*خيري منصور
ما صدر حتى الان من الكتب عن تاريخ التعذيب ليس سوى زفرات متباعدة لمن استغرقهم هذا الشجن البشري قياسا الى الزفير الأعظم للتاريخ برمّته، فالتعذيب كان بكر السلطة منذ ميلادها ان لم يكن احيانا توأمها، ما دام الهدف منه اضافة الى التلذذ السّادي هو الاحتكار والاستحواذ سواء كان سياسيا او اقتصاديا او حتى بحثا عن نفوذ اجتماعي.
وقبل ان يترجم الشاعر الراحل ممدوح عدوان كتاب بيرنهاردت هروود بعنوان ‘تاريخ التعذيب’ كانت كتب من طراز كتاب ميشيل فوكو عن تاريخ التعذيب وما كتبه الراحل هادي العلوي عن التعذيب في التاريخ الاسلامي هي الأبرز في هذه القائمة خصوصا ذلك الفصل المروع من كتاب فوكو عن تعذيب المسيو دميان قبل بضعة قرون، حيث تم تقطيع اوصاله بواسطة الخيل تحت اشراف طبي، وتلك هي مفارقة التعذيب الكبرى، حيث يحرص الذي يمارسه على ان تبقى ضحيته على قيد الوعي، لأن الموت كما الغيبوبة نجاة للضحية من الألم، وما قدمه الأدب العربي الحديث عن تراجيديا التعذيب يبقى ثانويا اذا قورن بالمساحة الفعلية التي احتلها التعذيب في المجتمعات العربية، وان كان احد مشاهد التعذيب المشوب بايحاءات جنسية قد اورده محمد الماغوط مسرحيا حين تحدث عن الزجاجات والخوازيق، وقبل ايام فقط التقيت اكاديميا عربيا سجن في احدى العواصم العربية زمنا بسبب انتماء سياسي، وسمعت منه ما لم اقرأه حتى الان بدءا من تعذيب كاليغولا وفالاريس وبروكوست حتى المركيز دوساد لضحاياهم، وقال لي انه بصدد اعداد مذكراته في هذا المجال الأسود وسوف ينشرها.
لم أقرأ من قبل عن استيراد سلالات من القمل ذي الحجم الكبير، واللادغ لا اللاسع فقط، ولم أقرأ عن تحويل عدد من اساتذة الجامعات والناشطين المسجونين الى خراف تثغو وقطط تموء وحمير تنهق وكلاب تنبح، ثم يطلب منها ان تلوط ببعضها على مرأى من الساديين المتوحشين الذين لم يعد التعذيب بالنسبة اليهم مجرد تحقيق او استجواب او بحث عن اعتراف، بل اصبح هدفا لذاته لأنه يروي لديهم ظمأ ساديا للدم والبكاء معا.
* * * * * *
في كتاب بيرنهاردت هروود ثمة تجوال على مهل بين أزمنة كان التعذيب فيها قد بلغ اقصاه، بدءا من الرومان وليس انتهاء بما فعل الرجل الأبيض بضحاياه، لكن ما استوقفني مثلا هو اختراع فالاريس لوسيلة تعذيب من طراز غريب، هي وضع ضحاياه في اناء نحاسي عملاق واشعال النار تحته كي يتحول الى جحيم، ومن ثم يبدأ الطاغية بالتلذذ بالصراخ والاستغاثات حتى ينتهي المشهد الى صمت رمادي . ومن فنون التعذيب القديمة المتجددة ما كان يسمى سكاليموس او العقاب بالقوارب، فالضحية يدهن جسدها بالعسل والحليب ثم تلقى تحت الشمس لبعض الوقت، وبعد ذلك تسجى في حفرة مليئة بالدبابير والذباب والحشرات الجائعة.
لكن ما لم يعرفه مؤلف الكتاب وهو يتجول بين العصور ان مثل هذه الاساليب جرى تطويرها، بحيث دهن جسد الضحية بالشحم الحيواني واطلقت عليها كلاب تم تجويعها ليومين او ثلاثة.
أعرف كم هو قاس ومثير للغثيان الاستطراد في طرح الامثلة، وهناك منها ما لا يصل اليه الخيال، كما يتطلب على الفور اعتذارا بشريا نتقدم به جميعا الى الحيوان لأنه لا يفعل ذلك فلا يقتل الا دفاعا عن النفس او جوعا لكنه لا ينكّل بابناء جنسه كي يستجوبهم، بحث يصبح صوت الحيوان امتيازا ونعمة اذا قورن بنقمة اللغة البشرية التي كانت في بعض الاحيان مبررا للتعذيب والاستجواب. لكن ما يقوله بيرنهاردت يذكّرنا بما ورد في كتاب هادي العلوي، فثمة عدالة لا ندري من أية كيمياء او فيزياء كونية تشكلّت، هي ان معظم مخترعي ادوات التعذيب ماتوا بواسطتها، وهي العدالة المضادة لما يسمى جزاء سنمّار في الجانب الآخر من هذه الكيمياء الوجودية.
والمفارقة الاخرى هي ان الناجين من التعذيب عندما اتيحت لهم السّلطة مارسوه ضد ضحايا جدد، وهذا هو الفارق الجذري بين الضحية النبيلة والضحية التي تتلمذت على جلادها.
لقد تكرر هذا في العديد من الثورات والحراكات الانقلابية الكبرى في التاريخ، وهناك مثالان على الأقل في هذا السياق اولهما ما تعرّض له الشيوعيون من تنكيل وتعذيب قيصري ثم مارسوه بعد اكتوبر عام 1917 ، فانتحار شعراء من طراز ماياكوفسكي ويسنين لم يكن الا فرارا من تعذيب عقلي ووجداني، وحين يطلب الرّقيب جدانوف بعد ذلك من شاعر ان يطبع نسختين فقط من كتابه، نسخة له واخرى للمرأة التي تغزّل بها، فهذا تعذيب فالاريسي بامتياز، لأنه يتسلل الى العقل والقلب ويبقى الجسد على حاله مما يذكّرنا بعبارة شهيرة لهنري ميشو عن المقصلة، فقد قال انها افضل من اي عقاب آخر يستأصل اللسان فقط.
* * * * * * *
الحكاية المثيرة التي يوردها بيرنهاردت هي عن امبراطور روماني هو كلوديوس الذي قرر منذ تسلّمه العرش ان يوقف التعذيب تماما، فأصدر عفوا عاما عن كل الضحايا ومنهم من كان يحتضر، باستثناء قاتل الامبراطور كاليغولا، لكن الدراما يجب ان تكتمل تاريخيا هذه المرة، بحيث اتضح للامبراطور المتسامح ان زوجته سادية وتعذّب الرجال والنساء، وحين عرف بالأمر قتلها وتزوج من واحدة اخرى هي اخت كاليغولا التي كانت تحلم بالعرش، وبالفعل حققت حلمها، وانتزعت العرش لإبنها نيرون حارق روما.
والحكاية ليست حبكة درامية لسينارست معاصر بل هي رواية تاريخية.
وما يقال عن ان نيرون عبّر عن ساديته بحرق روما ليس شيئا ذا بال اذا قورن بساديته الاخرى، وهي رغبته في الغناء بصوت قبيح، فقد طلب من الناس ان يصغوا اليه ويطربوا ويرقصوا على صوته… فكان ذلك انكى من حرق روما !!
* * * * * * *
قد يكون التعذيب الجسدي والعقلي اضافة الى الحروب من الشرور البشرية العابرة للعصور من حيث الهدف، فتطور الاسلحة من البرونز الى النووي مرورا بالمنجنيق لم يغيّر شيئا من شهوة القتل والسطو والتمدد وبالتالي الانتصار.
وكذلك التعذيب، فقد تطوّرت ادواته من قوارب سكاليموس الى طلاء الجسد بالعسل والخوازيق الى الكهرباء وصدماتها المتعاقبة، لكن جوهره البدائي لم يتغيّر !!!!
________
*(القدس العربي)