خاص- ثقافات
تقف الشاعرة أسية بن عثمان وقفات جمالية دقيقة، تحس معها أن الأمل نابع من نبض الكلمات، كما ينبع الجمال من فيض الأحاسيس المرهفة، حيث يلمس القارئ حرارة التعبير الحر النابع من مخيلة شاعرة تستهويها الطبيعة، حتى أصبحت القصيدة لوحةً فنية يجتمع فيها الملموس والمجرد؛ ذلك أن شعر أسية بن عثمان تعبير صادق عن الأمل ومفاهيمه، ويتمثل ذلك في تخير النعوت والأوصاف المناسبة لكل مشهد من مشاهد تحرر الشاعرة التي تصورها لنا في ديوانها “كل أزهارِ المستقبل”. فالشعر في ديوانها يحمل ألوان الحلم، والتيه، والورد المتمرد على صفحات بيضاء كبياض الروح والذاكرة. شعرٌ ينبع من وجدان شاعرة اعتمدت البساطة في التصور، لِتَخيطَ للقارئ قصائدا تميل إلى فلسفةِ طبيعية للحياة والكون. ويظهر ذلك من خلال الارتباط الوثيق بالعالم الخارجي، الذي تحاول الشاعرة نقله إلينا عبر وادٍ من الكلمات المفعمة بالحياة. إن الكتابة أصبحت سؤالا وجوديا يربط هذه الأخيرة بكل العوالم، التي تحيط بها من بحر، وأنهار، وحدائق، وسماوات، تلعب دور المرايا في عكس جانبٍ من جوانب حياتها. ربما يرى البعض أن الشاعرة في حالة من التواصل مع العالم الخارجي، لكن الحقيقة، أن الشاعرة في حالة من التواصل الداخلي مع نفسها عبر استحضار العالم الخارجي. والكتابة في الأصل، حوارٌ من الذات إلى الذات، يتشكل من خلاله وجود العالم الخارجي. ’’ كل أزهارِ المستقبلِ’’ عنوانٌ يحمل ما تحمله السماءُ من جمالٍ، وأملٍ، وأشياء جميلة، تعكس حاجة العالم إلى أمل أصبح مفقوداً في عالمنا هذا. واستعمال كلمة ’’كل أزهارِ’’ ربما هي محاولة استباقية لقراءة المستقبل، وتخيله عبر الشعر. إذ إن الأزهار مرادفٌ للجمال، والحلم، والأمل، والحرية، والحب، والمستقبل، كالنافذة المغلقة تمنعنا من الرؤية، وقراءة القادم البعيد. فالمستقبل بهذا المعنى، تحول إلى ربيعٍ مُزهرٍ بألوانِ الأملِ والحب. بحبرٍ أزرقَ كزرقةِ السماءِ ترسمُ لنا الشاعرة عالمها الخاص، واصفة بذلك بعضا من أحلامها المعاشة في الحاضر والمستقبل.
كما أن الشاعرة استغلت القصيدة كطريقة للتعبير عن إحساسها كأمِ وكأخت، لنجد في مجموعة من قصائدها نوعٌ من الحوارِ مع الآخر (الأخ) أو (الابنة)، لتعكس لنا تجربة شخصية، وخاصة عمق العلاقة التي تربطها بهما. فبعض قصائد أسية بن عثمان تشبه الحكايات بمفهوم الحكي وليس الخرافة، نظرا لأن الشاعرة تروي للقارئ حجم المعاناة، التي عاشتها بعد غياب الأخ. وهكذا، فإن قصائدها ترتدي لون الصمت، والحزن، في تعبير صادق عن أزمة الإنسان عند فقدان من يحب. والحكي في قصائدها هي طريقة للعودة إلى الماضي واستحضار بعض الذكريات في طابع حزين أو مفرح، فالشاعرة تستغل تغيرات مناخ الذاكرة لتكتب بحبر متعدد الألوان لحظة من اللحظات التي عاشتها، والتي ربما ستعيشها مستقبلا:
لاَ أَنَامُ عَنْ أَي سِرٍ
فَذَاكِرَتِي
هِيَ حَقِيبَتِي الوَحِيدَة.
إن المقصودُ من هذه الأبيات، أن الشاعرة تفصحُ عن كل ما يجول بخواطرها من أحاسيس الفرح والحزن والذكريات، التي لا تفارق مخيلتها، خصوصا الذكريات العائلية. وعليه، فالذاكرة تحولت إلى حقيبة سفرٍ تسافر بها الشاعرة في كل محطاتها التخيلية المتخيلة. بمعنى آخر، فالشاعرة متشبثة بالماضي وتعيش الحاضر في أمل تجاوز المستقبل. والذاكرة هي الحقيبة الوحيدة، التي تحتوي على كل الروابط الزمانية والمكانية، التي لها علاقة بحياتها وبالآخر على وجه الخصوص. إن لغة الشعر عند أسية بن عثمان مستوحات من أحاسيسها، ومن بصمات اللحظات، التي لا تفارق وجدانها ومخيلتها وصمتها، الذي عادة ما يحل محل الحزن في بعض القصائد.
كما أن جدلية الصمت والغربة حاضرة بقوة في ديوان ’’ كل أزهار المستقبل’’، خاصة وأن مفهوم الغربة يعبر عن حالة نفسية تعيشها الشاعرة عند تذكر بعض الذكريات الحزينة، مما يؤدي إلى تحول عالمها الشعري من حالة الحركة، ووصف الأمكنة، إلى حالة الجمود والصمت. وإذا كانت تتلافى عدم التعبير عن الحزن بالكلمات، فهي تلجأ إلى التعبير عنه عبر الصمت. وغني عن البيان، أن الغربة عندها نوعان: هناك غربة الذات الناتجة عن صدمة وجودية أو وجدانية معينة، والغربة الناتجة عن فقدان شخص مقرب تدخل الذات في حالة من اللاشعور وتفقدها كل أملٍ في الحياة. والغربة عند أسية بن عثمان ليس فقط صفة من الصفات التي عملت الشاعرة على كشفها للقارئ، بل اجتاحت هذه الغربة المكان، فتحول كل شيءٍ إلى جماد حيث الصمت سيد الموقف:
غرَبَاءٌ عَلىَ طَرِيقِ مُتَعَرِجَةٍ
جَالسِينَ وَجْهًا لِوَجْهٍ
لاَشَيْءَ غَيْرَ أَحْجَارٍ صَامِتَةٍ.
ربما تحاول الشاعرة من خلال هذه الأبيات الكلام مع نصفها الآخر (الظل)، لكن الصمت يحول بينهما. أو ربما هي الطريقة الوحيدة لاستحضار غياب الآخر والتعبير عن الفراغ، الذي تركه عن طريق استعمال مصطلح من قبيل (أحجار صامتة). ولهذه الأبيات دلالات متعددة يختلف تأويلها حسب حالة الشاعرة وظرفية المكان، والزمان، الذي يأطر هذه الحالة النفسية. إن ديوان ’’ كل أزهارِ المستقبل’’ مزيج من كل الفصول وكل الأحاسيس. فالشاعرة تتنقل بالقارئ عبر كل الفصول، ليحملَ كل فصلٍ لوناً من ألوان ذاكرتها، وهنا يَمتزجُ الفرح بالحزن، والماضي بالحاضر والأزهار بالمستقبل. تسافر بنا الشاعرة تحت المطر، وفي الليل وعبر البحر باحثةً عن الفرح النادرِ كما سمتهُ في قصيدة ’’رغبة’’. كل شيء في قصائد أسية بن عثمان رغبةٌ بعد رغبة. إذ إن الرغبة سبب الكتابة وماهيتها، إن لم نقل أصل هذا الديوان. وهنا تكمن العلاقة السببية بين الكتابة والرغبة كعلاقة الليل بالنهار، فالكتابة تَعقب الرغبة كما يعقب الليل النهار، أي أن رغبة الكاتبة في البوح واستحضار الذكريات، والبحث عن الحلم كان سببا في ميلاد جل قصائد هذا الديوان الشعري. والكتابة الشعرية تحولت إلى فرصة للتعبير عما ينقصُ الذاتَ من فرح ولقاءِ بعض الغائبين. إن شعر أسية بن عثمان يتصُف بالبساطة والوضوح البالغ، لا يجنح إلى إبهام مفرطٍ، أو إيهام مضل، أو إلى سوداوية مظلمة محيرة، أو إلى ألغاز غامضة، أو إلى يأس يفقد القارئ الأمل في الحياة، بل هو شعرٌ نزيهٌ بعيدٌ كل البعد عن التعاسة، ووضوحه شاطئ الأمان يأوي إليه كل التائهين. وقد خَلطُت الشاعرة بين أسلوبين: أول تقليدي عبر اللجوء إلى شكل القصيدة القديمة التقليدية، وثاني أسلوب حديث يتمثل في الشعر الحر، مما يجعل من هذا الديوان متعدد القراءات والتأويلات. فشكل القصيدة يرتبط ارتباطا وثيقا بحالة الشاعرة. إن قصائدها الطويلة والقصيرة، ليست جملا تم تركيبها وفق هدف لغوي محدد، بل آليات تعبيرية تعكس إحساس الشاعرة والتحولات الوجدانية التي تعيشها. ويتغير شكل القصيدة بتغير الموضوع والأزمنة والأمكنة. فالقصيدة تكون عادة طويلة عندما تصف الشاعرة حالتها، كما هو الحال في قصائد (شمال الشتاء) و(الأوراق) و(في ذاكرتي)، وغيرها من القصائد، التي تصف فيها الشاعرة جانب من حالتها العاطفية، أو الوجودية، أو عندما تتغنى بالمشاهد الطبيعية. وتلجأ إلى القصائد القصيرة لتمرير بعض الرسائل، كما هو الحال في قصائد (ربيع امرأة) و(كتابات) و(المستقبل بين الفصول) وغيرها من النصوص، التي جعلت منها الشاعرة فرصة لتمرير بعضٍ من فلسفتها حول الحياة والمستقبل.
وقد نجحت الشاعرة في إعادة رسم العالم، الذي يحيط بها من خلال قصائد لا تخلو من حالات متغيرة بين فرح نادرٍ، وألم يعود عند عودة الذاكرة إلى رصيف ميناءها. فديوان ’’ كل أزهار المستقبل’’ يحملنا إلى عالم تلعب فيه الاستعارة دورا رئيسيا في عكس الحالات النفسية للشاعرة، وتشخيصها خارج متاهات الذات. وغالبا ما تحمل الطبيعة بعضا من التحولات الوجدانية التي تعيشها الشاعرة، أو تكون مرآة لذاكرة متأرجحة بين أزمنة ثلاث : الماضي والحاضر والمستقبل. إن أسية بن عثمان تميل إلى الإنسانية في الكتابة، فهي دائما مرتبطة بالآخر، بل تستحضره في كل لحظة مؤكدة على أن الذات لا تكتمل إلا بوجود الآخر. هنا نستحضر المقولة الشهيرة للناقد الفرنسي دومينيك فياغ، الذي أكد على أن الكتابة تنطلق من ذات باحثة عن نفسها، والحوار الناتج بين الذات وانعكاسها يعكس بطريقة أو بأخرى وجود العالم. رغم لحظات الحزن والألم، إلا أن هذا الديوان حامل لأمل فريد من نوعه، وهو أمل الكتابة.
حاصل القول، إن كل قصيدة من هذا الديوان الشعري تتطرق لموضوع من الحياة اليومية المعاشة في صور استعارية تلعب دور السؤال؛ ذلك أن الشاعرة في حالة من التساؤل والبحث المستمر عن أجوبة. إنها قصائد واقعية تستمد قوتها من لحظات معاشة تركت أثرا كبير في حياة الشاعرة. لذا فهذا الديوان تعبير شعري لأحاسيس صادقة، تحاول الشاعرة زرعها كأنها تزرع حديقة من الأزهار. فهناك أزهار الفرح وأزهار الشر، فالألم يختلط عادة بالفرح مشكلا بذلك نوعا من التناقض في الحس والكتابة. والشعر المتناقض، شعر جميل يعبر عن التناقض الوجودي الذي يعيشه الإنسان. بهذا المعنى، تقدم الشاعرة للقارئ طبقا من الكلمات العميقة، الحاملة لمجموعة من الرموز، والمعاني المرتبطة أساسا بالواقع المعاش. وهذا الديوان صورة واقعية عن تجربة شعرية جعلت من الأمل سبب الكتابة وأساسها. والقارئ اليوم في حاجة ماسة لهذا الأمل أكثر من أي شيء آخر، خصوصا في ظل أزمة الوجود، والعلاقة، التي، تربط الفرد بالآخر.
ناقد وكاتب وشاعر مغربي