بائع التفاح

خاص- ثقافات

*سفيان سعيداني

كانت الشمس في كبد السماء ، و كان النهار حارا وهجا يستشيط ، تهب فيه لفحات مثقلة كأنها ألسنة نيران مزفرة ، فلا يسمع في هذا المكان سوى زقزقة عصافير و صرير جراد منتشر بين طيات الحصاد . أيقظته أنوار الظهيرة المتسللة من ثقوب هذه العمارة المهجورة القديمة ، فأزاح عنه الغطاء البالي الذي بات يتدثر به عبثا من لسعات البعوض ، و فتح عينيه المتورمتين بعد ليلة من أسى تواترت فيها المخاوف و الكوابيس تعبث بكيانه و تزلزله جزعا ، فالبارحة ، في جوف الليل المظلم ، من على أغصان السنديان المظلمة ، انبعثت تغاريد البوم ممتزجة بعويل الرياح التي تهب متأخرة ، متسللة من تلك النافذة المهشمة المحطمة ، انبعثت نحيبا تردد بين أصداء الجدران و هو فتى وحيد مضطجع و قد أرهقته الأوهام و سول له عقله من المخاوف ما أرهق كاهله ، فكانت نبضات قلبه تتسارع فوق طاقتها و مثلها أنفاسه مع أن تعبا لم يصبه ، فكان يغمس وجهه في الغطاء و تارة أخرى يلهي نفسه يرسلها سفيرة خياله الجامح ، و لكن كل محاولاته كانت تهدر جفاء ، فتصيبه رعشة و قلق و يسري بأوصاله حر كأنه باطنه ينزف عرقا إلى أن يتمكن منه النعاس و يغط في نوم عميق بعد نزاع شديد .
جلس يتنفس نفسات عليلة و قد سرت آلام اجتاحت منكبه بسبب الأرضية الصلبة ، و تنهد بعمق عن صبر كاد يعيل ثم استيقظ و نفض ثيابه من غبارها ، و كانت قميصا أخضرا باهت اللون و سروالا أزرقا من خميلة متهرئة ، ثم إذا به يلبس حذائه الأسود الذي أصابته خدوش من على جوانبه ، و سار بخطى متثاقلة نحو النافذة و تطلع إلى الأفق فاستنار وجهه الأسمر و لمعت عيناه العسليتان ، و أخرج من جيبه العريض قبعة وضعها على شعره الأسود الداكن و قفز حتى تدحرج أرضا . كانت بطنه تعتصر تنطبق و تتألم فمنذ يومين لم يذق طعم الأكل ، فكان يسير و يترنح دون توازن ، نظر يمنا فلم يجد سوى السنابل الذهبية الشامخة و مثلها عن شماله و كان يتحاشى أن يقطع منها ربطة يطحنها بحجر فيحولها إلى حنطة ، فرغم تشرده إلا أنه كان يحفظ جيدا المبادئ النبيلة و لم يتجرأ يوما أن امتدت يداه إلى ما ليس يملك . تصببت جبينه عرقا ، فأزاحه بمعصمه الذي لفحته الشمس ،و كانت الطريق الترابية لازالت تمتد نحو المدينة ، فاستجمع ما بقي له من قوة و اندفع يعدو آملا أن يجد من أخيار الناس ما يهبه و لو رغيفا من الخبز . كانت نفسه تنهاه عن الطلب و كان يرى فيه ذلا و وهنا ، و لكن العوز المرير لا يرحم صاحبه ، و تفكر ، أليس الله قد خلق الناس لبعضها ، من روح واحدة ، إذا فلا بد أن يجد بين الناس رحمة و شفقة ، على متشرد ضغطت عليه الأيام و رمته من أطلال قديمة ، فبعد وفاة جده لم يجد حضنا يلجأ إليه و لا بيتا يستقر فيه ، فقد كان كوخهم منعزلا في أقاصي الجبل بعيدا عن البشر ، و قد اتخذ جده ذاك المكان لأنه كان في تشائم دائم من البشر ، و يروي دائما قصصهم الشنيعة معه ، كيف أنهم لم يرحموه أبدا و لم يساعدوه في محنته وكيف أن الوحدة في هذا الزمان الذي انعدمت فيه المروءة هو خير ما يتعض به الرجل من حكمة و قرار . انسابت نسمات حارة لفحت وجهه ، فتوقاها بكفيه الهزيلتين ، و من حسن حظه أنه وجد على قارعة الطريق بيتا أبيضا ينبع منها ماء زلال ، تصطف عليها السيارات و العربات يعبون الماء ، فمضى وراء البيت البيضاء فوجد متسرب ماء و غديرا صافيا عباما ، فجعل يشرب حتى ارتوى و نزلت القطرات الباردة على رقبته متسللة إلى قميصه البالي و غسل أطرافه و وجهه و بلل قبعته و وضعها على رأسه و استأنف مسيره و قد أحس ببرودة و ارتياح و ذهب عنه الإغفاء و الدوار . لاحت المدينة على بضع خطوات تتجمع بناياتها و لا تتفرق و تتفرع فيها الطرق فتختلط ، دخل و قد أحس بارتباك و حياء ، إنه جديد عهد بهذا المكان و لا يعرف عن أهله شيئا ، و ليس يدري بشيمهم و صفاتهم ، و قد خشي أن لا يحسن اللباقة بينهم . مر أحد المترجلين عليه و كان غاية في الأناقة ، فحياه الفتى ، لكنه رمقه بنظرات لم يفهم لها مغزى و مر دون أن يرد عليه ، فاستغرب الفتى في بداية الأمر ، و لكنه تصنع عذرا و قال : ربما لم ينصت جيدا لما قلت و إلا لما بانت على وجهه مثل تلك القسمات الجافة . مرر خطاه بين الحي الشعبي و كان به منظر عتيق جميل ، أبواب مقوسة في أعلاها ، و شبابيك من خشب زرقاء تتوالى على جوانبها قطع سوداء من حديد داكن تزخرفها . ثم إذا هو يمر على مقهى انتشرت كراسيه خارجا كأن الجلوس يفرون من انقباض الجدران ، و كل هائم حول نفسه فمنهم من يترشف كأسه بعصبية و منهم من يشرد شرودا تائها و منهم من يمسك صحيفة أو كتابا يقرأه ، و كان يتمنى لو أنه أجاد القراءة و الكتابة ، و لكن جده منعه من ولوج الكتاب قائلا له : يا بني إذا ما أردت أن تنتصر على الحياة فدع عنك كل علم أو فلسفة ، و عش تقيا نقيا مصلحا و لا تجتر على الناس ظلما ، و كان يلقنه المبادئ الجيدة السامية حتى نشأ طيب القلب حسن الظن جوادا مقداما . و بينما هو يسير لا يدري لنفسه قرار ، رأى كلبا ينهش القمامة ، فتذكر كلبه قطمير ، رفيقه القديم الذي ما كان يملك من رفيق سواه ، و لكن الأقدار فرقت بينهما ، فقد مات بعد أن صرعه خنزير في أحد الغابات في سفح الجبل عندما كان يحتطب هو و جده . مضى نحوه و عندما تحسس الكلب خطوات الفتى استدار مكشرا عن أنيابه العريضة الحادة التي لطخت ببقايا أكل ، و لكن الفتى تجاهل تلك التكشيرة العنيفة وقال بصوت رقيق : لا تخف ! ثم صفر برقة ، فاستكان الكلب و هدأ ، ثم صار يعبث بذنبه يشيله هنا و هناك ، ففهم الفتى أن الألفة قامت بينهم ، فتقدم نحوه و مرر كفه على رأسه و على فروه الناعم ثم ابتعد عنه قليلا فتبعه ، و استأنف المسير و قد حضي برفيق جديد يتبع خطاه و سماه بيهس . كان الناس يحدجونه بنظرات غريبة و كانت السيدات يتحاشينه و قد تعجبوا لأمر هذا الفتى الغريب ، يلبس أطمارا و يسير رفقة كلب كثيف الفرو رمادي اللون. لم يهتم ، و استكمل طريقه إلى حيث السوق و كان الكلب يسير إلى جانبه يرافقه فيحس أن وحدته انتهت أخيرا . لاحت العمائم و القبعات و الطرابيش ، كان السوق مكتضا و أصوات التجار تهز الأركان ، أحس بدوار خفيف لكنه لم يبالي ، و كانت خطواته تتباطئ خشية أن يفترق عنه كلبه ، كانت رائحة الزيتون تتسلل إلى أنفه و تدخل باطنه فترهقه ، و كانت الفواكه مرصفة على جوانبه من كل لون و رائحة ، فكانت عينه تنظر و نفسه تشتهي و لكن ما بيده من حيلة . وصل إلى طاولة ضخمة ، قد رصف عليها التفاح ،و كان أحمرا شهيا تتصبّب قطرات مياه من برودته ، و ها هو الدوار يراوده مرة أخرى فخر على الأرض مغشيا عليه بعد آلام حادة سرت ببطنه ، لم يهب لنجدته أحد و لا الناس الذين كانوا يتزاحمون للطلبات ، كانوا يتحاشون ثيابه الهماليل و كلبه قد جن جنونه ، فظل يلعق وجهه حتى استفاق من غيبوبته . فتح عينيه و صورة التفاح كانت لا تفارقه ، و أثارت في نفسه شهوة غريبة ، و الجوع كان قد مزق أحشائه اليائسة ، فتماسك واقفا ثم مضى وراء الطاولة حيث وقف رجل طويل القامة بدين أصلع و له ذقن أصفر يلبي الطلبات بسرعة خاطفة و هو لا يدري السبب الذي اقتاده إلى ذلك الرجل بالتحديد من دون الطاولات الأخرى الكثيرة ، انتظر الفتى حتى انفض الناس ثم نادى الرجل بلطف فالتفت إليه ، و عندما رأى الكلب قال بغضب : أبعده من هنا ، هيا تحرك بسرعة أبعده الفتى بلطف غير بعيد عن ناظريه ثم قال له بلهجة مستعجلة و هو يحدج مظهره المزري بنظرات قاسية : ماذا تريد ؟ تحرج قليلا حتى احمرت وجنتاه لكنه تحامل حرجه و قال : في الحقيقة … أنا … أنا جائع يا عمي و طأطأ رأسه ثم قال : لقد مات جدي و تركني وحيدا فهربت من ذاك المكان البعيد إلى هذه المدينة ، و ليس معي نقود ، و أنا جائع ، أقسم أنني جائع ، انظر بطني المتألمة و قبل قليل سقطت مغشيا ها هنا أمام طاولتك … و لكن التاجر فهم أن الفتى يريد منه تفاحا فانفض عن الولد ليقضي طلب أحد الزبائن و الفتى لا يدري فقد كانت الأصوات متزاحمة فما أدرك الأمر و استأنف كلماته البريئة : أريد منك أن تعطيني و لو تفاحة واحدة أسد بها رمق جوعي لو تفضلت ، و أنا أترجاك فالجوع لا يرحمني إنه يستنزف قواي ، أرجوك ، أرجوك و دمعت عيناه من مرارة الذل ، و عندما رفع بصره وجد التاجر منشغلا في تلبية الطلبات دون أن يوريه استماعا و لا اهتماما ، ففهم مبتغاه ، فهم أن التاجر احتقره و ما رحمه و هو يود منه أن يغرب عنه فهو يقلق راحته و يوتره عن أعماله . عاد أدراجه يتخبط حزنا ، و معه كلبه يتقفى أثره يعبث بذنبه و ابتعد عن الناس و بكى دمعا مهراقا عن قلب يمزقه الحزن و أقسم أن لا يطلب من شخص حاجة بعد اليوم و لو أن يموت جوعا ، و قرر أن يأكل من مطبخ مجاني مفتوح ما من أحد يرده عنه ، و هو الذي يأكل منه كلبه بيهس ، و لذلك الأمر سارا كأنهما يتفقان ، و كان سروره لا يوصف ، فالليلة لن تنتابه المخاوف و لا الكوابيس و لن يعبث بكيانه صدى السنديان الموحش و معه رفيق مخلص يجيبه كلما ناداه . وصلا إلى الشارع الذي خفت زحمته إلا من سيارات و عربات ، و هاهما يسيران في الحي الشعبي متجهين إلى المكان المنشود يأكلا ثم يعودان إلى العمارة المهجورة ، و ما كادا يجتازان إلى الرصيف الآخر حتى شد انتباه الفتى أمر ، و كانت امرأة متأنقة ترتدي قبعة عريضة تتحدث إلى امرأة أخرى و الظاهر أنهما صديقتان قديمتان يتجاذبن أطراف الحديث و الذكريات السالفة فيتحدثن تارة و يضحكن تارة أخرى باستحياء ، و كانت المرأة ذات القبعة قد اصطحبت ابنتها الصغيرة معها ، و كانت طفلة جميلة تلوح من وجهها البراءة ، و لكنها غفلت عنها بالحديث الشائق حتى أفلتت يدها و سارت في عمق الشارع تطارد ورقة عابرة قذفها الريح ، و هي على تلك الحالة في عمق الشارع إذ أقبلت شاحنة قديمة كبيرة مثقلة بالآجر تطوي الطريق طيا ، وما أن لمح السائق الفتاة حتى زمر عليها بعنف و لكن دون جدوى و المكابح لا تجدي آنذاك شيئا و الأم لم تتفطن ، حينها ركض الفتى صالح نحوها مسرعا و لم يشعر بالخطوات كأنها خطفة بصر حتى دفعها خارج الطريق ساقطة على ظهرها و لما اشتد بكائها تفطنت الأم و قد دوى نحيبها و عويلها ، و الفتى جاثم مكانه و الشاحنة قاب قوسين منه أو أدنى و قد سلم نفسه لمصير فدائي عظيم لم يندم عليه بل كان ينتظر مآله مبتسما راضيا مطمئنا ، و لكن إذ ببيهس بسرعة البرق كأنه طيف يرتمي عاليا حتى يتطاير فروه و يدفع صالح بقوائمه حتى سقط على الرصيف و بعد ذلك صدمته الشاحنة صدمة دوت حتى فزع لها أهل الحي ، و عوى متألما و مضى يحتك بالطريق و الدماء تلونها . اجتمع الناس حول صالح و الفخر باد على وجوههم و الأم تشكره و تعدد مفاخره و تغدق عليه بالأدعية ، و أتوا له بأصناف الطعام و المآكل و المشارب ، وكل آت يرى أسطورة الطريق الذي أنقذ الفتاة الصغيرة ، و لكنه انفض من بينهم ، و مضى يبكي إلى بيهس ، و وصل إليه يلفظ أنفاسه الأخيرة مطمئنا كأن به يبتسم و حرك ذنبه حركات واهنة ثم استكانت حركته ، فعلم أنه فارق الحياة ، فدوى بكائه و أنينه حتى حزن الجميع لحاله و اهتزوا بكاء لهذا المنظر المحزن . و هم على حالهم تلك حتى أتى أب الفتاة و قد وصله الخبر الأليم ، فأتى الأب الأصلع البدين صاحب الذقن الأصفر ، و لما رأى ابنته معافاة سليمة حمد الله و بكى و شكره ، و قالوا له أن الفتى أنقذ حياة ابنته الوحيدة و الكلب أنقذ حياة الفتى ، فأسرع نحوه ليقبل رأسه و قد أزمع أن يفديه بروحه إن استوجب الأمر و الأيام ستشهد بذلك ، و ما أن وصل إليه و لمحه من قريب منكبا على الكلب يبكي تذكره من عيناه العسليتان و قبعته و ثيابه الرثة ، إنه ذلك الفتى الذي أتى يستعطفه و يطلب منه العون ، و لكنه تجاهله معرضا . أحس زلزلة اجتاحته و انقبض حلقه حزنا و كمدا و اندفعت عبراته و عادت خطواته إلى الوراء خجلا و تأنيبا دون أن يزيح أعينه عن الفتى ، و الناس تستغرب هذا الموقف العجيب ، و لكنه بعد خطوات معدودة خر مغشيا عليه فاجتمع الناس حوله يبللون وجهه ماء و هو يهذي و يقول : يا ليتني ما ازدريته ، يا ليتني أطعمته … و البنت متشبذة برداء أمها تبكي لحال أبيها بائع التفاح و تنظر إلى الفتى المنكب على كلبه يئن بكاء فتزيد عبراتها المهراقة حرقة و انهمارا .

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *