّ المنزل كان أكبر بكثير جدّاً ممّا نحتاج و سيكلّفنا أكثر ممّا يمكننا دفعه : فقد كان يتطلّب دفع أربعة آلاف وخمسمائة جنيه أسترلينيّ وهو ضعف السعر السائد للمنازل المعروضة للبيع لدى سمسار العقارات في تلك المنطقة ، وعندما أخبرتني جوي بالأمر لمعت عيناي فرحاً و قلت لها ” هذا خبر طيّب ، كثيرٌ من الغرف الّتي تكفي لكتبي أيضاً !! ” ، وإنطلقنا أنا وجوي عصر ذات اليوم لمعاينة المنزل : كان المنزل ينتصبُ وسط أرضٍ مساحتها إيكران ( الإيكر يساوي 4046 متراً مربّعاً ، المترجمة ) ولم تكن ثمّة منازل حوله وتمتد أمام المنزل حقولٌ فسيحة حتى ساحل البحر ، ولم يكن المنزل ذلك المنزل الجذّاب رغم عدم مضيّ أكثر من ستّ سنوات على بنائه المشيّد من الكتل الخرسانيّة الرماديّة الّتي طلِيت لاحقاً بلون أخضر فاتح ولكنّ إمتيازه الوحيد – كما رأيت أنا ووافقتني جوي في ذلك – أن المنزل كان يضمّ فسحة كافية تكفي لاحتواء الآلاف من كتبي الأثيرة . كنّا نملك القليل من المال آنذاك وتفاقمت أحوالنا الماليّة بعد أن لاقى كتابي الثاني ( الدين و المتمرّد Religion and the Rebel ) هجوماً قاسياً حتّى أنّه لم يُطبِع طبعة ثانية ولكن مع هذا كان في مقدورنا الحصول على قرض عقاريّ فمضينا بقوّة وقرّرنا شراء المنزل ، وهذا ما حصل فعلاً ، وإنتقلنا إلى منزلنا الجديد أنا وزوجتي ووالدايَّ اللّذان دعوتهما للعيش معنا و بدأتُ أوّل ما بدأت في نصب رفوفٍ لكتبي في كلّ غرف المنزل ، وكانت العادة عند زيارة أيّة قرية قريبة منّا أن أسأل عن المكتبة فيها وعند عودتنا كانت السيّارة في العادة مليئةً بشتّى صنوف الكتب . كان المنزل أوّل الأمر يبدو كبيراً جدّاً بحيث يكون من المستحيل تصوّر إمكانيّة أن يضيق بالكتب يوماً ما ، ولكن حصل مع الأيّام أن إمتلأت الغرف برفوف الكتب فعمدْتُ إلى إستغلال المساحات المتاحة في مدخل البيت ، لذا كنتَ ترى الرفوف المليئة بالكتب تصل إلى فوق رؤوسنا ببضع بوصات أينما ذهبتَ حتّى أدركتُ يوماً إستحالة إضافة ولو رفّ صغير إضافيّ آخر في أيّ مكان حتّى لو كان في مطبخ المنزل !! .
قد يتساءل البعضُ : أيّ نوع من الكتب كنتً أحِبُّ إقتناءه ؟ أقول : كنتُ أقتني كلّ الكتب الّتي تتناول الموضوعات الممتعة لي ، وكمثال على هذه الموضوعات : الجريمة ، وأذكرُ عندما كنتُ يافعاً أنّني قرأتُ كتاباً عن الجريمة عنوانه ( الجرائمُ الخمسون الأكثر إثارةً للدهشة في المائة عام المنصرمة ) ، وأحببت أيضاً كتب الشعر وإقتنيْتُ المئات منها بدءً من أعمال شوسر مروراً بملتون وحتّى تي. إس. إليوت . إقتنيتُ آلاف الكتب في الموسيقى ، والفلسفة ، والسيرة ، والتأريخ ، والنقد الأدبيّ ، والعلوم ، وحتّى في الريّاضيّات ، وبالطبّع في الرواية أيضاً ، وكانت لديّ مجاميعٌ كاملة لكلّ أعمال كُتّابي المفضّلين : دوستويفسكي ، تولستوي ، برناردشو ، جي. إج. ويلز ، ولازالت لديّ بعضٌ من المجموعات الّتي تنتظر القراءة مثل أعمال : كارلايل و راسكين .
منذ أن كنتُ طفلاً أحببتُ كثيراً شراء الكتب المستعملة ، وهكذا وجدتُ نفسي في منزلي الجديد الملآن كتباً كمن حقّق أحلامه بإقتناء مايحبّ من الكتب الّتي لطالما حلم بقراءتها ، وقد إقتنيْتُ الكتب بلا هوادة كمن يطلب الخلود لأجل أن يتوفّر له الوقت الكافي لقراءة كلّ هذه الكتب . إقتنيتُ أيضاً الكثير من الأسطوانات الموسيقيّة والغنائيّة إبتداءً من كلاسيكيّات بيتهوفن وحتّى آخر إصدارات الجاز ، وعندما بلغْتُ منتصف الأربعينات من عمري أدركْتُ أنّني لستُ بقادر على قراءة كلّ تلك الآلاف من الكتب أو سماع تلك الأعداد الهائلة من الأسطوانات وحسبْتُ أنّني لو أدمنْتُ سماع الأسطوانات الّتي لديّ بمعدّل عشر ساعاتٍ يوميّاً فسأحتاجُ ما لايقلُّ عن عشر سنواتٍ لسماعها كلّها !! ولا زلتُ حتّى اليوم عندما أسمعُ تقريضاً حسناً لسيمفونيّة بيتهوفن التاسعة مثلاً أو لعمل شتراوس المسمّى Rosenkavalier لاأستطيع مقاومة الرغبة الجامحة في إضافة هذا الإطراء إلى مجموعتي من الأسطوانات ، وأحسبُ أنّ هذه الشهوة الجامحة والمنفلتة تجاه الكتب والأسطوانات هي شكلٌ مخفّفٌ من أشكال الجنون في أقلّ تقدير .
هذا ما حصل في نهاية الأمر إذن : أن أرى نفسي ساكناً في منزلٍ يعجُّ بالكتب والأسطوانات الموسيقيّة في كلّ الأمكنة – في المطبخ وغرف النوم ومدخل البيت حتّى بات يحلو لزوجتي أن تسمّي هذه الأكوام ” مصيدة الشمس ” !! وبلغ بي الأمر حدّ أنّني لم أعدْ أقرأ أيّة مراجعات حديثة للكتب خشية أن لاأكون قادراً على مقاومة الإغراء العنيف في إضافة المزيد من الكتب إلى منزلنا المتخم بالآلاف منها .
__________
*المصدر: المدى