مريم الحيدري *
هذه الأيام تصادف ذكرى ميلاد المفكر الإيراني الدكتور علي شريعتي (1933-1977)، وأراها ذريعة جميلة لأعود إليه وأتذكره بعد مرور سنوات طويلة على قراءتي لكتاباته. حينذاك، وفي الثالثة عشرة من عمري، تعرفت إلى كتبه التي كانت شحيحة وشبه ممنوعة في إيران، وبدأت أقرأها بنهم وأبحث عن أي مكان وأي شخص يكون في حوزته كتاب له، محاولة فهم كل ما كان في طيات تلك الكتب، ورغم أني لم أفهم الكثير، في حينه، من القضايا الفلسفية والاجتماعية التي كان يطرحها في كتبه المؤلفة والخطابات التي تحوّلت إلى كتب، إلا أنني وجدت في كلامه ما يغذي روحي ويفتح عيني على آفاق مختلفة حول الدين والتراث الصوفي والأدب.
علمني أن هناك خبايا وزوايا مغطاة وراء كل من هذه الأمور يجب أن أكشفها، وأن لا أقبل كل شيء كما هو، وفي نظرة أولى، أو كما يلقى إليّ.
ورغم أن بعض المدرسات حين كن يجدنني أبحث عن كتبه في مكتبة المدرسة، يحاولن أن يثنينني عن ولهي بقراءته بحجة أنني صغيرة، وأنه يحرف وجهة نظري عن الإسلام، إلا أن شغفي به كان أكثر عنادا وإلحاحا. فبأناقته في الكتابة والكلام والشكل والفكر، أصبح علي شريعتي من أهم أبطال حياتي القلائل في سنيّ المراهقة.
منذ الكتاب الأول الذي قرأته له أي “الصحراء”، شعرت أنه الكاتب والمفكر والأديب الذي يجب أن أقرأ له. قلمه وألمه ورؤاه، كانت أليفة جدا وجذابة ومختلفة عما كنت قرأت ورأيت.
و”الصحراء” هو من بين الكتب القليلة التي ألفها إبان حياته (عام 1958)، يتحدث من خلاله عن رحلة عينية وروحية في الصحراء التي ولد فيها، عن الحب، عن تجارب نفسية سامية عاشها خلال وجوده في إيران وفرنسا، وعن تأثير الموروثين الأدبي والصوفي عليه. قرأت الكتاب أكثر من مرة، وأعدت قراءته خلال سنوات لاحقة، وفي كل مرة كنت كمن يبصر فيه شيئا جديدا.والآن، وبعد هذه السنوات، وعلى رغم أن أشياء كثيرة تغيّرت لديّ، ومنها وجهة نظري نحو الدين والمذاهب والقضايا الأخرى، إلا أنني ما زلت أدين له بتعليمي كيف أنظر.
كان شريعتي معلمي الأول في الحياة، لم يعلمني الخضوع للدروس بل علمني الحرية والرفض والرد وإزالة الحجاب عن الأمور التي يؤمن بها معظم الناس من حولي؛ علمني كيف أحاول أن أفهم، ونبّهني بأن هناك من يخشى هذا الفهم. علمني كيف أحب، وكيف لا أحب؛ أن أرفض التشيع الصفوي والتحجر والتعصب والسكون، أن تكون “عقيدتي” مصونة من “العُقد” وأن أقوى على احتمال الرأي المخالف -كما كان يردد دائما-. وعلمني ألا أجلس بل أسير، إذ كانت حياته تعبيرا عن تلك المقولة التي قالها يوما أحد أبطال الأفلام: “أفضل أن أركب دراجتي وأفكر في الله، على أن أكون في الكنيسة وأفكر في درّاجتي”!
تحية احترام وامتنان لهذا المعلم بعد طول السنين، وقبلة لروحه الطيبة التي لم تعرف الهدوء يوما ولم تطلبه.
* شاعرة ومترجمة من إيران
( العرب الدولية )