فقه تبادل الأدوار !

*خيري منصور

اذا صحّ ما يقال عن ان الأزمات السياسية العربية خلال العقدين الماضيين تفاقمت وانفجرت ولم تنفرج بسبب التدويل والعجز الذاتي عن حلها، فإن ما يقابل ذلك ثقافيا هو تعويم القضايا والظواهر، من خلال تبادل الأدوار، فالمجتمعات العربية غير الزراعية تتبنى اشكاليات هي من افراز المجتمعات الزراعية والمجتمعات الزراعية بدورها تتبنى قضايا من صميم المجتمعات الصناعية وما بعد الصناعية، وقد تحول هذا القفز نحو الأمام الى حيلة للتهرب من مواجهة الواقع، وبالتالي تهريبه ، والصخب الذي صاحب الأزمات العربية سياسيا سواء من خلال حراكات دبلوماسية استعراضية او عبر وساطات فاقدة الفاعلية يقابله ثقافيا صخب مهرجاني يتجلى في ندوات متعاقبة تحت عناوين جاذبة، لكن هذه الجعجعة غالبا ما تكون بلا طحين، وهي أشبه بما يسمى البطالة المقنّعة التي توهم من يرصدها على السطح بأنها انهماك واستغراق وهي في الحقيقة مقايضات سياحية، وتخضع لنظرية في علم الاحياء هي الحك المتبادل !
لقد رسخت هذه الاساليب في التهرب تقليدا استمد شرعيته من التكرار، وهو قل ما تشاء عن هناك .. ولا تقل شيئا عن هنا، لأن هنا هي اليوتوبيا وهناك هي الديستوبيا، وذلك على طريقة الطرفة السوداء التي تداولها الناس في الحرب الباردة، وهي ان امريكيا قال لسوفييتي استطيع ان اقول ما أشاء أمام البيت الأبيض، فأجابه السوفييتي وانا ايضا استطيع ذلك، وتناسى ان الحرية هي ان يقول ما يشاء أمام الكرملين !
والارجح ان سبب اكتشاف حيلة تبادل الأدوار وتحويل الحراك الثقافي العربي الى حفلة تنكرية هو تبعية الثقافة للإعلام وبالتالي تبعية الاثنين معا للسياسة أو الايديولوجيا، فالأسلم والأدعى الى النجاة التواطؤ على ما يحدث داخل البيت والتربص بما يجري في بيت الجيران ! وقد يكون المثقفون الذين يتكرر حضورهم في المآتم والأفراح آخر من يعلمون، وتلك بالطبع مصيبة، اما المصيبة الأعظم فهي ان يعلموا ويتعاموا !
وقد تسللت عدوى تبادل الأدوار من الثقافة الى صلب السياسة وشجونها، فالنقد الذي يوجه لزعيم او نظام غالبا ما يأتي بعد رحيل الزعيم او غروب النظام بحيث يفقد النقد جدواه ولا يؤدي وظيفته الحيوية وهي تدارك ما تبقى ! لهذا فإن الانشطة الثقافية من حيث الكم تبدو معافاة، وفاعلة، لكن فحص محتواها ينتهي الى عكس ذلك، ما دامت القضايا الحيوية مهرّبة ومستبدلة بقضايا اخرى لملء الفراغ والايهام بممارسة الدور !
هكذا يتخصص اطباء متخصصون في معالجة امراض الاسكيمو وسيبيريا بتقديم وصفات لمرضى خط الاستواء والبيئات التي تصل فيها درجة الحرارة الى ستين درجة مئوية فوق الصفر ! وشهد عقد الستينيات من القرن الماضي بواكير هذه الحفلة التنكرية حين عقدت ندوات عن البروليتاريا في بلدان تخلو من بروليتاري واحد بالمعنى الدقيق، وتداول البعض اطروحات اقتصادية عن انماط انتاج اكثر الدول المتقدمة صناعيا في مجتمعات ريعية، وانعكس ذلك على النقد الادبي، بحيث عقدت مقارنات بين شكوى الشاعر العربي من المدينة وبين شكوى اليوت وسيتويل وباوند وغيرهم من مدن عملاقة كلندن ونيويورك وباريس ! رغم ان بعض ضواحي المدن العربية في خمسينيات القرن الماضي كانت تضاء بطرق بدائية، وتحرث حقولها الابقار والبغال . هكذا انهمك من عاشو ما قبل الحداثة في اشكاليات ما بعد الحداثة، تماما كما انهمك الساسة في مقاربات عن الدولة وهم يعيشون حقبة ما قبل الدولة .
وللمثال فقط نستطيع احصاء مئات الندوات التي عقدت في مختلف العواصم العربية عن الديموقراطية وافرازاتها، وغالبا ما يكون النموذج إما متخيلا وتجريديا او مستعارا من عالم مغاير ، وكان اجدر بدول تراوح بين الثيوقراطية والبطريركية والاتوقراطية ان تستقرىء واقعها، وتسمي امراضها باسمائها كي تتمكن من التشخيص الدقيق والعلاج ، لكن فقه التهرب من الواقع وتهريب قضاياه الاكثر الحاحا بلغ الى الحد الذي يخجل فيه البعض من الجهر بما يعانيه، وكأن التخلف عورة يجب التستر عليها والفقر ندوب متقيّحة يجب تغطيتها بمساحيق التجميل، وأذكر ان المفكر الراحل د . هشام شرابي تساءل ذات يوم بإندهاش عن إنجذاب بعض المثقفين العرب للمنهج التفكيكي وقال ان مجتمعات تماسكت بناها ونضجت واكتمل نسيجها يحق لها ان تتفكك، اما المجتمعات ذات البنية الهشة والنسيج النيء والهوية الناقصة عليها ان تستكمل تماسكها اولا وتسعى الى التركيب .
ان اسوأ ما يمكن ان يصاب به التابع والمغلوب هو الأفتتان بنموذج غالبه كما قال ابن خلدون قبل قرون، لكن ما لم يشهده ابن خلدون هو افتتان المغلوب بامراض غالبة بحيث اصبح يدعيها متجاهلا امراضه التي تقضم ما تبقى له من عافية !!
_________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *