الفن ابن العاطفة وصنيع الصور

*قاسم حداد

( 1 )

كأن الأدب وليد العواطف وليس ابن العقل، إنه صنيع الصور التي تتفجر في الأعماق، حيث يكون الشخص -هناك- أكثر صدقا، بهذا المعنى أؤكد دائما على أنه كلما استطاع الكاتب أن يتفادى حضور الذهن المتحكم وقت الكتابة استطاع أن يحقق نفسه أكثر، لأن الذهن هو شكل من أشكال السلطة التي تراقب العاطفة وتراقب المشاعر وتصدّ اندفاعات المخيلة، لكن متى يأتي دور الذهن؟! يأتي عندما ننتهي من عملية الكتابة، حينما نقوم ‹بالتبييض› أو بتشذيب النص، حينما نحاول تصحيح الأخطاء الطباعية الإملائية أو النحوية. هنا يكون حضور الذهن طبيعيا ولا يكون دوره حاكما ومتحكماً، ولهذا فإن التجارب المشتركة ليست سهلة على الإطلاق ويمكن اتهامها بأنها مفتعلة إذا تم التخطيط لها بشكل منطقي. فالقارئ سيشعر على الفور بأنه يفتقد للمتعة، وأقول المتعة هنا، لأن أي نص أدبي وفني إذا لم يحقق لكاتب- شخصياً متعة قصوى أثناء الكتابة، فثق تماما انه لن يفعل ذلك مع القراء!

( 2 )

وجود العاطفة في النص لا يجبرها، ولا يقيدها أو يمنعها من أن تبحث عن أشكال تعبيرية مختلفة، بحيث تتفادى أن تكرر نفسها شكليا. وأظن أنك ستصادف في كتبي -غالبا- عشرات الأشكال التعبيرية، كل كتاب يكاد يكون مختلفا عن السابق واللاحق. ولذلك عادة لا أكون قلقا من هذه الناحية، لأنني لا أطيق تكرار الأسلوب في نصين متتاليين. يعني أنك لن ترى ‹قلب الحب› متكررا في ‹عزلة الملكات›، كما أن ‹أخبار مجنون ليلى› لا علاقة له، فنيا، بـ‹قبر قاسم›، لكن من المحتمل أن تصادف اندفاعات العاطفة، إلى أي حد استطاع هذا أن يحقق قدرا من النجاح أو الفشل.. فهذا أمر آخر.
أريد أن أؤكد -ارتباطا بما نتحدث عنه- على أن مشكلة الكتابة العربية كونها تعاني من ضمور أوغياب العاطفة، هذه العاطفة هي المسؤولة عن شعور الكثيرين الذين قالوا: إن كل كتاب من كتبي يوحي بأنه مكتوب من شخص آخر لفرط الاختلاف النوعي في الأسلوب بين كل هذه الكتب.
وهو امتحان لا يتوجب الزعم بأنني قد أحرزت نجاحا في على وجه التعيين، أنها اقتراحات واجتهادات سوف تحدث تلقائيا أثناء الكتابة، عندي وعند الكثيرين غيري، وربما كان هذا الشرط هو واحد من العناصر التي ترافق التجارب المختلفة في مراحل وسياقات فنية مختلفة.

( 3 )

كلما بدأت في الكتابة، دع المخيلة تقودك الى الصور. منجم الصور وآبارها العميقة هي مصدرك لاكتشاف الملامح الأفق الذي تذهب إليه فيما تتقدم في صنيعك الفني، فليس فنا من يفرط في مكتشفات الصور وكشفها والتحريض على ابتكارها، ليس أثناء الكتابة فحسب، ولكن خصوصا أثناء القراءة، وهنا بالذات يبدأ الاجتراح الجديد لدى مبدعي الحداثة المعاصرة، حيث يشكل فعل القراءة المنتجة سلوكا تكوينيا في إنشاء الأدب والفن الحديث. فليس أن تقترح صورا جديدة على القارئ فحسب، ولكن أن تدربه على أن يمارس الصنيع ذاته كلما تقدم في عملك، هذا العمل الذي لن يعود عملك أنت فحسب حين يبدأ الآخر في اكتشافه كقارئ فعال.
تلك هي العاطفة المندفقة، المندفعة، وهي تصوغ معك النص وقرينه، النص والقارئ، النص والغواية في آن.

______

*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *