شهادة أموميَّة؛ حبر وحليب

*لانا المجالي

حبر

احتفاء الكاتبة بالأمومة من موقع الابنة فقط يُحيِّد أنوثتها، ويمنح الرَّجل الكاتب ذريعة ابتكارها، والمجتمع حقّ تعليق صورة واحدة للأمومة على حائط ثقافته.

المرأة التزمت الصَّمت بإرادتها الحرَّة؛ لأنّ صورة الأمومة المكرَّسة تخلع عليها هالة من القداسة، أو لأنّها ظنَّت بأنّ مهمّتها- بعد أن أُذِنَ لها بالكتابة- تنحصر في إكمال ما راكمه الرَّجل من مسلّمات حول كينونتها، لا خلخلة المتهالِك منها وإعادة بنائه من جديد، أو لأنّها وفيَّة لإرثها الشهرزاديّ في المساومة: ” أهِبكَ حكايةً  كل ليلة مقابل حقِّي في الحياة”/” أتعهَّد بعدم محاكمة التَّاريخ الذي اخترعته مقابل اعترافك بي كاتبة”، أو ببساطةٍ شديدة، لأنّها جبنت عن مواجهة المجتمع بحقيقة وجود صور أخرى؛ أمومتها الشَّخصيَّة على أقل تقدير.

لا أقصد التعميم، لكن عدد الكاتبات اللواتي تساءلن حول الأمومة، وكشفن النِّقاب عن تجارب مغايرة، يكاد لا يُذكَر مقارنة بالأغلبيّةِ المتواطِئة.

 حليب
في أول موضوع تعبير مدرسيّ كلّفتُ بكتابته، وهو عن الأمّ، كما جرت العادة، لم يشفع لي إلصاق صفات “رؤوم” و”حنون” و”نبع الحنان” بكل “أمّ” استخدمتها، ولا إبداء النَّدم  ثمَّ الاعتذار لأمّي عن الآلام التي اختبرتها وهي تلدني، إذ استاءت المعلّمة لأنّني خرجت على تقليد طلب الرَّحمة للأموات فقط.

استعدتُ تفاصيل تجربتي تلك، وأنا أستمع إلى خطابات الطلّاب في مدرسة ابني بمناسبة عيد الأمّ، وانتظرتُ، دون جدوى، أن يكسر أحدهم الإطار اللغويّ لصورة ملكة النّحل والشَّمعة التي تحترق، أو يخترق خطوط الكتابة الحمراء، مستنكرًا عيوب أمّه البشريّة التي تعكِّر صفو طفولته.

حبر

تحت عنوان “روايات وأطفال” ينتقد رولان بارت واحدة من أخطر مظاهر أسطرة حياتنا اليوميّة، فيقول متهكِّمًا:  إذا ما صدقنا ما جاء في مجلة “هي” الفرنسيَّة، فإنَّ الكاتبة تشكِّلُ نوعًا حيوانيًّا فريدًا؛ لأنها تلد الروايات والأطفال دون نظام،لافتًا إلى أن المجلَّة تورد عدد أطفال كل كاتبة ضمن إنجازاتها الإبداعيَّة، على سبيل المثال؛ جاكلين لونوار/عندها ابنة ورواية، مارينا غراي/عندها ابن ورواية، نيكول ديتروي/عندها ولدان وأربع روايات.

وعلى الرغم من نبل طرح بارت وعمقه، إلا أنّ العديد من الكاتبات لا يجدن غضاضة في إنجاب الكتب وتأليف الأطفال، وها هي إيزابيل ألليندي تؤكِّد أنّ “العملية البهيجة للحبل بطفل، والصَّبر بحمله، والقوّة في إخراجه إلى الحياة، والشُّعور العميق بالدَّهشة الذي تنتهي به تلك العمليَّة، لا يمكن مقارنتها إلا بإبداع كتاب. إنَّ الأولاد مثل الكتب،… الخ”.

يقودنا وصف ألليندي إلى اقتراح النَّاقدة سيسكو بابتداع طريقة أنثويّة في الكتابة، حيث “الجسد الأنثويّ شكل ملهم لشكل الكتابة”، وهو ما لا يمكن تجاهله في إبداع المرأة؛ فالشَّاعرة، عادةً، هي الأرض بانتظار المطر، كي تفيض بالخصب والنّماء، وهناك أيضًا الحياة البحريَّة داخل أعماق ماء الرَّحم، وعمليَّة خلق حيوات تعيش في أجساد أخرى.

 ويكفي أن نتوقَّف عند تجليَّات شاعرة عظيمة اعتدنا على اختصار إبداعها بزواجها من الماغوط، أقصدُ سنية صالح، لنقرأ :”في الجسد تَضعُ الرُّوحُ بيوضها/ فيخرجُ أطفالٌ شقرٌ، زُرقُ العُيون/ يلعبون مع البحر”، وتخاطب ابنتيها شام وسلافة في قصيدةٍ تحمل عنوان (تخرجين من أسوار الجسد): “يا ابنتي/ كنتُ وحيدةً فتجزّأت/ وبقيتُ أتجزَّأ حتى خلقتُ شعبًا أنتِ أسطورته/ يا سليلة الرِّيفيَّات/ يكتُمنَ صراخ الولادة/ ثمَّ يقذفن بالأجنِّة إلى أحواضِ النُّحاس “.

 وتقول أيضًا: ” تخرجين من أسوار الجسد/ ومعكِ أجيالٌ يضيئها عبورك الصَّاعِق/ إنَّها الولادة فلا تخافي/ نبدأُ عراكنا العظيم/ تلتقطين ظلِّي وتُنهضينه/ فيهوي، ثمَّ تُنهضينه/ فيهوي من جديد/ أنتِ أيضًا صار لك ظلّ/ وصارَ يهوي”.

حليب

وبعكس كثيرات، لم أقع فريسة لمأزق الاختيار بين الكتابة والأمومة؛ طرقَ الحظُّ باب بيتي الأموميّ، وقادَني من حليبي إلى نهر الحبر.
جَيَشَان الحليب المُحتشِد في داخلي بعد فطام ابني، كاد يهدَّدني بالغرق، فابتكرتُ حيلة تغيير لونه، وصبّه فوق الورق.
أنا، ببساطةٍ، أكتبُ بعاطفتي، بأمومتي، بحليبي؛ كي لا يُقَال: “ماتَت غَريقة”.

حبر

في حديث الأمومة والكتابة، لا يمكن تجاهل تجربة إليف شفاق الرياديّة في “حليب أسود”، ومع أن العنوان يوحي بتناول مرض اكتئاب ما بعد الولادة فقط، إلا أنّ الكتاب أكثر شموليَّة.

شفاق تسرد تفاصيل من سيرتها الذاتيّة، أو على وجه التَّحديد، سيرتها الأنثويّة؛ حيرتها أمام تكريس نفسها للكتابة، وتلبية نداء الحياة. تعدّدها وانشطارها إلى نساء صغيرات بأهواء متباينة، وبحثها المحموم عن حقيقة تعتنقها عبر تفتيش جيوب حيوات الكاتبات الشَّخصيَّة، وتوثيق سعاداتهن وخيباتهن الأموميّة، ما يجعل الكتاب مرجعًا لا غنى عنه.

ممّا لا شك فيه، إنّ تجربة إليف شفاق، فتحت شهيّة الكاتبات العربيَّات، ومنحتهن جرأة تحسّس صورة الأمومة المثاليَّة وطرح الأسئلة حولها، إذ صدرت مؤخّرًا، عدَّة عناوين ضمن هذا الاتِّجاه؛ منها:  كتاب “كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها” للشَّاعرة والكاتبة المصريَّة إيمان مرسال، و”ديوان الأمومة” وهو عمل مشترك، ضمّ نصوص مجموعة شاعرات من مصر، وفلسطين، وسوريا، وليبيا، والعراق.

الحقيقة، لا أستطيع  عرض فحوى هذين الكتابين، لأنَّني لم أحصل عليهما بعد، إلا أنّ تجربة أخرى جديرة بالإشارة إليها، خاضتها شاعرتان مصريّتان؛ سارة عابدين ومروة أبو ضيف في كتاب مشتركٍ يحملُ عنوان “بيننا حديقة”، بدأت فكرته برسائل شعريّة متبادلة بينهما عبر “الفيسبوك”.

“بيننا حديقة” تجربة ثوريَّة بامتياز، خرجت فيه الشاعرتان على أعراف وتقاليد الصّورة النَّمطيَّة للأمّهات، فها هي سارة تخشى انكشاف أسرارها: “وُقوفي لساعاتٍ تحت المطر/ دُخَانُ سجائري الذي يتسرَّب مِن النوافذ/ مثاليَّة الأمهات التي أحاول تقمُّصَهَا”، وتشعر بالقلق لأنّ “أولادُنَا سيطهونَنَا/ سيطهونَنَا كما طَهَوْنَا أُمَّهاتِنَا/ حتَّى تمام النُّضج قبل أن يبدأوا في التهامِنَا/ بعد سنواتٍ مِن الطهي/ سأصبحُ سائلةً تمامًا”،  أمّا مروة فلا تتعرَّف على نفسها “يقولون: امرأةٌ في منتصف العمر/ أمٌّ لطفلينِ”،وتحلم بقطار يأخذ الأمّهات إلى بحيرةٍ بيضاء يغتسلن فيها مِن العاطفة ولعنة الحنين: ” تلوِّحينَ لابنتِكِ ورَجُلِهَا المجهولِ/ أتجاهلُ أبنائي وحبيباتهم التَّافهات/ سنكونُ جميلاتٍ مَرَّةً أُخرى/ نكتبُ شِعرًا جديدًا/ بريئًا مِن الذِّكريات والأمومة المُثقَلَةِ بالخوف والتَّساؤل”.

حليب

دخل غرفتي مستفسرًا عن سبب التزامي الفراش، وعندما أخبرته إنّني لا أجد موضوعًا لمقالتي هذه، جلس على طرف السرير، وفكَّر بعض الوقت، ثمَّ اقترح: اكتبي عن الصُّوَر، وعندما لاحظ خيبة الأمل على وجهي، استدرك: أقصد، الصُّوَر الشِّعريَّة.
ولأنَّني أعرف إنَّه لا يقصد الصُّوَر الشعريَّة، شكرتهُ باسِمة، وفي بالي صورة واحدة لأمّ وطفلها يجمعهما حبر وحليب، وأشياء أخرى، لا يعرفها سوانا.
____
*شاعرة وكاتبة أردنيَّة Lanarateb.lana@gmail.com

*نشرت في مجلة الإمارات الثقافيّة/ العدد 55.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *