«العاشق الياباني» فصل من الرواية الجديدة لإيزابيل الليندي التي ستصدر ترجمتها للعربية قريباً
مارس 27, 2017
بيروت- تستعدّ «دار الآداب» في بيروت، لإصدار الترجمة العربية لرواية الشهيرة إيزابيل الليندي «العاشق الياباني». وتنفرد جريدة «الشرق الأوسط» بنشر مقطَع من هذه الرواية التي تحكي قصة إيرينا التي تعمل في مأوى للمسنين في سان فرنسيسكو، حيث تتعرف على ألما وحفيدها سيت، وتحاول إيرينا أن تعرف بمساعدة هذا الأخير، من الجهة التي تبعث بالرسائل والهدايا السرية إلى ألما. قصة لا تقل تشويقاً عن تلك التي كتبتها الليندي سابقاً، وتحول عدد منها إلى «بست سيلر» ونالت جوائز عالمية. إيزابيل الليندي وُلِدَت في البيرو عام 1941، ترعرعت في تشيلي وتسكن حالياً في أميركا. حاصلة على كثير من الجوائز الأدبية المهمة، وهي صاحبة الروايات الأكثر شهرة واحتفاء من قبل النقاد، كـ«بيت الأرواح» و«باولا»، وبيع من رواياتها 65 مليون نسخة في العالم. تُصنف كتاباتها في إطار الواقعية السحرية، وهي من الأسماء المرشحة دائماً للحصول على جائزة نوبل.
إلى والديَّ، بانشيتا ورامون،
شخصيَّتيْن مُسنَّتيْن تنطقان عن الحكمة، توقَّفْ، يا طيفَ حبِّي الأنوف، يا صورةَ الافتتان التي أعشقها، وهمٌ جميلٌ أفنى سعيدةً من أجله، خيالٌ حلوٌ أحيا تعيسةً بسببه.
سور خوانا إينيس دي لا كروث لارك هاوس، دخلتْ إيرينا باثيلي (Irina Bazili) للعمل في لارك هاوس، بضواحي بيركيلي، سنة 2010. كان عمرها لا يتجاوز ثلاثاً وعشرين سنة. لم تكن متحمِّسة كثيراً لهذه الوظيفة، خصوصاً أنَّها عانت البحث عن فرص العمل، من مدينة إلى أخرى، منذ أن كان عمرها خمسة عشر ربيعاً. لم تكن تتوقَّع بتاتاً أن تجد راحتها التامَّة في هذه الدار التي تؤوي المسنِّين، وأنَّها ستذوق، وقبل أن يعبث بها القدر، وفي غضون ثلاث سنوات متتالية، طعمَ سعادة ذَكَّرتها بأيام طفولتها.
استأثرتْ لارك هاوس، التي تأسَّستْ في منتصف 1900 بنيَّة إيواء العجزة المحدودي الدخل، منذ البداية، ولأسباب مجهولة، باهتمام المثقَّفين التقدُّميِّين، وشخصيَّات غامضة، وفنَّانين غير مرموقين. لكنْ ومع مرور الوقت، تغيَّرت أحوال النُزُل كثيراً. بيد أن عادة حسم قدر معيَّن من مداخيل كلّ نازل للمساهمة نظريّاً في تشجيع بعض مظاهر التعدُّد الاجتماعي والعرقي لم تنقطع بتاتاً. والواقع أنَّ كلّ النزلاء كانوا من البيض، وينحدرون من الطبقة المتوسِّطة. وهكذا، كانت أوجه التعدُّد تكمن أساساً في اختلافات طفيفة بين أصحاب الفكر الحرّ، والباحثين عن الطرق الروحانيَّة، ونشطاء المجتمع المدني والبيئة، ومعتنقي الفلسفة العدميَّة، فضلاً عمَّا تبقَّى من الهيبيز الذين لا يزالون على قيد الحياة في ناحية خليج سان فرانسيسكو.
أوضح السيِّد هانس واغ Hans Voigt، مديرُ هذه المؤسَّسة، في المقابلة الأولى التي أجراها مع إيرينا، أنَّ سنَّها صغيرة جدّاً مقارنة مع حجم المسؤوليَّة التي يتطلَّبها المنصب. لكنْ، بإمكانها العمل موقَّتاً، ما دام عليهم أن يشغلوا بعجالةٍ منصباً شاغراً في قسم الإدارة والخدمات، ريثما يعثرون على الشخص المناسب. خمَّنت إيرينا أنَّ كلّ ما قاله المدير عنها مطابق تماماً لانطباعها الأول عنه: فهو كذلك يبدو وكأنَّه صبي بوجنتين مكتنزتين وصلع مبكِّر، وبدا لها أنَّ المهمَّة التي أُسندتْ إليه لتسيير هذه المؤسَّسة تفوقه بكثير. لكنْ، مع الوقت، أدركتْ أنَّ الشكل الخارجي لواغ لا يعكس الحقيقة، إذا ما نظر إليه شخص من مسافة محدَّدة وبإنارة خافتة، فالواقع أنَّه أتمّ لتوِّه الرابعة والخمسين، وأثبت للجميع أنَّه رجل إدارة محنَّك.
أكدت له إيرينا أنَّ النقص الحاصل لديها في الدراسة يمكن أن تعوِّضه بالتجربة التي راكمتها في التعامل مع العجزة في مولدافيا Moldavia، مسقط رأسها.
خفَّفت الابتسامة الخجولة لإيرينا من حدَّة المدير، الذي نسي أن يطالبها برسالة التزكية، وشرع في تعداد التزامات المنصب، التي اختزلها في عبارات مقتضبة: تسهيل الحياة لنزلاء الطابق الثاني والثالث، أمَّا أصحاب الطابق الأول، فلا يدخلون في دائرة اختصاصها، لأنَّهم يعيشون بشكل مستقلٍّ كمستأجرين لشقق داخل عمارة، وكذلك الحال مع نزلاء الطابق الرابع المكنَّى «بالفردوس »، لكونهم يقضون معظمَ وقتهم يغطُّون في سبات عميق، وينتظرون فقط التحاقهم بالرفيق الأعلى، ومن ثم ليسوا في حاجة إلى هذا النوع من الخدمات التي يجب أن تقدِّمها إيرينا. أوكلت إلى إيرينا مهمَّة مرافقة المقيمين إلى عيادات الأطباء، والمحامين والمحاسبين، ومساعدتهم على ملء استمارات الخدمات الصحِّيَّة والضرائبيَّة، واصطحابهم للتسوق، وقضاء حوائج مشابهة. كانت مهمَّتها الوحيدة مع نزلاء «الفردوس» تتلخَّص، بحسب تعليمات هانس واغ، في إعداد جنائزهم، التي كانت تتلقَّى بصددها إرشاداتٍ مفصَّلةً بحسب كلّ حالة، لأن رغبات المحتضرين كانت لا تتوافق دائماً مع ذويهم، فثمَّة معتقدات كثيرة كان يدين بها أهلُ لارك هاوس. وهكذا كانت الجنائز تُنظَّم دائماً وكأنَّها احتفالات عالميَّة مسكونيَّة ومعقَّدة.
فيما بعد، أوضح لها المدير أنَّ عُمَّال النظافة، والعناية والتمريض، هم الوحيدون المطالبون بارتداء الزي الرسميّ، أمَّا باقي الموظَّفين فعليهم الالتزام بأخلاقيَّات اللباس، فالاحترام والذوق الرفيع من شروط هذه المادَّة. وأكد لها مثلاً أنَّ القميص الذي ترتديه وتظهر عليه صورة مالكولم إكس لا يتناسب بتاتاً مع روح المؤسَّسة. والواقع أنَّ الصورة لم تكن لمالكولم إكس بل لتشي غيفارا، لكنَّها لم تنبس ببنت شفة، وفضَّلت ألا تفسِّر الأمر، ظنّاً منها أنَّ هانس واغ لم يسبق له أن سمع بالمقاوم الذي ما زال، ورغم مرور نصف قرن على ملحمته، محطَّ تبجيل كثير من الكوبيين، وكذا ثلَّة من راديكاليِّي بيركيلي حيث كانت تعيش. كان القميص الذي كلَّفها دولارين، واقتنته من محلّ للملابس المستعملة، يبدو شبه جديد.
– التدخين ممنوع هنا، حذَّرها المدير.
– لا أدخِّن ولا أشرب النبيذ، سيدي.
– أصحَّتكِ على ما يرام؟ هذا أمر مهمٌّ ما دمتِ ستتعاملين مع العجزة.
– نعم سيِّدي.
– أثمَّة موضوع يجب أن تطلعيني عليه؟
– أُدمن الألعاب الإلكترونيَّة وروايات الفنتازيا، أنت تعرف، سيِّدي، طولكيين Tolkien، نيل غيمان Neil Gaiman، فيليب بولمان Philip Pullman. كما أنّني أشتغل في غسل الكلاب، لكنْ هذا الأمر لا يأخذ منِّي الوقت الكثير.
– ما تقومين به في وقت فراغك لا يعنيني، آنستي. الأهم عندي أن تكوني متيقِّظة في عملك.
– بالطبع، إذا منحتني فرصة لن تندم، سيِّدي، وسترى شدَّة حذقي مع كبار السنّ، أردفت الشابَّة في رباطة جأش مصطَنَعة.
بعد انتهاء المقابلة، عرض عليها المديرُ المَرافِقَ التي تؤوي ما يناهز مائتين وخمسين شخصاً، متوسِّطُ أعمارهم خمس وثمانون سنة.
كانت لارك هاوس من الممتلكات الرائعة التابعة لشخصيَّة مرموقة في عالم الشوكولاته، وهبها للمدينة مع هِبة ماليَّة كبيرة لتغطية مصاريفها. كانت عبارة عن بناية رئيسية في شكل قصر منيف، يضمُّ بين جنباته المكاتبَ، والفضاءات المشتركة، ومكتبةً، وسفرةً، وورشات، وجملةً من البنايات الجميلة بقراميد خشبيَّة، تناغمت مع الحديقة التي كانت تبدو برِّيَّة، لكنَّها كانت تحظى في الواقع بعناية فيلق من البستانيِّين.
كانت عماراتُ الشقق المستقلَّة التي تؤوي نزلاءَ الطابق الثاني والثالث تتّصل فيما بينها بواسطة ممرَّات مسقَفة وواسعة، يتمُّ التجوُّل فيها بالكراسي متحرِّكة إذا كان الطقس صحواً. أمَّا جنبات الممرَّات فكانت من زجاج، للاستمتاع بالطبيعة، التي يعتبرها الكلّ أحسن بلسم للكدمات في أي مرحلة عمريَّة. أمَّا «الفردوس»، فكان عبارة عن بناية إسمنتيَّة معزولة، غير متجانسة مع باقي البنايات لولا النباتات المتسلِّقة التي غطَّتها عن آخرها. وأمَّا المكتبة وقاعة الألعاب، فكانت أبوابهما مفتوحة على مدار الساعة. وكان لصالون التجميل توقيت مرن. وكانت الورشات تقدِّم دروساً مختلفة، بدءاً من الصباغة، ووصولاً إلى دروس الفلك التي كانت تُعطى لمن لا تزال أفئدتُهم تهوي مفاجآت المستقبل.
كان دكَّان الأشياء المنسيَّة هكذا جاء اسمُه في لافتة عُلِّقتْ على الباب، وكانت تسيِّره سيِّدات متطوِّعات يبيع الملابس والأثاثَ والجواهر، وأشياءَ ثمينةً أخرى تخلَّى عنها النزلاء، أو خلَّفها الموتى من ورائهم.
– لدينا نادٍ للسينما في منتهى الروعة. نعرض أفلاماً ثلاث مرَّات في الأسبوع في قاعة المكتبة، أردف هانس واغ.
– أي نوع من الأفلام؟ سألته إيرينا، وكلّها أمل في أن تكون الأفلام لمصَّاصي الدماء والإثارة.
– هناك لجنة مكلَّفة تُشرف على عمليَّة انتقاء الأفلام، ودائماً تمنح الأولويَّة لأفلام الإجرام، فهم من عشَّاق إنتاجات تارانتينو Tarantino. الكلّ هنا مفتون بالعنف، لكنْ لا تخافي، فجلُّهم يُدرك أنَّ الأمر ضرب من الخيال، وأنَّ الممثِّلين سيظهرون ثانيةً في أفلام أخرى سالمين ومعافين. لنقل إنَّ هذا هو صِمام الأمان. فالكثير من نزلائنا يتوهَّمون أنَّهم بصدد قتل أحد، وعادةً ما يكون هذا الشخص من عائلتهم.
– الشيء نفسه يحصل معي، أعقبتْ إيرينا من دون تردُّد.
ظنّ هانس واغ أنَّ الشابَّة تمزح معه، فضحك بسرور، وهو يتلمَّس روح الدعابة والصبر اللذين يتحلَّى بهما عمّالُه.
في حديقة الأشجار القديمة كانت تتجوَّل هناك، بكلِّ ثقة، سناجبُ كثيرة، وكذلك أيائلُ كثيرة. أوضح لها هانس واغ أنَّ إناث الأيائل تلد هناك، وتعتني بصغارها إلى أن يشتدّ عودها. وأضاف أن المكان كذلك ملاذ للطيور، خصوصاً طيور القبَّرة Sky – larks، التي اشتُقّ منها اسم الدار: لارك هاوس. كانت هناك عدَّة غرف استراتيجيَّة، يتمّ التجسُّس من خلالها على الحيوانات في الطبيعة، وكذلك على العجزة المعرَّضين للتيه ولحوادث مفاجئة. لم تكن لارك هاوس تتوفَّر على شروط السلامة. ففي النهار، كانت الأبواب تظلُّ مفتوحة، ولم يكن هناك حارسان أعزلان يقومان بالدوريَّات المعتادة. كانا من الشرطة المتقاعدين، وكان عمرهما يتراوح بين السبعين والرابعة والسبعين. لم تكن الحاجة ملحَّةً إلى حرَّاس آخرين، فاللصوص لن يضيِّعوا وقتهم في مهاجمة عَجَزة بلا دخل.
مرُّوا بمجموعة من النساء القابعات في الكراسي المتحرِّكة، وبمجموعة أخرى تحمل منصَّات الرسم وعلب الصباغة، تأهُّباً لحضور درس في الهواء الطلق، وكذلك ببعض النزلاء الذين أخرجوا كلاباً جدّ معطوبة مثلهم في نزهة. كان النزل متاخماً للخليج، وعند حالة الجَزْر، يمكن الخروج للتنزُّه في الزوارق، وهذا ما كان يفعله بعضُ النزلاء الذين لم تنهكهم بعدُ آهاتُ الكِبَر وآلامُه.
«هكذا أحبّ أن أعيش»، تنهَّدتْ إيرينا، مستنشقةً رائحة شجر الصنوبر الزكيَّة، وهي تقارن روعة هذه المَرافق بالجحور الموبوءة التي جالت في كنفاتها منذ أن كان عمرها خمس عشرة سنة.
– وأخيراً، آنسة باثيلي، من واجبي أن أُخبرك بوجود أشباح، لأن هذا سيكون بالتأكيد أول ما سيحذِّرك منه أحد الموظَّفين المنحدرين من جزيرة هايتي.
– لا أومن بالأشباح، سيِّد واغ.
– أهنِّئك، وأنا كذلك. أشباح لارك هاوس: امرأة شابَّة بفستان ذي سدائل ورديَّة، وطفل قد يصل عمره إلى ثلاث سنوات. إنَّها إيميلي Emily، ابنة شهير الشوكولاته. المسكينة إيميلي توفّيتْ حسرةً على ابنها الذي غرق في المسبح، في نهاية الأربعينات. بعد هذه الفاجعة المؤلمة، غادر السيِّد المنزل وأنشأ هذه المؤسَّسة.
– هل غرق الولد في المسبح الذي عرَّفتني إليه الآن؟
– نعم، نفسه. وعلى حسب علمي، لا أحد بعده لقي حتفَه هناك.
لاحقاً غيَّرت إيرينا مواقفَها من الأشباح، لأنَّها اكتشفت أنَّ كثيراً من العجزة كانوا دائماً وأبداً مصحوبين بموتاهم، ولم تكن إيميلي وابنُها الروحيْن الوحيدتيْن المُقيمتيْن هناك.
في الساعة الأولى من اليوم الموالي، حضرتْ إيرينا إلى عملها مرتديةً أحسن ما لديها: بنطلونَ جينز وقميصاً محتشماً. لاحظت أنَّ الأجواء العامَّة في لارك هاوس كانت مريحة، وأنَّ الإقامة تبدو وكأنَّها مدرسة جامعيَّة لا دار للعجزة. كان الأكل مطابقاً للوجبات التي يقدِّمها أي مطعم محترم في كاليفورنيا، فأطباقه كانت شهيَّة وعضويَّة. الخدمات كانت معتبرة، وموظَّفو العناية والتمريض كانوا شديدي اللطف، وفوق كلّ التوقُّعات. في أيام قليلة، حفظتْ إيرينا أسماء زملائها في العمل وعاداتهم، وكذا الأمر بالنسبة إلى المقيمين التابعين لها. وساعدتها الجملُ الإسبانيَّة والفرنسيَّة، التي باتت تلوكها، على كسب تقدير الموظَّفين المنحدرين، في غالبيَّتهم، من المكسيك وغواتيمالا وهايتي. لم يكن الراتب الشهري مناسباً مقارنةً بصعوبة العمل الذي يزاولونه، لكنْ قلَّما تجد أحداً بوجه متجهِّم عبوس. «يجب التعامل مع الجدَّات بنوع من الدلع، من دون الإخلال بالاحترام، والشيء نفسه بالنسبة للأجداد، لكنَّ الحذر واجب، إذ تنتابهم أحياناً نوبات مزعجة فيتعاملون بشكل فظيع»، هذا ما أوصتها به رئيسةُ فريق النظافة لوبيتا فارياس Lupita Farias، وهي امرأة مكتنزة، قصيرة القامة، ذات وجهٍ منحوت نَحْتَ «الأولميك». ولمَّا كانت قد قضت زهاء اثنتين وثلاثين سنة في لارك هاوس، وكانت تلج كلّ الغرف، فقد باتت تعرف وبشكل دقيق كلَّ مُقيمٍ على حدة، وتعرف كيف كانت حياتهم، حتى إنَّها كانت تستطيع أن تتكهَّن بنوباتهم العصبيَّة، كما كانت ترافقهم في همومهم.
– حذاري من الاكتئاب، إيرينا، فهو شائع هنا. فإذا لاحظتِ أنَّ أحدهم بات معزولاً، حزيناً، يظلّ وحده في الفراش بلا سبب، أو توقَّف عن الأكل.. فأخبريني بسرعة. مفهوم؟
– وماذا تصنعين في هذه الحالة يا لوبيتا؟
– على حسب كلِّ حالة. أداعبهم بلطف، وهذا أمر يثمِّنونه كثيراً، لأن الشيوخ في حاجة إلى مَنْ يربِّت على كتفهم. أُقحمهم في مسلسل تلفزيونيّ، فلا أحد يريد الموت قبل أن يتعرَّف إلى النهاية. البعض يروِّح عن نفسه بالصلاة، لكن يوجد هنا الكثير من الملحدين، وهؤلاء طبعاً لا يصلُّون. الأهم أن لا ندعهم وحدهم. فإذا لم أكن موجودة، اتصلي بكاتي Cathy، تعرف تماماً ما يجب فعله.
كانت الدكتورة كاثرين هوب Catherine Hope، القاطنة في الطابق الثاني، هي أول من رحَّب بقدوم إيرينا باسم كلِّ المقيمين. وفي عمر يشارف الثمانية والستِّين ربيعاً، كانت كاترين أصغر النزلاء. ومنذ أن لازمت الكرسي المتحرِّك، اختارت المساندة والصحبة الممنوحتين من لارك هاوس، حيث قضت بضع سنين، تحوَّلت خلالها إلى روح المؤسَّسة.
«كبار السنِّ هم أكثر الناس تسليةً في العالم. عمَّروا كثيراً، يقولون ما يعشقون، وهم في ذلك لا يبالون بأحد. لن تشعري بالملل هنا أبداً، قالت لإيرينا. نُزلاؤنا أناس مهذَّبون، لا يزالون يواصلون البحث والتحصيل، إذا سمحتْ لهم بذلك حالتُهم الصحِّيَّة. ننعم هنا بكثير من المحفِّزات، هكذا نستطيع أن نقضي على أسوأ كابوس للشيخوخة: الوحدة».
كانت إيرينا على اطلاع تامٍّ على النَفَس التقدُّمي الذي يفوح من لارك هاوس، وهو نَفَسٌ شكَّل أكثر من مرَّة مادَّةً دسمةً للكثير من نشرات الأخبار. كانت لوائح الانتظار لولوج المؤسَّسة عريضة جدّاً، وتمتدُّ لسنوات، ولو لم يقضِ كثير من المترشِّحين نحبهم قبل أن يأتيهم دورهم، لما انتهت هذه القوائم. شيوخ لارك هاوس شكَّلوا دليلاً قاطعاً على أنَّ عامل السنِّ، بكلِّ إكراهاته، لم يكن ليشكِّل حجر عثرة أمام التمتُّع بمباهج الحياة، والمشاركة في ضجيج الوجود. فكثير منهم كانوا أعضاء نشطين في حركة «شيوخ من أجل السلام»، يخرجون إلى الشارع صباح كلَّ جمعة للتنديد بالخروقات، ومناهضة الظلم الذي تمارسه إمبراطوريَّة الولايات المتَّحدة الأميركيَّة في العالم.
كان النشطاء، ومن بينهم سيِّدة يصل عمرها إلى مائة سنة وسنة، يلتقون دائماً في ركن من ساحة الحي أمام ثكنة بوليسيَّة، فيحضرون بعصيِّهم ودرَّاجاتهم وكراسيهم المتحرِّكة، رافعين لافتات مناوئة للحرب أو الاحتباس الحراريّ، في حين كان جمهور الناس العابرين يساندونهم بالضغط طويلاً على أبواق سيَّاراتهم، أو يوقِّعون لهم عريضة يضعها الأجداد الغاضبون بين أيديهم. وكثيراً ما بثَّ التلفاز صوراً لمشاغبين تتوسَّطهم الشرطة محاولةً في منظر سخيف فكَّ الاعتصام، ومهدِّدةً باستعمال الغاز المسيِّل للدموع.
كان هانس واغ شديد التأثُّر، وهو يعرض على إيرينا نُصُباً تذكاريّاً وُضع في الحديقة على شرفِ موسيقي في السابعة والتسعين، كان قد لقي حتفه سنة 2006 جرَّاء إصابته بجلطة دماغيَّة قاتلة، وهو يندِّد تحت وطأة الشمس الحارقة بالحرب على العراق.