خاص- ثقافات
*موسى حوامدة
أمام هذه الحشود الهائلة من التفاهة، وهذه الأرتال من الركاكة، وهذه الأطنان من الزعيق، والأثقال من الصدأ، والجبال من النفايات، وأمام هذه السلاسل من العباقرة، والمجاميع من الموهومين، والمقطورات اللامنتهية من الديدان، المتورمة عظمة، والمزدهية خواء وبلادة، يحق لي – يقول الشاعر بلا غرور وربما بكامل الزهو والخيلاء- أن أتباهى بموهبتي.
كنتُ أشد على يديِّ التواضع، أنحاز للصمت، وأحتفظ بمكنون الثقة، وقوة الأمل، أميل للخجل، والركون إلى الذات، والرهان على ذائقة النسيم، ونباهة المستحيل، والنظر إلى الحكمة بعين المتصوف، والهدوء كبوذيٍ عظيم، يستطيع الوصول إلى أقصى درجات النرفانا، غير أن الوقاحة بلغت حدوداً لا توصف، والرداءة صارت تسود المشهد، والتفاهة تتصدر الساحة، والجماهير تتحلل مثل قطعة لحم فاسدة، ملقاة على قارعة طريق مكشوفة، في يوم حار، والفذلكة تنفخ المعاني في قِربٍ مُقطَّعة، والبُلهاء يردِّدون كلماتٍ سطحية، ما هي إلا تجميعات والتقاطات نابهة، من هوامش ومتون بعض كتب التراث، ومصافي الترجمات، وبقايا حكم مكرورة، وأقوال مأثورة، وبعض شذرات من لغات مندثرة.
المدونات تتكاثر، وما يدعي أصحابها أنها قصائد تتمطى كل ثانية، تنافس ملاحم هوميروس وفرجيل، وكوميديا دانتي، وذات المقتطفات المتناثرة من ابن عربي والحلاج وجلال الدين الرومي، وشطوحات البسطامي وتنويعات التوحدي، وبعض سطور مترجمة من لوركا وريتسوس، وشواهد بلاغية من كتب عتيقة، ومأثورات من سنن دينية، تتكرر كل يوم، وكل كتابة، وكل فتوحات مكية ومدنية، وصار الكثيرون من الصلف بحيث يغيرون بعض الأحرف، أو بعض المفردات، أو يقلبون إحدى عتبات المعني، أو يستبدلون حجراً واحداً من البنيان كله، ويزعمون أنهم خالقو الكلام، ومؤسسو الفكرة، وصانعو المعنى.
التعليقات تتشعب، والشهوات تلهث بتمجيد البراعة، والتنهدات تتأوه على صدر جسد متخيل، تمنح المعلقين بعض شهوة لزجة، يدبق على أيديهم، وبين مدائحهم الذاتية، والخيانات تتقافز بلا حياء، والتنويعات والتهويمات تنثر الطنين، وتضخم اللاشيء، ويتم دهن الخواء بألوان صارخة، ودون مواد طلاء، نرى ظلال لون، ولا نرى لوناً، ودون معنى نرى ادعاء البلاغة، وتفاصيل الاستمناء، وعبقرية التفسير، ودون رحيق نمص أعضاء الجفاف.
أمام هذا اليأس، يحق للشاعر الأصيل أن يتباهى بموهبته، ويعلن بلا خجل؛ أن الشعر مستهدف، وأن الغوغاء مزقوا صورة الشاعر على مذبح الجهل، ونتفوا أوراق القصائد، في ربيع التخريب، وأن طوابير المرتزقة، يمارسون مهماهم، قبل قبض مستحقاتهم، وحتى دون قبولهم متطوعين في هيئات السوء، ومؤسسات الدمار، وعصابات الفهلوة المسلحة، وميليشيات المديح المتبادل، وطرقعة النذالة، في العزوف عن السطوع، واخفاء العجز، عن مجاراة الأصالة، ومصالحة الذات للتسليم بلا صلف، والاقرار بنقص الموهبة، وشح الملكة، وفقر الخيال، وفقدان اللغة.
أتباهى بموهبتي، حتى لو غمز البعض، ولمز الجزء، وتاه الكل، فما حاجتي لنقيق ضفادع، وثناء ببغاوات، وثرثرة الخنوع، ورغوة الماء، أو بساطة السطوح؟
أتباهى بموهبتي، وأزدهي بقصيدتي، فلم تجبرني على البحث عن وكلاء وشركاء للترويج، ولا مطوفين وداعمين في التفويج، أو عملاء في الإشاعة، وإطلاق الأوصاف العظيمة، ومنح الأوسمة والنياشين، ولصق آيات الثناء والمباهاة.
أتباهى بموهبتي، فقد كفتني الحاجة إلى الانصياع إلى شروط حزبية سقيمة، أو رضا أجهزة وحكومات، ودعم موالين ومخبرين، أو وصايا نافذين متنفذين، ومزايا أصحاب قرار واقتدار، أو دعاوى متمكنين، وإجماع مريدين، وتهليل مأجورين.
أتباهى بموهبتي التي كفتني مؤونة التبعية، وحمتني من حماقة التأييد، وسخافة الشعبية، ووهم الانتشار.
أتباهى بموهبتي وأكتفي بها عن كل غرض وطمع، فقد كفتني اليقين، ومنحتني الرضا، وأقامت لي عراءً من يتم، وفرادة من عزل، وملاذاً من نبذ، فصارت قصيدتي كفاف يومي، وموهبتي معين حريتي، ونفوري زاد سعادتي.
_______
*شاعر أردني.
Musa.hawamdeh@gmail.com