لطالما تخيّلتُ أنّ الجنّة هي مكتبة: خورخي لويس بورخس
كتبي هي بيتي الذي أجد فيه السكينة الكاملة :
ألبرتو مانغويل
الكتب هي السحر المحمول الفريد في نوعه
ستيفن كينغ
أعتقد وعلى نحو ثابت الرسوخ أن الحلول الناجعة لأعمق مشاكلنا تكمن في المعرفة -في قدرات العقل اللامحدودة
كولن ويلسون
الكتاب هو جنة اللذة الفردوسية وتوأم العوالم الساحرة التي لاتحدّها حدود جغرافية أو ذهنية ، ولاأظنّ أن كاتباً أوعالماً أو أي مشتغل في أي حقل معرفي لم يمسّه منذ أن كان طفلاً ذلك المسّ الطهراني المقترن بهَوَس عشق القراءة والكتاب ، وقد يحزن المرء وينتابه الكدر والغم إذا ألمّت به ضائقة مالية أو صحية ، ولكن لاأحسب همّ المرء الشغوف بالكتاب إلا أعظم بكثير وعصياً على المقارنة مع أيّ همّ سواه فيما لو فقد شغفه بالكتاب ، وربما يناظر فقدان الشغف بالقراءة والكتاب حالة فقدان حبيب يسكن شغاف القلب .
أتاحت لي ترجمتي للسيرة الذاتية للكاتب – الفيلسوف كولن ويلسون ( التي صدرت عن دار المدى عام 2015 ) ملامسة عوالم فكرية وفلسفية غير مطروقة لي ، وقد أبانت لي سيرته حجم الثراء المعرفي الذي يحتكم إليه الرجل ، ويعود جلّ ذلك الثراء لقراءاته المتعددة وعشقه للكتاب وهو لمّا يزل يافعاً بعد ، وتزخر السيرة الذاتية بعناوين كثيرة لكتب أشار إليها الكاتب في ثنايا حديثه عن وقائع حياتية خاصة به ، وأراني اليوم مقتنعة بما صرّح به ويلسون بشأن جدب الحياة الثقافية البريطانية وافتقارها إلى تناول عالم الأفكار على عكس الثقافة الفرنسية أو الألمانية ؛ الأمر الذي دفعني إلى النظر في إمكانية ترجمة أعمال أخرى لِـ ( ويلسون ) ، وبعد إكمالي ترجمة سيرته الذاتية لم أجد كتاباً غير مترجم للكاتب يستوفي كل
المتطلبات الخاصة بالترجمة مثل كتابه ( الكتب في حياتي The Books in My Life ) وبخاصة أن الكثيرين من الكُتّاب المرموقين قد كتبوا كتباً رائعة بشأن دور الكتب في حياتهم ومن هؤلاء ( هنري ميلر ) الذي يستشهد به ويلسون في الفصل الأول من كتابه هذا .
لطالما قيل من قبل أننا لسنا سوى نتاج تجاربنا المتراكمة ، ومن الطبيعي أن يختصّ الكتاب والقراءة بحيّز مهم في تلك التجارب ، وعلى ضوء هذه الفكرة يمكن النظر إلى كتاب ( الكتب في حياتي ) الذي كتبه الكاتب الراحل كولن ويلسون : يحكي الكاتب في كتابه هذا ( الذي يعدّ جزءً مكملاً لسيرته الذاتية ) عن الأعمال التي شكّلت بناءه الذهني وتوجهاته الفلسفية منذ أن كان صبياً يافعاً وهو المعروف بنهمه المبكر للقراءة ؛ فقد حوى منزله في كورنوال مايزيد على الثلاثين ألف مجلد ( إلى جانب الآلاف من الأسطوانات الموسيقية ) ، وقد سرد الرجل في الفصل الإفتتاحي الأول حكاية بداية عشقه للكتاب وتجميع الكتب حتى فاضت جدران منزله بها وصارت ( مصدّات للشمس ) على حسب تعبير زوجته !! . عانى ويلسون حيرة عظمى بشأن الكتب التي يبتغي الحديث عنها في كتابه هذا – وهي حيرة لابد عاناها كل من تصدّى لكتابة كتاب يحكي فيه عن الكتب التي أثّرت في بواكير تشكّل حياته الذهنية والمهنية ، وتتعاظم الحيرة فيما لو كان الكاتب متفرّغاً للكتابة والكتاب وعالم الأفكار اللصيق بهما مثل التوائم السيامية ، وقد تحسّستُ في غير موضع من الترجمة مدى الحيرة التي ألمّت بالرجل وهو ينتقي الكتب التي شاء الحديث عنها في كتابه هذا وأظنه إختار في نهاية الأمر نخبة من الكتب التي تشكّل توليفة متباينة رمى من ورائها جعل القارئ يدرك الطيف الواسع من التخوم المتباينة التي يمكن أن يلامسها القارئ ؛ وهكذا نقرأ في كتاب ويلسون عن أساطير متخيلة مثل أسطورة ( ويلسون ) الذي شغل الناس طويلاً ، أو عن أساطير أدبية حقيقية مثل ( جويس ) أو ( شو ) أو ( دوستويفسكي ) أو ( الأخوان جيمس ) أو ( سارتر ) أو ( هيمنغواي ) ، كما نقرأ عن شخصيات مؤثرة تم تجاهلها بطريقة محزنة للغاية مثل ( أرتسيباتشيف ) ، ويمرّ بنا أيضاً عالم المغامرة الرفيعة وبطلها ( جيفري فارنول ) الذي يفرد له ويلسون فصلاً في الكتاب ،،،،، إلخ ، ولاينسى ويلسون أن يخبرنا في سياق قراءاته للكُتّاب عن المواضع التي أثّرت فيه عميقاً أو تلك التي إرتأى أن ينأى بنفسه عنها في بواكير مراهقته ؛ لذا يمكن إعتبار كتابه هذا أطروحة نقدية إلى جانب كونه فصولاً مكملة لسيرته الذاتية .
من الطبيعي أن يكون خيار ويلسون للكُتّاب والموضوعات في كتابه هذا مؤسساً على ذائقته الشخصية بالكامل ، ولايمكن أن يخفى على القارئ المدقق نشوة ويلسون وشغفه في تفنيد النزوع السلبي المقترن بالعبثية والعدمية غير المنتجتين واللتيْن صارتا السمتين الملازمتين لعقود عدة في القرن العشرين ( وبخاصة العقدان الخمسيني والستيني ، ومن قبلهما الحقبة اللاحقة للحرب العالمية الأولى ) ، ولم يدّخر ويلسون جهده في توضيح أساس هذه النزعة السلبية التي نمت جذورها في الفكر الوجودي الوارث لتقاليد الرومانتيكية الأوربية في القرن التاسع عشر والتي ركّزت المفاهيم الذاتية والأنوية السلبية وجعلتها تستحيل أوهاماً ذهانية خطيرة .
يعرف جميع القرّاء أن قراءة الكتاب تنطوي على خصال ممتعة تبعث البهجة في القلب ، ولعل واحدة من أهم هذه الخصال أن قراءة الكتاب تقود إلى المزيد من القراءة والتنقيب في كتب أخرى فيما يشبه المتسلسلة اللانهائية ؛ وهذا هو ماأراد ويلسون التأكيد عليه بوضوح وبخاصة في الفصل الخاص بِـ ( شرلوك هولمز ) حيث يصرّح ويلسون أن عُدّته الإستنتاجية في البحث عن الكتب بعد قراءته لكتاب محدّد باتت تشبه وسائل هولمز في الكشف عن الأحجيات : على سبيل المثال تقود قراءة إليوت إلى إكتشاف كل من ( هولم ) و( الباغافاد غيتا ) و ( إيرنست هيمنغواي ) . إن رغبة ويلسون العظيمة في القراءة لم تكن تعرف حدوداً مثلما نتحسّس في قراءتنا لفصول هذا الكتاب ، وإن رغبته في تحقيق الذات وتخليق بصمة ذاتية له إلى جانب تسكين مرجل الأفكار الذي يغلي بداخله – كل هذه الأمور جعلت ويلسون يندفع في قراءة أي كتاب يمكن أن تطاله يداه ، وأعتقد إعتقاداً حاسماً بأن ويلسون نجح في كتابه هذا بكشف المفاعيل المدهشة للكتب في حياته والطريقة التي دفعته لإرتقاء الذرى الفكرية التي بلغها لاحقاً وكتب عنها في سلسلة كتبه التي جاوزت المائة والأربعين كتاباً .
أجد من المناسب هنا أن أنقل العبارات التالية التي زيّنت بها دار النشر ( هامبتون رودز ) الغلاف الأخير لكتاب ويلسون :
” نشأ الكاتب كولن ويلسون الذي حقق مبيعات كبرى في حياته وسط عائلة تنتمي لبيئة عمّالية ، ولم يتيسّر له سوى القليل للغاية من التعليم الرسمي ، غير أنه ومنذ أن كان طفلاً يافعاً جنح نحو الكلمة المطبوعة التي رأى فيها معيناً لن يخذله في إستكشاف الأسئلة الإشكالية اللامحدودة التي تجود بها الحياة ، وتضم مكتبة ويلسون اليوم ( المقصود عام 1998 وهي سنة طبع الكتاب ، المترجمة ) نحواً من عشرين ألف مجلّد بضمنها ثمانون عنواناً لكتب هي مؤلفاته الخاصة .
إن أعمال ويلسون طوال حياته كانت بحثاً دؤوباً في حالات الإدراك العليا ، وقد ساهمت بصيرته الرؤيوية وشغفه بالمساءلة والتقصّي المتواصل في حقول الوعي والأدب والفلسفة في بعث روح الإستنارة الملهمة لعقول عديدة . في كتابه هذا ( الكتب في حياتي ) يعاود ويلسون مراجعة الكتب التي مثّلت تحدياً جدياً له وساعدته على تشكيل حياته ورؤاه ؛ فيبتدئ بالروايات الأساسية التي قرأها بنهم في صباه ، ثم يعرّج على ( مارك توين ) و ( آرثر كونان دويل ) ، وبعدها يبلغ ( نيتشة ) ، ( جويس ) ، ( سارتر ) ، ( شو ) ،،،،، الخ ، ويمكننا أن نلمح منذ البدء أن ويلسون قد حمل مبكّراً عبء قراءة الأعمال التي ترمي لتأكيد قدرة المرء على التأثير الإيجابي في حياته وحياة العالم الذي حوله أيضاً وبطريقة مدركة وواعية ، ويوفر لنا ويلسون في كتابه هذا القدرة على التدقيق في الكتب التي قرأها وهو يجتاز عتبات الصبا نحو البلوغ والإنبثاق ككاتب ، ولاينسى أن ينقل إلينا محتوى السحر المكنون في ماهية تلك الكتب .
إن كتاب ( الكتب في حياتي ) هذا هو نظرة مدهشة ومفعمة بالرؤى للكيفية التي يمكن بها لحياة أثرتها القراءة الجادة والشغوفة أن تشكّل هياكل أفكارنا وقلوبنا وأرواحنا وكلّ مانعتقد بضرورته وأهميته في هذه الحياة ………………. ” .
سأنشر في الأقسام القادمة ترجمة لمقدمة كتاب ويلسون مع فصول منتخبة من هذا الكتاب المثير الذي يحكي فيه ( كولن ويلسون ) عن بواكير علاقته مع عالم الكتاب – ذلك العالم المغوي الحافل بكل أشكال المتعة العقلية والروحية العصية على كلّ من لم يختبر عشق الكتاب .
________