أحمد دحبور .. مجنون حيفا

*د. عادل الأسطة

في الثامن من نيسان (أبريل) 2017 رحل الشاعر أحمد دحبور.

   ولد الشاعر في مدينة حيفا الفلسطينية في نيسان 1946، في الحادي والعشرين منه. أهي مصادفة أن يغلق دورة حياته في الشهر نفسه. كما لو أنه قصيدة دائرية. بدأ بنيسان وانتهى به، فكان نيسان أقسى الشهور كما كتب ت. س. إليوت في قصيدته “الأرض الخراب”.

    لما وقعت النكبة كان أحمد دحبور في العام الثاني من عمره، ولم ير مدينته التي ولد فيها إلا عام 1994، يوم عاد إلى فلسطين- تحديدا إلى قطاع غزة- إثر اتفاقات أوسلو.

   عبر أحمد عن ولادته وزيارته في قصيدة عنوانها “وردة للناصرة ” نشرها في ديوانه “هنا.. هناك ” 1997؛ قصيدة التحمت فيها التجربة الذاتية مع التجربة العامة. يقول: “كنت ملفوفا بعامين من الكرمل والنسناس،/ حين انفجرت، في شجر الكينا، الرياح الأربع/ ما الذي كان أبي يخشاه حتى ارتكبت أخطاؤه فعل السنونو/ ليته قال: اذبحوا طفلي،/ ولم يرحل”.

    حيفا التي ولد فيها ستظل مدينته الأولى، على الرغم من أنه لم يقم فيها سوى عامين اثنين لم يع الحياة فيهما على الإطلاق. وحين زار الشاعر، بعد 1994، حيفا كتب فيها قصائد تعد، من وجهة نظري، من أجمل ما كتب. والطريف أن الدارس حين يمعن النظر في عناوين مجموعاته الشعرية، بل في عناوين قصائده، لا يلحظ ورود اسم المدينة فيها. ما يلحظه المرء عن حيفا هو ما كتبه في مقدمة أعماله الشعرية الكاملة التي صدرت عن دار العودة في بيروت عام 1983.

   أتى أحمد في المقدمة على ذكر أمه وتأثيرها في حياته وحديثها الدائم عن حيفا. كانت حيفا، للأم وهي في المنفى، هي الجنة. وربما لا يستغرب هذا الوصف للمدينة من أقام في مخيمات اللاجئين وفي بيوت الصفيح فيها، ومن قبل بيوت الصفيح في الخيام. بيوت الصفيح التي تعد الآن جهنم، وهي البيوت التي تغنى فيها الشاعر، في شبابه، لا لجمالها وهدوء الحياة فيها، وإنما لأنها غدت تمد الثورة بأبنائها:

“اسمع- أبيت اللعن- راوية المخيم

افتح له عينيك وافهم

ـ هذي الصفائح والخرائب والبيوت

فيها كبرت بها كبرت وفوضتني عن جهنم”.

   علينا ونحن نقرأ الأسطر الشعرية السابقة ألا ننسى اللحظة الزمنية التي كتبت فيها، أي شرطها التاريخي، حتى لا يظنن ظان أن الشاعر وشعبه يعشقون حياة اللجوء وبيوت الصفيح. سينتظر أحمد دحبور ثلاثين عاما أنفق أكثرها في المنافي: مخيم حمص وعمان ودمشق وتونس حتى يدرك “أن للاشيء في تربته معنى ونعتا” كما كتب في قصيدته “وردة للناصرة ” التي ظهرت في ديوانه “هنا.. هناك ” وقد كتبها بعد زيارته الناصرة.

   كانت والدة الشاعر، وهو في المخيم، تقول له الكثير عن حيفا. “كانت أمي تدلك قدمي، وتحكي لي عن البحر الذي جلبته لي خصيصا من حيفا، وكنت أراها بأم عيني، تنشر البحر خلف منجرة المخيم فأسبح فيه وأغتسل، وأسمح لأترابي بالمشاركة… اللهم إلا الأشقياء منهم، وفي الليل تقفل أمي البحر، وترسله في الحنطور إلى حيفا.. وحيفا هذه ليست مدينة، إنها الجنة، ومن لا يصدق فليسأل أمي”. وسيرى الشاعر حيفا دائما خضراء، وثياب الناس فيها ليست سميكة في الشتاء. وسيطلب من أمه أن تأخذه إلى حيفا، وستجيبه: “غدا تكبر، يا حبيبي، وتأخذني أنت إليها”. وحين يكبر الطفل ويزور حيفا يكتب قصيدة “مسافر مقيم” ويتذكر كلام أمه:

“لسنا من هنا “

“وأجمل الدنيا هناك “

هذا هو كلام أمه وقد وضعه في القصيدة بين مزدوجتين.

   في تتبعي لعناوين مجموعات الشاعر حتى عام 2004 لاحظت خلوها من اسم المدينة، ولاحظت أيضا خلو عناوين القصائد نفسها من هذا الدال. ولقد ذهبت إلى ما هو أكثر من ذلك. لم يهد الشاعر أيا من دواوينه إلى حيفا، والديوان الوحيد الذي لم تخل منه النصوص الموازية من اسم حيفا هو الأعمال الكاملة وديوان “هنا.. هناك”. في الأعمال الكاملة، كما لاحظنا، أتى على ذكر أمه له عن حيفا في نظرها، وفي ديوان “هنا.. هناك” سيختار الشاعر أسطرا شعرية في المدينة/ حيفا كتبها الشاعر راشد حسين (1936 ـ 1977)، والأسطر هي:

“قالوا: أنت مجنون ولن يشفى

أمامك جنة الدنيا

ولست ترى سوى حيفا”

   وكان راشد كتبها وهو في نيويورك، بعد أن غادر فلسطين، وتشرد في المنافي وطلب العلاج في نيويورك.

   ويمكن القول إن المرء إذا ما تتبع قصائد أحمد دحبور في حيفا قبل عام 1994، سيلحظ أنه لم يكن لحيفا هذا الحضور الطاغي أو اللافت. هنا يثير المرء أسئلة عديدة عن سبب عدم الحضور الطاغي. أيعود السبب إلى أن الشاعر لا يكتب إلا عن تجربة معيشة وأماكن يعرفها جيدا، أماكن يراها يوميا ويعرف شوارعها وناسها. وأغلب الأماكن التي كتب عنها ـ قبل أن يعود ويخص حيفا بقصائد ـ هي حمص وعمان ودمشق والقاهرة وتونس، وهي مدن عرفها وأقام فيها أو زارها، وحين كتب عن فلسطين كتب عنها ككل، تماما كما أنه كتب عن المخيم الفلسطيني الذي كان يقيم فيه. وليس غريبا أن نعثر على دال فلسطين ودال المخيم كثيرا في أشعاره وفي عناوين قصائده.

   هنا يصل المرء إلى النتيجة التالية: إذا ما أردت أن تبحث عن حيفا في شعر أحمد دحبور فما عليك إلا أن تبحث عنها في ديوان “هنا.. هناك “، الديوان الذي جمع فيه القصائد التي كتبها بعد عودته إلى الجزء المتاح له من فلسطين وزيارته من ثم مدينته مدينة حيفا.

   عاد الشاعر من المنفى وزار الناصرة ليلتقي بالشاعر توفيق زياد. زارها بعد أن “عزفت في الروح جن”. كان أحمد دحبور يحنو على أرضه ولا يدري إلى ماذا يحن، فقد كان به شوق إلى مرتفع من ضلع فلسطين، وعرف أن الآخرين يلومونه حين يذكر اسم مدينته- يقصد الإسرائيليين- وهذا شيء ولد لديه أسئلة خارقة:

“رب حيفا أنجبتني

فلماذا إن رفعت الصوت: “يا حيفا” تنزلت إلى وادي الملامة؟

أنها إصبع هذا البر

تدلي بشهادات عن البحر

ولكن ليس لي من ظفرها حتى قلامة”.

    كان أحمد دحبور يعرف جيدا أنه يسمح له بزيارة حيفا، لا بالعودة إليها والإقامة فيها، فقد غدت في نظر الإسرائيليين، مدينة تخصهم. وكان هو الذي اخترع عبارة دالة ظل يكررها في مقالاته وحواراته، حين يأتي على اتفاقية أوسلو: “الجزء المتاح لنا من الوطن”. لقد أيقن أنه لم يعد إلى حيفا إلا زائرا، ومع أنه زارها إلا أنه لم يجدها، رغم أنه لامسها:

“”خذ يدي، يا ولدي، واقرأ ينبئك جرح:

إنني أقرأ باللمس

لماذا لم أجد حيفا وقد لامستها؟”.

    ما أدركه الشاعر من خلال تجربته يتمثل في أن أكبر خطأ ارتكبه الفلسطينيون في عام 1948 هو أنهم خرجوا من مدنهم وقراهم. لقد كان عليهم ألا يخرجوا حتى لو ذبحوا. (كان إميل حبيبي توصل إلى هذا وظل في حيفا وكانت وصيته أن يكتبوا على شاهد قبره “باق في حيفا”، وهذا ما كان له).

    في قصيدته “مسافر مقيم” يكتب أحمد دحبور هذا. يسترجع ما جرى عام 1948:

“”كان الدرك الأسفل، من نار السعير، صرخة:

“”لا تخرجوا “

والموج كان ينسج الجنون،

تنشج النساء،

والرجال كالنساء، ينشجون،

يثلج الشتاء

يلهج الصدى “

“لا تخرجوا”

“”لا تخرجوا”.

    وخرج الفلسطينيون يطلبون النجاة، فهل كانت النجاة في الخروج؟ وما ذنب الطفل إن رأى أبوه النجاة مخرجا؟ وهل نجا أحمد حقا أم أنه عاش اللجوء والطرد والشتات؟

“حيفا هي الجنة، ومن لا يصدق فليسأل أمي”. كتب الشاعر، كما رأينا، في مقدمة أعماله الشعرية الكاملة 1983، وفي 1994 سيكرر كلام أمه في القصيدة التي جادت بها قريحته يوم زار حيفا:

“”حيفا هي الجنون

حيفا هي الفقدان والرجاء “

   وقد خبأ جنون الوعد للقيا، ولكن هل سيكفيه، يوم يلتقي بمدينته، هل سيكفيه الجنون؟ كما لو أنه آدم وقد خرج من الجنة. إن حيفا هي جنته، وعودته إليها هي العودة إلى الفردوس المفقود، ففيها- وفيها وحدها- سيجد الأمان. ودون العودة سيظل:

“تخرج من مكيدة تدخل في مكيدة

تخبه الدوار والحمى

جحيمك الفقدان

فردوسك الرجوع والأمان”

“المنفى هو الجحيم، وإن لم يكن المنفى هو الجحيم، فما الجحيم؟” يقول الشاعر. هل أخطأ أحمد شوقي حين قال:

وطني لو شغلت، بالخلد، عنه

نازعتني إليه في الخلد، نفسي

   وهل أخطأ ناظم حكمت حين صرخ: “أدخلوا الشاعر إلى الجنة، فصاح يا وطني”؟

في نهاية “مسافر مقيم ” يثير أحمد دحبور السؤال التالي:

“هل عدت؟ كيف؟ “

ويجيب:

“ليس في حيفا لمثلي الآن من ميناء “

ويواصل أسئلته.

   جاء الشاعر إلى حيفا يحمل جبل الكرمل في قلبه ولكن: “كلما دنا بعد” وحين رأى الشاعر المدينة أدرك المأساة، وعرف أن حيفا التي نشدها غير حيفا التي يرى. هل رأى حيفا أم أنه رأى قرينة لها تغار من عينيها؟ إنها الحسرة.

“وكيف جئت أحمل الكرمل في قلبي،

ولكن كلما دنا بعد؟

حيفا أهذي هي؟

أم قرينة تغار من عينيها؟

لعلها مأخوذة بحسرتي،

حسرتها علي أم يا حسرتي عليها؟

وصلتها ولم أعد إليها

وصلتها ولم أعد إليها

وصلتها ولم أعد…”

    والمرء يقرأ ما كتبه أحمد دحبور عن حيفا وعودته إليها يتذكر بدر شاكر السياب وقصيدته “غريب على الخليج”. وأظن أن قصائد أحمد دحبور عن حيفا وفيها لا تقل جمالا وصدقا عن قصيدتي السياب؛ المذكورة و”أنشودة المطر”. كما لو أن روح السياب حلت في روح أحمد دحبور وهو يكتب عن حيفا.
____________
*المصدر: الهلال

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *