شجرة الكرز

*خلود شرف

رغماً عن أنوفنا هربنا من الحرب، تركنا بيوتنا، أسرارنا، أعمالنا، واتجهنا إلى المناطق الآمنة.

 مسافة الزمن تعود معك إلى الخلف إن عدت إلى مسقط رأسك، تفصلك فجوة عن آخر مرة رأيت وجهك بالمرآة وبين الحاضر الذي تعود به، المرآة تحتفظ بذاكرة الوجوه، ستعرفك جيدا مرآتك وتقيسك بالسنتيمترات التي كبرتها، وتساعدك يدك التي نسيت كيف تتحسس بها تفاصيل نموك بعيداً عن هدوء ضيعتك. الهدوء هنا يساعدك لترى الزمن.

جمال الضيع وهواؤها ينبت بك طفولتك التي نسيتها على ظهر التل، أو في شقوق الجدران التي كنت تختبئ بها، وبين الحصى التي كنت تخبّئ بها قصاصات الورق في لعبة البحث عن الكنز وترسم خرائط بالطبشور على الطريق.

عندما تعود إلى مكان طفولتك تتلكأ بالمشي تشعر بأن قدمك كبرت فجأة على المكان، وأن كلّ شيء متوقف عند اللحظة التي غادرت بها، وبقيت كأنها بصورة فوتوغرافية تستعيدها الآن بألبوم العائلة.

الطريق الإسفلتي الطويل كان لا ينتهي بسنين طوال، إلا بحضن ماما تنزع حقيبتي المدرسية عن ظهري، وتمسح شعري الجعد المنكوش وتنزع عنّي ملابسي تدخلني لأغسل جوربي، وقدميّ، أغسل يديّ جيداً وتسقني من حفنة يدها، ذاكرتي تتوقف عند حفنة يدها والماء شهيّ لا يفارق عطشي.

تغيرت بعض الملامح ربّما بعض الوجوه شاخت، البيوت باتت أصغر عندما كبرت، وذاك البيت الذي أغلق فمه على طفل عندما كنّا صغار وأخافتنا أصوات الباعة التي مرت بالوقت نفسه فهربنا مذعورين بصراخ يشبه من وجد ضبعا، لم يكن سوى مدخل عادي لبيت مهجور شاخ وأشفق على جهلي، لكن الطريق ما زال كما تركتني ذاكرتي به، الأشجار كبرت مثلي لكنها لم تلحظ كبرها إلا عندما رأتني، طارت العصافير منها، عندما أجفلها الضحك، كانت تضحك على جهلها.

كعادتي الطفولية مرّرت السلام بأصابعي على كل ما لامسته، ومرّرت صوتي بسلام على كل من رآني، شجر بيوت قطط.. وحتى الأبقار، والنسيم الذي مرّ عرفني جيدا التفّ حولي، ودرت معه كيف عرفوني، لا أعرف جيداً من أنا! وكيف ترك هذا الجسد تلك الطفلة هنا ورحل، كان من الأفضل أن أترك هذه الطفلة هنا، فلو لم أتركها ما استقبلني أحد بحنان.

رافقتني هذه الطفلة تعرّفني على منسيّاتي، وكعادتي سألتها عن لون الشجر في المساء، فأجابتني بخبث العارف ضاحكة ضحكة رافقتها بصوتي: أسود.

– نسي الطريق شجرة هنا هل انتبهت؟

– شجرة كرز!.. أيتها الشقية.

– هنا أصابني أحد الفتية بحجر على رأسي بينما كنت أراقبه وهو يسرق الكرز.

– نعم كان مؤلماً بكيت بهدوء العارف أن الألم سينتهي..

– غادرتْ الشجرة المكان منذ رحلتي، الأشجار أحياناً تبكي.

– نعم الأشجار تبكي وتضحك، وأخبرتها كيف سمعت الشجر يضحك.

– هذا البستاني يقف مكانها، سأتركك قليلا كي لا يظنك مجنونة.

– لا بأس أفهم ما يقولون عمّن يحدث نفسه هنا صغيرتي.

لقد عرفني، نظرته التي كوت رأس قلبي بحزن شديد أخبرتني لقد عرفني، ارتجف قلبي وأنا أرمي السلام، لم يكن وجهه مألوفاً، لكني أشعر أنه يقول لي سلاماً بلغة ليست كلغة البشر التي اعتدتها في عالم السيارات، والفوضى، ولا في عالم الحرب، كانت فعلاً كسلام.

بعد أن تجاوزته، سألت الطفلة، أأعرفه؟

– لا.. أبدا، انتقل منذ يوم مجيئك إلى الضيعة، لا أحد يعرف من أين أتى ولا من هو! كل ما نعرف عنه أنه أتى إلى هنا وطلب عملا في البستان، وهو الآن يقلّم الورود والحشائش.

– غريب أن تجد في الضيع مثل هذه المهن، بالعادة القرويون يعملون أعمالهم المنزلية بأنفسهم. غريب.

كان يقف في ظل الكرزة وكأنه ظل كرزي، الكرزة التي كانت حاضرة هنا.

تكررت صباحاتي وذاكرتي أعيشها مرتين، وهذه الشقية تتعفرت على ثنايا التفاصيل، لم تنس شيئاً كلّ ما قالته كنت أضحك لسماعه أو أصفن أو أبكي أحيانا كنت أبكي كطفل يمسك بثوب أمّه تائها عن نفسه، ولا يعلم من الحياة سوى أنها أمّه.

بات هاجسي أن أتفقد حال ذاكرتي على حواف الطريق، كل يوم أمرّ أسقيها، أرى من مات فيها ناسية كلّ أوجاع العمر وفشله، ناسية الحرب كيف لم تخفق بعد وكبر جسدها على الروح التي تلبّسته.

وألقى البستاني ينتظر وبيده ورود على بوابة الدار، أرمي السلام وأناجي النجمة الصباحية عسى أن تكون الورود لي، يتجه باتجاهي يعطيني الورود. دونما كلام آخذ الورود وأكمل صباحي.

أضع الورود بالمزهرية وأبدّلها عندما تذبل، لم أتساءل يوماً عن معرفته أنها ذبلت بمزهرية كونه بستاني.

لم يسألني اسمي ولا سألته من أنت؟

ولم تسأل تلك الشقية أيّ سؤال، وكانت معي يخفق قلبها عندما تأخذ الورود محاولة خطفها من يدي لكنّي أحاول أن أبقى رصينة أمام الرجل الوحيد الذي أهداني الورد في حياتي، غير أبي.

أتأمّل في المساء الورود التي ما رأيت أجمل منها في حياتي كانت من النوع الجوري كثيرة النضارة وعزيزة الرائحة تعرف جيداً كيف تصيد القلب يسحرها وتأسره.

كررت صباحاتي وما عاد البستاني ينتظر ولا الورود.

– هل خدشت حياء الوردة؟

– لا أظن، لم أتفوّه بكلمة، شعرت أن الكلام يَفسد بمثل هذه اللحظات.

– إذن أين ذهب البستاني؟

– لا أعرف ربما هو الآخر هرب من حالة الحرب التي تتوجسنا وذهب ليودّع طفولته.

بعد مدة سمعت النسوة يحدثن الخيوط التي يغزلنها للحياكة، أن البستاني الرجل الغريب الذي مرّ من هنا وسقى الحياة، قد أصابته رصاصة قناص في رأسه بينما كان ذاهبا ليودع ذكرياته.

الغريب أن دماغه فاض وروداً كرزية ملأت الحافلة التي اصطاده القناص منها، وقالوا إنه عندما حاولوا أن يلموا جثته صار غبار طلع ولم يعرف أحد أين دفنوه.

عدت إلى المزهرية في بيتي وجدت الوردة الجورية الأخيرة التي أعطاني إياها جفت على لونها ولم تمت.

__________
*الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *