قصص قصيرة

*أحمد الرحبي

الحفرة
ما لفت نظر عابر الطريق الغاذ الخطى كأنه يحاول أن يسبق ظله الأسود الممدود أمامه بفعل أشعة الشمس الغاربة، يدفعه طلب الدفء في ذلك الأصيل الشتائي القارس البرودة، والأنس من وحشة طريق مقطوع عن العمران بدأ يختفي رويدا رويدا في ظلمة المساء البادية في الأفق الغربي، ما لفت نظره وجعل كل خلية تقشعر في بدنه، أن حفرة كأنما يد الحفار قد أنهت للتو، انبثقت فجأة في طريقه، ملتهمة ظله الذي كان يفترش أمامه وكأنه بساط طويل أسود يتقدمه، حفاوة بخطواته التي يخطوها بتدافع متعجل، حتى اختفى كليا من أمام صاحبه وكأنما لم يكن هذا الظل، برغم أن الشمس التي تنفذ انحدارها الأخير في تلك الأثناء من على شرفة الأفق الحمراء ما زالت تملك القدرة على عكس الأشياء ومطها في خط طويل كما يحدث عند تنفيذ خطوط مستقيمة ثخينة بواسطة قلم فحم.
وما ضاعف الدهشة لديه مما جعل فرائصه ترتعد وجعل حركته بالكاد تساعده على صلب طوله والبقاء متصلبا في مكانه من أثر الجزع وشدة الخوف الذي اعتراه، إن الحفرة الفاغرة فاها والتي لم يعد يفصله عنها إلا بضع خطوات بسيطة، فاجأته في صمت ذلك المكان المقطوع بصوت يخرج من عمقها بدت نبرته مشحونة بتصميم وإيجاز من لديه رسالة يحتم عليه إبلاغها أو حتى قذفها في وجه صاحبها دون إبطاء، بكلمات لا يمارى في جديتها تلك الجدية المؤذية القتالة والصريحة، الصادمة في صراحتها، فقد توجهت الحفرة للعابر الذي بدا مرعوبا بشكل كبير بقولها: أنا قبرك أيها العابر، قابعة هنا في انتظارك ، منذ مولدك.
هذا ما جاء في حكاية تحكى عن طريق يتوسط مساره كأنه علامة تعجب كبيرة تقع في المنتصف من سطر أجرد من الكلمات، قبر مجهول الهوية، حكاية اشترك في تخيل تفاصيلها كل من عبر ذلك الطريق، ومن عاشوا الدهشة للوهلة الأولى من وجود القبر يتوسط مسار الطريق، وكأنه يقف هناك كفزاعة لإثارة فزع ورعب المسافرين وعابري الطريق، وحثهم على استعجال سلامة الوصول في طريق لا تؤمن معاثره.

ابتسام
على صينية من ذهب حمل رأس قائد الأعداء وقدم بين يدي الإمبراطور الذي سر بهذه الخطوة التي أتاحت له رؤية ألد أعدائه في وضع كهذا الوضع الذي لا يتمناه لصديق وحقق له برهان الطاعة والإخلاص الذي يكنه قادته ورجاله له .
ولقد ظل الإمبراطور ينظر الى الرأس وهو ثاوي في وسط الطبق لكنه فجأة لاحظ في اكتشاف غريب لم يلاحظه باقي رجاله وأركان دولته بأن الرأس في الطبق ترتسم على سحنته ملامح الابتسام وكأنه يعبر في تقاسيمه تلك اللحظة عن ردة فعل معتادة لخاطر سعيد أو تعبير عن فرحة شامته ولقد ذهب الاستغراب بالإمبراطور من هذا الاكتشاف بعيدا حتى لم يعد ذاته ذلك الإمبراطور المنتصر الذي يعيش لخطة الظفر في أزهى معانيها وقد تدحرج رأس خصمه بين قدميه .

جثة
أنت أيتها الجثة انهضي، آمرك عودي من حيث جيء بك، عليك أن تسيري في الطريق كما يجب بلا ترنح، لا تثرثري مع المتسكعين في عطفات الطريق عما مر بك لا تثيري حفيظتي عليك.
أديري ظهرك واختبئي من كل معارفك الذين تصادفينهم، فهم بحاجة الى منطق من التفسيرات للجم دهشتهم، لا تملكينه في وضعك هذا ستقتحمين عتبة الدار بخطوات متعثرة فيما مجلس الشحناء والبغضاء منعقد حول موضوع تركتك.
أطلي عليهم بابتسامتك البيضاء الفاغرة كما رسمها على محياك النزع الأخير، واستميحيهم عذرا في إضافة جملة قصيرة الى وصيتك.
__________
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *