* تقديم وترجمة عن الفارسية:مريم حيدري
يعَدّ أحمد شاملو أهم شاعر وطني إيراني وأكثر الشعراء شعبية وأبرز من كتب قصيدة النثر في إيران، كما أنه يُعَدّ رمزاً للمثقّفين والفنّانين في الشعر، حيث حاول أن يتحدّث عن الحرية والأمل والصمود. وهناك الكثير من سطوره ومقاطعه الشعرية حفظها مُحِبّوه وهواة الشعر وأخذ يردِّدها حتى الذين لا يهتمّون بالشعر كثيراً.
لشاملو لغته الخاصة وإيقاعه المنفرد في الشعر المنثور، إذ تتّسم لغته بالرصانة، ويحفل نصّه بكثير من التراكيب اللغوية الجديدة التي أدخلها إلى لغته الشعرية، والمفردات التي دخلت نصِّه دون الآخرين؛ لذلك يمكن أن يكون أحد أسباب شعبية شاملو وخلود شعره هو تلك اللغة الشعرية التي تتميز في مزجها للملحمة بالغزل في آن واحد.
ويقال إنه حاول أن يستمدّ إيقاع نصّه من التراجم الفارسية الأولى للقرآن التي أنجزت في القرون الأولى من الهجرة، من مثل ترجمة أبي الفتوح الرازي التي حاول فيها أبو الفتوح – ونظراً لقداسة القرآن- أن يحافظ على الإيقاع القرآني في الترجمة. وشاملو، الذي قرأ قصيدة النثر الغربية وتأثر بها وشاهد تأثُّر الغربيين بالنصوص التوراتية والإنجيلية، خطا خطوات مشابهة وبرز في ذلك.
وهو إلى جانب الشعراء الإيرانيين الكبار، من مثل فروغ فرخ زاد، وسهراب سبهري، ومهدي أخوان ثالث، يُعَدّ من روّاد الجيل الذي أتى بعد الرائد الأكبر للشعر الفارسي الحديث، أي «نيما يوشيج»، والذي حرَّر الشعر الفارسي من قيود القصيدة العمودية، وبدأ بكتابة القصيدة الحرّة التي تعادل قصيدة التفعيلة في العربية.
كما اشتهر شاملو بقصائده التي تعكس الواقع السياسي والواقع الاجتماعي في عصره والاعتراض عليهما، وذلك بشاعرية تامّة ونبوغ أدبي دون الاقتراب من أي شعارات، ما جعل قصائده تلك خالدة حتى اليوم. وكان قد خصَّص بعض شعره للنضال السياسي والتيار اليساري الذي كان يعارض سياسات الشاه آنذاك. وما يلاحَظ في نصوص شاملو الغزلية والاجتماعية والسياسية، وفي حياته الشخصية أيضاً، هو أن الشعر كان هو الحياة بالنسبة إليه، كما ذكر يوماً أن «الشعر ليس انطباعات عن الحياة بل هو الحياة ذاتها».
أصدر شاملو مجاميع شعرية عدة خلال حياته، وقد أثّرت لغته الشعرية وعالمه الشعري في الأجيال الشعرية التي تلته، لا سيما لغته ومفرداته الرصينة والفخمة التي دخلت حتى فضاءاته الغزلية بشكل إبداعي رائع.
وُلِد شاملو عام 1925 في طهران، وتوفِّي عام 2000. من مجاميعه الشعرية: «حديقة المرايا»، «مراثي التراب»، «آيدا في المرآة»، «إبراهيم في النار»، «خنجر في الطبق» و«أغاني الغربة الصغيرة».
الحُبّ العامّ
الدمعُ سرّ
الابتسامةُ سرّ
والحبُّ سرّ
دمعةُ تلك الليلةِ كانت ابتسامةَ حُبّي.
لستُ قِصّةً تروينها
ولا نغمةً تُغنّينها
ولاصوتاً تَسْمعینهُ
ولستُ شيئاً تَرینَهُ
أو شيئاً تَعرفینهُ…
أنا وَجَعٌ مُشتركٌ
اصْرُخيني.
الشجرةُ تُحدّث الغابةَ
العُشبُ يُحدّث الصحراءَ
النَّجمةُ تُحدّث المجرّةَ
وأنا أحدّثكِ.
بُوحي لي باسْمكِ
هاتي يَدَكِ
قولي كلامَكِ لي
وامنحيني قلبَكِ
أنا أدركتُ جذورَك
بِشَفَتَيكِ نَطقتُ لكلّ الشفاهِ
ويَداكِ تألَفانِ يَديّ.
مَعكِ
في الخلوةِ المُضاءةِ بكيتُ
مِن أجلِ الأحياءِ،
وفي المِقبرةِ المُظلمةِ غنّيتُ معكِ
أجملَ الأناشيدِ
لأنّ أمواتَ هذا العام
كانوا أكثرَ الأحياءِ حُبًّا.
هاتِ يَدكِ
يداكِ تألَفانِي
يا من وجدتُكِ مُتأخّراً
أتحدّث إليكِ
كما يتحدّث الغيمُ إلى الطوفان
كما العشبُ معَ الصّحراء
كما المطرُ معَ البحر
كما الطيرُ مع الربيع
وكما تتحدّثُ الشَّجَرةُ مع الغابة
لأنّي
أدركتُ جذوركِ
لأنّ صَوتي
يألفُ صوتك.
في الَّليل
كيفَ يُمكنُ أنْ أكتُبَ قصيدةً في الّليلِ
تَتحدَّثُ عن قلبي كما عن زِندي؟
في الّليل
كيفَ يُمكن
أن أكتُبَ مثلَ تلك القصيدةْ؟
أنا ذلك الرمادُ الباردُ الذي
يكْمُن فيه لهيبُ كلّ التمرّدات،
أنا ذلك البحرُ الهادئ الذي
تكمن فيه صرخةُ كل العواصف،
أنا ذلك السرابُ المظلم الذي
تكمن فيه نارُ كلّ الإيمانات.
الأفُق المُضاء
ذاتَ يومٍ سَنجدُ حَمائمَنا مَرّةً ثانيةً
والمحبةُ، سوف تُمسِكُ بِيَدِ الجَمالْ.
يومٌ
تكونُ القُبلةُ
أقلَّ الأناشيدِ
وكلُّ إنسانٍ
يكونُ أخاً
للإنسانِ الآخرْ.
يومٌ
لا يُقفلونَ فيه أبوابَ بُيوتِهم
فالقفلُ عند ذلك
خُرافةٌ
والقَلبُ وَحْدهُ
يَكْفي للحياةْ.
يومٌ
تكون كلُّ الأحاديث فيه
تعني الحبَّ
كي لا تبحثي عن كلام من أجل الحديث الآخر.
يومٌ
تكون الحياة
إيقاعاً لكلّ حرفٍ
كي لا أحتمل عناءَ البحثِ عن القوافي
من أجْلِ القصيدةِ الأخيرةْ.
يومٌ
تكونُ كلّ شَفَةٍ فيهِ
أغنيةً
لتغدوْ القبلةُ، أقلَّ الأناشيدْ.
يومٌ
تأتينَ فيهِ
تأتينَ للأبدْ
وتتساوى المحبّةُ مع الجمالْ.
يومٌ
ننثرُ فيه الحَبَّ ثانيةً لحَمائِمِنا…
وأنا أنتظرُ ذلكَ اليومَ
حتّى
يومَ لم أكُنْ.
في الَّلحظة
ألْمَسُكِ فأدرِكُ العالَمَ،
أفكِّر بكِ
وأتلمَّسُ الزمانَ
مُعلَّقاً، بلا حدودٍ
وعارياً.
أهُبّ، أُمطِرُ، أُشِعّ.
أنا السماءُ
والنجومُ والأرضُ،
والقمحُ المعطّرُ الذي يزهرُ
راقصاً
في روحِه الخضراءْ.
أعبُرُ مِنكِ
كما صاعقةٌ من الّليل.
ألمعُ
ثمّ أنهارْ.
موت نازلي(1)
«- نازلي!
ها هُو الرّبيعُ ابتَسَم وتفتّحتْ زهرةُ الأرجوانْ.
وفي البيتِ ازدهرتْ الياسَمينةُ الهَرِمةُ تحتَ الشُّبّاك.
اتركْ الظنَّ والخيالَ!
ولا تصارعْ الموتَ المشؤومَ!
فالوجودُ خير من العدم، لاسيّما في الربيع…»
ولكنّ نازلي لم يتحدّث،
فقط
بكبرياءٍ
كَتَمَ الغَيظَ ورحلْ.
«نازلي! قل ْأيَّ شيءْ!
طائرُ الصَّمتِ، في عُشِّه الآنَ
يدفّئ بيضةَ موت مفجع!»
ونازلي لم يتحدّث،
خرجَ من الظُلُماتِ كما الشَّمسُ
وتخضّبَ بالدّمِ ورَحَل…
نازلي لم يتحدّث
نجمَةً
كانَ نازلي
تلألأَ في هذا الظلامِ لحظةً، ثمَ قفزَ ورَحلَ…
نازلي لم يتحدّث
بنفسجاً
كان نازلي
تفتّحَ
وبشّرَ: «لقدْ انكَسَر الشِّتاءُ!»
و
رحلْ…
أحيّيكِ…
أحيّيكِ وأجلسُ بجواركِ
وفي خِلْوَتكِ تنْبَني مَدينتي الكبيرةْ.
إن كنتُ صرخةَ الطائرِ أو ظلَّ العشبِ
فهذه الحقيقةُ في خلوتكِ أجدُها.
مُتعَباً، مُتعَباً، من مسالك طريق الحيرة آتي
مُمتلئاً مِنكِ كما المرآةُ
ولا يُهدّئني شيءْ
لا غُصْنُ زِندكِ ولا ينابيعُ جَسَدكْ.
ساكن أنا دونك، ومدينة في الليل.
تُشرِقينَ
من بعيدٍ أتذوَّقُ دفأك
فتَستيقظُ مَدينتي.
بالضجَّاتِ، والتردّداتِ، والمحاولاتِ، وضجيجِ مُحاولاتي المتردّدة.
لم يعُدْ شيءٌ يَنوي تَهدِئتي.
في البُعد عنكِ
أيّتُها الشّمسْ
مَدينةٌ في الّليلِ.. أنا
وغُروبُكِ يُحرِقُني.
أبحثُ عن فَجرٍ ضائعْ.
تتحدّثينَ ولا أسمعْ
تَسكُتينَ وأصرخْ
أنتِ معي وأنا لستُ معي
ودونك لا أدركُ نفْسي.
لم يعدْ شيءٌ يَنوي تهدئتي أو يَستطيع.
صراخَ الطّائرِ كنتِ، أمْ ظِلَّ العُشبْ
فهذه الحقيقةُ وجدتُها في خِلوتِك.
كبيرةٌ هي الحقيقةُ، وصغيرٌ وغريبٌ معكِ أنا.
اسمعي صُراخَ الطائرِ
وامزِجي ظِلَّ العُشبِ بعُشبكِ
عرّفيني إليكِ يا غريبتي
ووحّديني بنفْسكْ.
امتزاج
على نحوٍ قاسٍ
ضئيلاً كان الحيِّزُ
والحدَثُ..
غيرَ متوقَّع
تماماً.
لم نذُقْ طَعمَ نَشوةٍ
منْ رؤيةِ الرّبيعِ
فالقفصُ
يجعلُ الحديقةَ ذابلةً.
سأنقطِعُ
مِنَ الشّمسِ والنَفَسِ
كما تنقطعُ الشَّفَةُ من قُبْلةٍ غيرِ ريّانة.
عارياً
قُلْ لهمْ أنْ يَدفنوني عارياً
عارياً تماماً
كما نُقيمُ الصلاةَ للحُبّ،
فأريدُ الامتزاجَ
بالترابِ
حُبًّا
دون شائبةِ أيِّ حِجابْ.
نشيدٌ للشُّكر والعِبادة
قبلاتُكِ
العصافيرُ الثرثارةُ في الحديقةِ
نهداكِ خليّةُ الجبالْ
وجَسدُكِ
سِرٌّ أبَديٌّ
يبوحونَ لي بهِ
في خلوةٍ عظيمةْ.
جَسدُكِ إيقاعٌ
وجَسدي كَلمةٌ تَجلسُ فيهِ
لتُولَدَ نَغمةٌ:
نشيدٌ يَنبضُ بالدَّيمومةْ.
كلُّ المَحبّاتِ في نَظرتِكِ
هِندباءُ بَريّةٌ تأتي بنبأ الحياةْ.
وفي صَمتكِ كلُّ الأصوات:
صرخةٌ تجرّبُ الكَينونةْ.
غزَلُ التّحيّةِ والوداعْ
بتَحيّةٍ تَدخُلين البيتْ
وبوداعٍ
تُغادرينَه.
أيّتُها الصانعةْ!
لحظةُ عُمْري
ليستْ إلا الفاصلَ بين هذه التحيّة وذاكَ الوداعْ:
هذه، تلكَ اللحظةُ الحقيقيّةُ التي
تنتظرُ الّلحظة الأخرى.
نَوَسانٌ في مِرساةِ الساعةِ
يجرُّ المرساةَ بنوَسانٍ آخَر.
خُطوةً قبلَ خُطوةٍ أخرى
تُوقظُ الطّريقْ.
دَيمومةٌ تصنعُ وقتي
ولحظاتٌ تملأ عُمري.
مِيعاد حُبّ
أحبُّكِ
أبعدَ مِن حُدودِ جَسَدي
في ذلكَ البَعيدِ الأقصى
حيثُ تنتهي رسالةُ الأعضاءِ
ويخمَدُ تماماً
لهيبُ النبض والتمنّي
وكلُّ معنى يغادرُ إطارَ الّلفظِ
كما روحٌ
تترك الجسدَ في نهايةِ السفرِ
لهجومِ النُّسورِ الأخيرة…
أحبُّكِ
أبعدَ من الحُبّ
أبعد من الستائر والألوان.
أبعد من جَسَدَينا
امنحيني موعداً لِلِّقاءْ.
______
*مجلة الدوحة