الأنثوية الانشطارية .. قراءة في ثلاث قصائد للشاعرة لانا المجالي


د.إبراهيم أحمد ملحم *

( ثقافات )

 

إنَّ أقسى ما تعانيه الأنثى من ألم هو الإحساس بانشطار الذات على نفسها، أو تشظيها في أجزاء صغيرة جدًّا كحبَّات الرمل، وفي الوقت نفسه، اللجوء إلى التمني بوصفه حيلة العاجز عن التغيير في مجرى الحياة من حوله. هذا الانشطار، وهذا التشظي، نجده عند الشاعرة لانا المجالي(1) ماثلاً بقوة، وسيتناول هذا الفصل، من شعرها، بعض المقاطع من ثلاث قصائد، هي: أوراق خريفية ليست صفراء(2)، وهواجس رملة(3)، ونصوص(4).

تستوقفنا عتبات النص في قصيدة “أوراق خريفية ليست صفراء”؛ فالعنوان يشير إلى تحول الزمن بحيث تُسمى الأوراق بها، ولكن هذا التحوُّل بقي هامشيًّـا؛ لأنه لم يؤثر في طبيعتها، فلم تتحول إلى اللون الأصفر الدال على دنو موتها. فالأنثى في خريف العمر تبقى في داخلها نضرة، ولا يطالها ما يجري في الحياة اليومية من تغيرات. وتؤكد الشاعرة هذا المعنى في عتبة أخرى، وهي التعبيرات النثرية التي تسبق القصيدة في قولها: “لا أضيقُ حريرًا بشرنقتي، ولا يضيق حريرُك”، وتُضيف: “على سبيل الشوق: مَنْ منا يُشرنِق قبل الآخر عُزلته؛ فالحرير جائر”. إن الشرنقة الأنثوية تُعطي حريرًا للذكر؛ كي ينعم فيه، بينما الشرنقة الذكورية تعطي عزلةً قاهرة تفصل بينهما.

في الورقة الأولى من القصيدة، نجد كبرياء الأنثى، وفي الوقت نفسه، نجد انشطارها على ذاتها:

أخلعُ جسدي

قطعةً

قطعةً

ولا أنحني لالتقاطه

فالفراغ لا ينحني

.. الفراغ ثقيل!!

إنها تتشظى من تلقاء نفسها، بمعنى أنها التي تفعل ذلك؛ فتفصل أجزاء جسدها عن بعضها بعضًا، ولا تحاول إعادة الجسد إلى طبيعته التي كانت عليه؛ لأن هذه المحاولة ستجعلها تنحنى لالتقاطه، وهو ما يخالف كبريائها. تُسمِّي الشاعرة نفسها بـ”الفراغ” الذي ليس من طبيعته الانحناء، وتسمِّي الأجزاء التي فصلتها التسمية نفسها، ولكن تضيف إليها صفة الثقل بحيث لا تستطيع أن تفعل شيئًـا، ولا يستطيع كل جزء مفصول أن يرتد إليها أبدًا، وكأنها أرادت أن تكون كذلك.

وتحدد الورقة الثانية ما دفعها للانشطار على نفسها داخل حياة، يُفترض أن يجد فيها المرء شيئًـا من حلاوة العيش في ظل علاقات إنسانية دافئة، تُفقد الزمن قدرته على التغيير في الجزء المخبوء من الإنسان:

محشوران داخل نُواحِ تُفاحةٍ

تنكَّرَ المذاقُ لها

ـ لا تُصلِّي لسُكَّرٍ سيأتي

فلا سُكَّرَ هناك يأتي ـ

والفئرانُ تقرِضُ فراشاتٍ خبَّـأها

الربيعُ في خصري

ونرجسًا في شَعر صدرك.

تدعُوني إلى العشاء

في الساعة الثالثة عطشًا

بعد منتصف الصيف

وتكون الأوراقُ الصفراء ضيوفًـا

تضيق أنفاس الحياة عليهما داخل تفاحة (الدنيا) قشورها نواحٌ، أو بكلمة أخرى: البكاء على المفقود، وهو السعادة التي رمزت إليها بالسكَّر. فالمذاق الحلو تنكَّر لهذه التفاحة، وهنا، يأتي صوت الشاعرة في جملة معترضة، تخاطب فيها الذكر، ناهيًا له عن الدعاء بأن يأتي هذا المذق؛ لأنها على يقين بأن السكَّر ليس له وجود في داخل هذه التفاحة. وبذا يكون العنصر الجاذب للبقاء في الدنيا، قد غاب عنها. أما “الفئران” فترمز فيها إلى الزمن الذي يقرض الأمنيات الجميلة بأن تتغير الحياة نحو الأحسن، وتقرض ربيع العمر أو الشباب منها. وعلى الطرف المقابل، تقرض النرجس أو الشعر الأسود الدال على الشباب، ليحل مكانه الشيب. إن الزمن يغير في جسدها وفي جسده، ويقرِّبهما من الموت.

وحين تكون هناك بارقة أمل، بأن الحال سيتغيَّر إثر دعوتها إلى تناول طعام العشاء، لا تلبث هذه البارقة قليلاً؛ إذ تغيب بسبب تصرفاته العدوانية تجاهها:

تدعوني إلى العشاء

في الساعة الثالثة عطشًا

بعد منتصف الصيف

وتكون الريح، يكون الغبارُ

تكون الأوراق الصفراء ضيوفًا

أقولُ:

أيُّنا أخلفَ مواعيدنا مع اللوز أكثر؟

تقولُ:

أيُّنا استهلكَ مؤونتنا من السكَّر أكثر؟

وعندما لم أُجِب،

ولم تُجِبْ

أو ـ فلنقل ـ أجبنا!!

ارتديتُ لك طيورَ الخريف المهاجرة

ارتديتَ ليَ السماء

وهبنا أقدامنا ثلثَ الكلام

ورقصنا حتى.. آخرِ

التفاح

.. لنلحقَ السكَّر

لعل أول ما يتسوقفنا، في المقطع السابق، ظاهرة التلاعب بالزمن؛ فالعشاء يكون الساعة الثالثة، وبدل كلمة “عصرًا” تضع كلمة “عطشًا”، وبدل زمن القصيدة “الخريف” تضع “منتصف الصيف”، وذلك لتأكيد أن هدف هذه الدعوة، وإجراءها، ونتائجها كانت عبثـًـا؛ فالمكان تعصف فيه الرياح المحمَّلة بالغبار. وقد دُعيت إلى العشاء معها “الأوراق الصفراء” أو النساء الأخريات اللواتي أفرغت قلوبهن من النضارة، وهي الوجه المقابل للأوراق التي لم تصفرَّ (الشاعرة). وعندما يكون السؤال مشروعًا للبحث عن السبب الذي أدى لغياب النضارة عن حياتهما، والتي رمزت إليها بالمواعيد مع اللوز، يأتي جوابه في صيغة سؤال، أيضًا، ولكنه متعلقٌ بالاستهلاك المادي للسكَّر. السؤالان، في الحقيقة، تغيَّبت عنهما الإجابة، بل كان الصمت الدال على الاختلاف في الرؤية قائمًا. وهذا ما جعلها تتشكل بمظهر “طيور الخريف المهاجرة”، أو بتعبيرٍ ثانٍ: تهاجر في روحها عن المكان الذي يتربص به الموت من كل جانب، فتفرُّ بروحها إلى أماكن أخرى تتوافر فيها الحياة، ولكنها تشعر أن الرجل تشكَّل لها بمظهر السماء. أو بتعبير أخير: لا هروب من هذه التفاحة التي باتت سجنًـا، ولا حلاوة فيها حتى لو بلغت أقدامهما آخرها. 

وفي قصيدة “هواجس رملة”، نجد الشاعرة تعيد تشكيل جسدها من مادة الخلق الأولى؛ فتشكِّل هذا الجسد من حبَّات الرمل، ونجد الفكرة السابقة نفسها: هي التي تقوم بفعل التشظي في كل مكان، إضافة إلى العبث والتلاعب بملامحها، وملامح الأشياء من حولها:

ثمة ما يحول بيني وبيني

أقول لجسدي:

ت ط ا ي ر

لي وحدي هذه الصحراء

سيُقال:

اعترتها العاصفة

أو ليس للنسيم سلطانٌ عليها!

أهجسُ:

أنا الغبار..

سوء فهم بين الرمل ونفسه

يبدأ النص بالإشارة إلى وجود سبب ما يفصل الذات عن ذاتها، ما يجعلها تأمر جسدها بأن يتشظى متطايرًا في الصحراء حيث الفضاء اللامحدود الذي يُشعرها بأن هذا المكان لها وحدها. وتتصالح اللغة مع فعل التشظي؛ إذ تلجأ الشاعرة إلى تفتيت كلمة “تطاير” إلى حروف غير متصلة. وفي الوقت الذي يقول الناس فيه: إن العاصفة فعلت فعلها بالجسد، وأن النسيم ليس له سلطان عليها؛ فلم يفعل ما أحدثته العاصفة، تقول في نفسها: أنا الغبار، بعدما كانت تسمي نفسها الرملة. وترد ذلك إلى سوء فهم بين الاثنين؛ فالغبار ليس إلاَّ تشظيًا آخر للرمل. وهذا يؤكد أن الشاعرة تريد تجاوز الانشطار إلى أقصى درجات التشظي.

لن يستطيع الأبناء، ولا الأحفاد أن يلغوا عزلة الذات عن ذاتها. هذا ما أكدته الشاعرة في قصيدة مُقسَّمة إلى مقاطع، اتخذت عنوان “نصوص”؛ فما يجري في الخارج لن يتغير، وأمام هذا الجريان الذي لا يتوقف لا تجد الشاعرة أمامها سوى التمني:

كيف لي، وما أنجبتُ سوى الـ “ليت”

أن أدَّعي بأن ضجيج أحفادي

سيمزق هذه العزلة

أن أتقمص تعويذة ساحرة، ثم أجوب هذه الحرب

ليت البيان العسكري قصيدة حب

ليت القذائف مطر صيف

ليت الطائرات المقاتلة سرب حمام

يعزفُ “The Godfather”

والمدينةُ تستسلمُ للرقص

والدم وردٌ بلديٌّ فوق الإسفلت

ليت السيارة مفخخة بـ “الآيس كريم”

ليت طفل الأنقاض يشرب الحليبَ مع الملائكة

في فراشه

قبل النوم .. أمّه

ليت المقبرة مدينة ألعاب كبيرة.. صغيرة

إن الإنجاب البيولوجي الذي تلعب فيه الأنثى دورًا حيويًّـا في الحياة، مهما تعاظمت أعداده، لن يكون قادرًا على إلغاء غربتها المتأزمة؛ فالمسألة لم تعد مقصورة على علاقتها بالذكر، بل امتدت إلى علاقتها بمسرح الحياة نفسها. وفي هذا المسرح لا تملك الشاعرة سوى الكلمات التي تختزلها كلمة واحدة هي “ليت”؛ فماذا تتمنى؟ إنها تتمنى أن تكون تعويذة ساحرة تحوِّل البيان العسكري الذي يُعلن الحرب، ويبث مجرياتها، إلى قصيدة حب، وتحول القذائف المدمرة إلى مطر صيف، ويحول الطائرات التي تشن غاراتها للقتل إلى سرب حمام، وتجعل المدينة تستلم للرقص، وتُنبت فوق الإسفلت أزهارًا. وأن تتحول السيارات المـُعدة للتفجير إلى سيارات توزع “الآيس كريم”، أما أولئك الأطفال الذين قضوا تحت الأنقاض، فتتمنى أن يشربوا حليب الرضاعة مع الملائكة.

وقد وظفت الشاعرة المقطوعة الموسيقية المشهورة من الفيلم الأمريكي “العراب” أو “الأب الروحي” الذي عُرض عام 1972، ويُعد من أعظم الأفلام التي أنتجتها السينما العالمية آنذاك؛ لتأكيد أنها شاعرة الإنسان، وليست شاعرة تعبر عن نفسها وحدها، أو تعبر عن القضايا العربية وحدها؛ فما يجري في العالم من حولها، يضيف كل يوم إلى عزلتها عزلةً أخرى، وإلى تشظيها تشظيات أخرى بحيث يغدو الأمل في الحياة ضربًا من العبث.

وتصل إلى مسافة أبعد من تلك التمنيات؛ فتتمنى أن تتحول المقبرة إلى مدينة ألعاب سواءً كانت صغيرة أو كبيرة؛ لأنها ليست سوى واحدة من هؤلاء الذين يرقدون فيها:

ليت المقبرة مدينة ألعاب كبيرة.. صغيرة

ليت هذا اليوم أمس

ليتني كتبتُ هذا النص.. جثتي

ليتني لم أمتْ

برصاصة طائشة

بتحول المقبرة إلى مدينة ألعاب، يستطيع الأشخاص الذين تخطفهم الموت أن يعودوا إلى الحياة، كما يعود أشخاص الألعاب الإلكترونية. وحتى يحدث ما تريد، تتمنى تأخير الزمن، فيعود اليوم إلى الأمس، وتستطيع كتابة قصيدتها (جثتها)، وتتخطى موتها الذي حدث بفعل رصاصة طائشة. 

إنَّ تمني الشاعرة بأن تكتب قصيدتها هذه، يعني أنها لم تُكتب أصلاً؛ فما تفسير ذلك؟ إن الشاعرة التي شظَّت نفسها، رفضًا لما يحدث في الخارج على مستوى العلاقة بالذكر، وعلى مستوى العلاقة بالعالم، لن تستطيع التغيير عبر تمنياتها؛ فالشاعرة مقتولة منهما معًا، والقصيدة مقتولة منهما أيضًا؛ لأنها كمنتجتها لن تُغيِّر شيئًـا، والقاتل لشدة عموميته بات مجهولاً، ورصاصته طائشة. وفي الأحوال كلها: استوت الحياة والموت لديها، في ظل هذا الانشطار المرعب، وفي ظل ذلك التشظي الرهيب إلى درجة الغياب أو الموت، وهنا، يصبح لا معنىً يُذكر للحياة الفاقدة خصائصها، أو الجديرة بالبقاء كما ينبغي لها أن تكون.

استطاعت الشاعرة لانا المجالي أن تعبِّر عن فظاعة انشطار الذات على نفسها؛ جراء علاقتها بالذكر، وعن فظاعة وصول هذا الانشطار إلى تشظيات. وفي الحالتين، وجدنا الشاعرة نفسها هي التي تترامى إليهما بفعل هشاشة وسلبية العلاقة مع الذكر، وهشاشة وسلبية الإنسان بصورة عامة. وقد طوعت الكلمة للتعبير عن ذلك، فوظفت الحروف المتناثرة للكلمات، وتلاعبت بما يدل على الزمن من تعبيرات، ووظفت الكلمات بحروفها الأجنبية؛ لتأكيد شمولية الرؤية للإنسان بصرف النظر عن الاعتبارات الشكلية المميزة له.






الهوامش

(1) لانا راتب المجالي: ولدت في عمان في 31 تموز 1975. حصلت على درجة البكالوريوس في الزراعة من الجامعة الأردنية عام 2001. عملت رئيسة لقسم الإعلام في جامعة الزيتونة في عمان. وقد صدر لها ديوان “برد وكستناء ويا رب مطر” عام 2012.

(2) نشرتها في موقع ثقافات (http://thaqafat.com)، 1 أيلول 2012.

(3) نشرتها في موقع مجلة الجسرة الإلكترونية (http:www.aljasraculture.com)، 26 يوليو 2014.

(4) نشرتها في موقع ثقافات (http://thaqafat.com)، 26 ديسمبر 2012.

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *