جَمَالُ حِمْدَان .. الجُغْرَافيَا حِيْنَمَا تَسْتَحِيْلُ حَالَةَ تَصَوُّفٍ

خاص- ثقافات

*الدُّكْتُورُ بَلِيْغ حَمْدِي إِسْمَاعِيل

القِرَاءَةُ أوَّلا :
نعيش الآن في عصر تتسارع فيه المعلومات، بل وتتصارع في ظل ما وصلنا إليه من تقدم تكنولوجي وثورة معرفية، آخذة في الازدياد بحكم المستجدات التي طرأت على ما عندنا من علم ومعرفة والتغيرات المستمرة في حياتنا ، وما يتبعها من تجديد وتطوير في أسلوب حياتنا ، وغاياتنا منها في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية وغيرها من ميادين الحياة الأخرى . ونحن لم نصل ـ في عصرنا الحاضر ـ إلى ما وصلنا إليه من تقدم علمي وتكنولوجي إلا بواسطة القيام بعمليات التطوير والتجديد والإبداع والابتكار، وسيكون المجال أكثر انفتاحا على مصراعيه للتجديد والإبداع طالما أطلقنا لعقولنا مجال التفكير .
وقد جاء الاهتمام بتنمية التفكير بصفة عامة سواء من جانب واضعي المناهج ،أو من خلال توصيات المؤتمرات التي اهتمت بتنمية التفكير في المناهج الدراسية؛ وذلك عن طريق القراءة ، حيث مساعدة الأفراد الذين لا يمتلكون أية مهارات أو بعض مهارات التفكير المرغوب على اكتساب هذه المهارات،ومساعدة الذين يمتلكون عدداً من مهارات التفكير ولكن بقدر بسيط على إثراء تعلمهم وتعميق هذه المهارات كماً وكيفاً ، كاستجابة طبيعية لما يفرضه الواقع الذي يعيشه الإنسان متمثلاً في تحديات جديدة تواجهه،وتفرض عليه التعامل معها؛لكي يبقى ويستمر في أفضل الأوضاع الممكنة،كما أن تقويم الإمكانات المتاحة والأفكار الجديدة من حيث مناسبتها لقيم المجتمع وتقاليده يتطلب من الإنسان المعاصر استخدام التفكير الذي يساعده في تكوين نظرة فاحصة متعمقة للأشياء .
وفي ظل التسارع المعرفي والثقافي غفل كثيرون عن اسكناه تراثنا الفكري المعاصر ، ذلك الرصيد الثقافي الهائل والخصب شكلا ومضمونا ، وغاب عن كثيرين أيضا تناول بعض الشخصيات الضاربة في عمق الثقافة العربية الذين أصلوا ذهنية عربية لجيل بأكمله أدعي أنني أنتمي له وأفتخر .
من هؤلاء الجغرافي المصري الماتع الدكتور جمال حمدان الذي تعرفه الذهنية العربية والمصرية من خلال كتابه الفريد شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان ، لكن غاب عنا وأغفلنا ذكراه قصدا وطوعا بفضل عوامل ومتغيرات حضارية إما وافدة على مجتمعاتنا المسكينة ثقافيا أو بفعل هذا الانحسار الثقافي العمدي من أنفسنا لاسيما وأن نسبة كبيرة من سكان البقاع العربية أصبحت مشغولة تمام الانشغال بهوس ثقافة البرمجة اللغوية العصبية ودورات تنمية الموارد البشرية ومثل هذه الأمور السطحية الهامشية التي تزيد من تهميش وسطحية المواطن العربي. فلم يعد بحاجة إلى رصيد معرفي يمكنه من مواجهة الخطر الصهيوني الذي طالما واجهه منفردا هذا المفكر الرصين بقلم مبدع ربما يفوق ويتميز عن أقلام لغوية متخصصة .
ولعلني أجدني مقهورا من وطأة الحزن على حال القراءة في بلادنا العربية التي كرست جهدها المحموم صوب قراءات تبدو تافهة ـ من وجهة نظري فحسب ـ حول دراسة الشخصية وتنميتها وكيفية أن تكون مديرا ناجحا ومتحدثا ناجحا وفريد نوعه وعصره وغير ذلك من سطحيات القضايا المجتمعية التي تدور في فلك كيف تجذب الآخرين في نصف ساعة بأسلوبك ، وتناسينا أن نتناول مصلا واقيا وعقارا قويا ضد الانفراد الصهيوني بالثقافة العربية ، هذا المصل يكمن في ثمة رموز عربية مكنت أجيالا قوية في صد كل محاولات الصهاينة وردعها باستخدام الثقافة ، العنصر المميز للحضارة العربية .
الفارِسُ .. جَمَال حِمْدَان :
وربما لا تغيب عن ذهنيتنا العربية الأصيلة صورة العبقري الجغرافي الدكتور جمال حمدان الفارس الذي تصدى للكيان الصهيوني بكتاباته الفريدة التي قال فيها عن كيان يبدو خبيثا أن السرطان الإسرائيلي سرطان مدني وطائفة خلاسية من طفيليات المدن بلا جذور بيئية . وهو نفسه الذي يرصد ويصف ويجيد في توصيفه للكيان الصهيوني بأن إسرائيل من وجهة وعلى أساس جغرافية المدن ليست في الحقيقة إلا مدينة شيطانية ضخمة تجمعت فيها ” حثالة مدن ” العالم ، وأن المدينة الإسرائيلية ليست إلا استقطابا ” لحارة اليهود ” في العالم ابتداء من الملة المغربية إلى القاع اليمني ، ومن حارة اليهود الألمانية إلى الجيتو الأوروبي.
إنه جمال حمدان الجغرافي الذي فاق خبراء اللغة وأساطينها بأسلوبه وتراكيبه الفريدة ، من مثل عباراته الاستثنائية المحفوظة والمسجلة تاريخيا باسمه كـ ” مشاتل للتخمر السياسي ومواطن للوعي القومي ” ، وعبارته ” بوتقة للانصهار الحضاري وجبهات للتصادم الجنسي ”  باختصار هو أكاديمي يماثل المتصوفة في عزلتهم ، حيث لا يشوبه التقصير في مشروعه الوطني المخلص ، وباختزال لا يتعريه طول التفسير في توصيف قضايا الجغرافية والسياسية ، هو بحق  فارس المكان ، وهو وفقا لتقدير معاصريه وربما أيضا منتقديه وأعدائه وخصومه المهمشين الذين نسيهم كتاب التاريخ في الذكرى ـ البوصلة القادرة على التحشيد بغير انتفاضات شعبية نحو عشق الوطن وافتراس تفاصيله الجميلة بجنون ، جمال حمدان حينما نتكلم عنه فإننا لا شعورياً نتجه باتجاه الوطن ونلامس أراضيه، وتأبى اللغة أن تتحدث عنه بلغة نثرية علمية جافة بل تجبرنا كتاباته ومسيرة حياته أن نتخلى ولو نسبياً عن جفاف اللغة العلمية ونلجأ إلى اللغة الشاعرية التي بحق تناسب مقامه ومكانته وتوازي عشقنا وعشقه للوطن.
إن ما يميز الجغرافي العربي الدكتور جمال حمدان ليس كتاباته الجغرافية الأكاديمية التي لا تهم سوى جملة قليلة من المتخصصين ، لكن تلك الوصايا الاستثنائية المهمة التي تفيد أصالة التكوين العربي وهويته الأصيلة القوية وكيفية الحفاظ على مقوماتها ، وتلك الأسلحة الثقافية والحضارية المهمة الكفيلة بالتصدي للكيان الصهيوني وتبدو مشكلة من تصدى لكتابات جمال حمدان أنه قصر النظر والتأويل على الاهتمام بالموقع الجغرافي وحدود البلدان وطبيعة الأنهار والنمو المدني والريفي للسكان بغير إطلالة مباشرة على الدور الريادي لجمال حمدان في تأصيل الكراهية الصهيونية للعرب والعروبة بوجه عام ، وبتقدير هذا الكيان الصهيوني الذي يعطيه بعض العرب مكانة لا يستحقها لا سياسيا أو حضاريا.

رَسَائِلُ الجُغْرَافِيِّ :
والمدهش أن قراءتنا بغير تأويل أو عقد نقدية تجرنا لمساحات بعيدة عن الوطن ، لكتابات المفكر الجغرافي الدكتور جمال حمدان هي قوة إجبارية تفرض علينا التفكير في واقعنا المصري المتسارع سياسياً والبطئ نحو النهضة والارتقاء ، فجمال حمدان من خلال ما سطره من كتابات مثل الموسوعة العبقرية شخصية مصر ، والقاهرة ، والعالم الإسلامي المعاصر ، واستراتيجية الاستعمار والتحرير، والمدينة العربية ، وكتابه المتميز عن اليهود كلها تؤكد أولاً نظرته العميقة للمستقبل وكأن ما سطره كان أشبه بصيحات التحذير لما نحن فيه الآن من أزمات ومثالب سياسية واجتماعية.
فمكانة مصر التاريخية والاستراتيجية الراهنة تجدها في هذه الكتابات المتميزة ، التحذير من فوضى التعصب والتطرف تلمسها في سطور متناثرة خطها بقلمه حينما تحدث عن وسطية هذا الوطن العظيم ، فهو يقرر أن مصر لموقعها الجغرافي المتوسط بين قارات العالم اتخذت لها موضعاً أكثر وسطية ، ونجحت بالفعل لسنوات بعيدة أن تحافظ على هذه الخصوصية التي تحتوي متناقضات ومتضادات عجيبة في صورة أعجب وأبلغ ، وإذا استقرأنا مهاد مصر لاكتشفنا أنها لم تعرف أبداً طوال تاريخها الضارب في القدم أنصاف الحلول أو المغالاة في التمايز لطرف في أقصى اليمين أو أقصى اليسار ، بل كانت وسطاً دائماً في النظرة والتفكير والاختيار ، وربما هذه الوسطية هي التي أفرزت لنا قاماتنا الفكرية بتعددها الأيديولوجي كالشيخ محمد عبده وطه حسين والعقاد وسلامة موسى وزكي نجيب محمود وغيرهم مما تحفظهم الذاكرة .
كما يشير عبقري المكان الدكتور جمال حمدان إلى أن هذه الوسطية التي تميزت بها مصر حفظت لها وحدتها السياسية ، مع وجود مساحات متفاوتة زمنيا من الجدال السياسي لا كالذي نشاهده ليل نهار إما في برلمان المرجعية الدينية المنحل، أو في برامج الفضائيات المكرورة التي توصف دوماً بأنها فراغية الجوهر ،كالفراغ الذي الذي لا حيز له ونحترف في إهداره بمهارة فائقة تشبه إضراباتنا واعتصاماتنا ومليونياتنا الثورية التي تصيب جسد هذا الوطن بسهام نافذة مميتة .

مِنْ وَصَايَا الفَارِسِ :
استطاع الجغرافي الفريد الدكتور جمال حمدان أن يقدم جملة متميزة من الوصايا للحكومات العربية لاسيما تلك الوصايا التي تتعلق بمشكلاتها الداخلية مثل البطالة على سبيل المثال ، وجدير بالذكر ما أشار إليه جمال حمدان في كتابه المدينة العربية بشأن البترول العربي حينما رصد حالة البترول التي توجهها السياسة الاحتكارية الأجنبية ويسلبها إمكانياتها الصناعية .ويشير جمال حمدال إلى حقيقة واقعية لاتزال ممتدة وهي أن المدن البترولية هي مدن تعدين وليست مدن صناعة ويضيف أن أن مصير هذه المدن رهن بمستقبل خزان الزيت الذي تقوم فوقه ، ولهذا لا يمكن أن ينتظر لها عمر طويل أو مستقر .

مِصْرُ التِّي فِي خَاطِره :
يؤكد جمال حمدان في مجمل أعماله ويقرر أن مصر محكوم عليها بالعروبة والزعامة ، وأن من قدرها أن تكون رأس العالم العربي ، وقلبه ، وضابط إيقاعه ، وفي هذا الصدد يقر حقيقة بالغة الأهمية في ظل ظروفنا السياسية الراهنة وهي أن مصر أكثر من عضو ضخم في الجسد العربي ، بل هي رأسه المؤثر ، وجهازه العصبي المركزي الفعال والنشط والمحرك. ولم ينس العبقري جمال حمدان مرحلة أكتوبر بانتصاراتها المجيدة فنجده يعتبر مصر أكتوبر دليلاً قاطعاً على الشعب المحارب ، وتكذيباً دامغاً لنظرية الشعب غير المحارب.
ورغم هذا العشق المستدام الذي يربط الدكتور جمال حمدان بمصر وطناً ومكاناً متميزاً ، نجده شديد التأثر مرارة وحزناً بواقع مصر أيامه والتي تتشابه كثيراً مع واقعنا الراهن المحموم والمستعر غضباً واحتجاجاً ، فهو يرى ـ في وقته ـ أن مصر بحاجة ماسة إلى إعادة التفكير وإطالة النظر بعمق وتدبر في كيانها وهويتها ومصيرها ، وهذا يدفعنا للتأكيد على أن مصر بعمقها وحضارتها وتاريخها وطن يصعب مراسه وتطويعه ولي ذراعه بتيارات وأفكار تسعى إلى إجهاض تنويره واستنارته ، فإن هذا يتطلب مزيداً من العمل الدءوب بشأن تثوير الطاقات المنتجة ، والعقول الأكثر إنتاجاً ، وهذا لا ولن يتحقق إلا من خلال منطلقات ومرتكزات ثابتة نسبياً تشترك في إطلاقها مجموعة من المؤسسات الرسمية والمدنية وبعض الفئات المنوطة بتطوير هذا الوطن ومنتسبيه.
وها هو عبقري المكان جمال حمدان أو كما يصفه الدكتور محمد عبد الرحمن الشرنوبي بعاشق تراب مصر يكتب عن الخصية المصرية وكأنه يقرأ المستقبل ويستشرفه ، وهي قراءة ملؤها الشجاعة في وقت نرى الشجاعة فيها مجرد أصوات عالية وصراخ غير منقطع وممارسات سياسية تستهدف تقويض الوطن ذاته ، لكنه في قراءته للوطن مكاناً لم يغفل عن قراءة مرتكزات ومقدرات الوطن البشرية من سكان ، ذلك حينما أشار إلى أن الشخصية المصرية تستغل فقط تاريخها حينما تواجه عدواً خارجياً لكنه من الأحرى استغلال والإفادة من هذا الإرث التاريخي في النهوض بالبلاد وفي استثارة عزائمنا الفاترة وفي إدراك مكانتنا والوعي بها باستمرارية بغير انقطاع أو تغييب عمدي ومقصود.
وهو يعمد دائماً إلى استنهاض الطاقات ويحذر من خطر الهروب من الحاضر إلى الماضي ، ويشبه هذا الهروب بالمخدرات التاريخية التي تجعلنا أكثر عرضة للافتراس الذاتي لأننا نكون قد تخلينا عن مواجهة الحاضر بإحداثياته ومتغيراته المتسارعة.وليتنا نخجل من أنفسنا ونحن نعيد قراءة الطروحات الفكرية الجغرافية للعبقري جمال حمدان لاسيما وهو يصر على جعل مصر سيدة الحلول الوسطى وملكة الحد الأوسط ، وهي أمة وسط بكل معنى الكلمة ، بكل معنى الوسط الذهبي ، وليست أمة نصفاً ، ومصر جغرافياً وتاريخياً تطبيق عملي لمعادلة هيجل تجمع بين التقرير والنقيض في تركيب متزن أصيل .
_____________
ـ مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية
ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا
Bacel21@hotmail.com

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *