ممدوح عدوان: «انضباط جندي أمام سنبلة»

*صبحي حديدي

تصدر، خلال أسابيع قليلة، مختارات من قصائد الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان (1941ـ2004)؛ تشرفتُ باختيارها، والتقديم لها، استجابة لمزيج من ضرورة عامة، في أن تُقترح على القارئ العربي نماذج من شعر عدوان، وتلك كانت رغبة الصديق مروان عدوان، نجل الشاعر ومدير «دار ممدوح عدوان»؛ وباعث شخصي، في أن أمنح نفسي الفرصة لتثمين، وإنصاف، تجربة شعرية ثرّة وكبيرة.
وعدوان ابن جيل شعري سوري كان في الأصل متشعب التجارب ومتنوّع التيارات والميول، لكي لا يتحدّث المرء عن تصارع الأشكال والأساليب، في غمرة تعايشها وائتلافها. كانت الحقبة تلك، مطالع الستينيات وأواسطها، تضمّ علي الجندي (الذي انتمى إلى المجموعة رغم أنه كان يكبرهم سنّاً ومراساً ونشراً، إذْ صدرت مجموعته الأولى «الراية المنكسة» سنة 1962، وسبقتها سنوات من النشر في دوريات أدبية سورية ولبنانية)؛ وخليل الخوري («حبات قلب»، 1961)؛ وفايز خضور («الظلّ وحارس المقبرة»، 1966)؛ وعدوان نفسه («الظلّ الأخضر»، 1967)؛ بالإضافة إلى الشاعر الفلسطيني فواز عيد («في شمسي دوار»، 1963).
وفي ظنّي أن إرث الإسهامات الأغنى لتلك المجموعة من الشعراء كان قد ابتدأ من نجاحهم في إقامة الصلة الحداثية، بمعنى التحديث المعمّق في الشكل مثل الموضوعات، بين حلقة عبد الباسط الصوفي وسليمان العيسى وشوقي بغدادي، حيث هيمن شكل «الشعر الحرّ» أو التفعيلي، الذي لم يكن يخرج جذرياً عن عمود الخليل، وينتهج تقطيع العمود طباعياً دون المسّ ببنيانه في الجوهر؛ وحلقة الثلاثي علي الناصر وأورخان ميسر وخير الدين الأسدي، حيث النماذج الأبكر من قصيدة النثر السورية، والميول السيريالية؛ ثمّ الحلقات المتميزة المنفردة، في الشكلين، كما مثّلتها تجارب نزار قباني ومحمد الماغوط.
المستوى الثاني العميق في إسهامات الجندي وكنعان وعدوان والخوري وخضور وعيد، وعدد من الشعراء سواهم، وإنْ بدرجات تتفاوت بالطبع (وأجدني أخصّ بالذكر الشاعر الكردي الراحل حامد بدرخان، الذي كتب قصيدة نثر ثورية الشكل والمحتوى، تعتمد فصحى خاصة من طراز بكر وعالي الإيحاء)؛ هو أنّ إقامة تلك الصلات الحداثية كانت تتمّ والشعراء على وعي تامّ بمقدار الضغوطات التي كانت القصيدة العمودية السورية تمارسها على الذائقة العامة. وتلك كانت مراكز ضغط فاعلة، متعددة المواقع، سواء على يد مجايلين من أمثال وصفي القرنفلي وحامد حسن وسعيد قندقجي وعبد الرحيم الحصني؛ أو مخضرمين وأصحاب سطوة، من أمثال عمر أبو ريشة وبدوي الجبل ونديم محمد، من جيل الكبار السابق.
ولقد توقفتُ، في التقديم للمختارات، عند خصائص عديدة امتاز بها شعر عدوان؛ بينها القصيدة السياسية، أو بالأحرى ميل عدوان الدائم إلى «تسييس» موضوعات قصائده بالمعنى الأوسع نطاقاً، وبالتالي الأشدّ تشعباً، لمفهوم السياسة. هذا يعني، في المقام الأول، أنّ جماليات القصيدة عند عدوان ليست، البتة، مترفعة عن هواجس السياسة، أو الاجتماع السياسي في معنى أدقّ؛ ابتداءً من مختلف أزمات الحياة اليومية، مروراً بمشكلات الحرّية والتحرّر والتحزّب والانحياز، وليس انتهاءً بالقضايا الكبرى المحلية والوطنية والكونية. كما يعني، في مقامٍ تالٍ، أنّ الواقعة الفعلية المرتبطة بالبشر، وبطبقاتهم وآلامهم وآمالهم، تتحلى في ذاتها بمقدار كافٍ، أو عالٍ أيضاً، من الدلالة القِيَمية، أمام أيّ وكلّ دلالة جوهرانية أو كونية أو طبيعية.
وبذلك فإنّ التاريخ، في الشعر تحديداً، لا يعمل على صعيد استثارة العاطفة والوجدان، والتفنن في البلاغة والجماليات، وما إلى هذه وتلك، فقط؛ بل هو أداة جبارة لاستكشاف العالم، الداخلي والخارجي معاً، ولتجسيد حاضره واستشراف مستقبله، ضمن منظورات «أدبية» شتى، لا مناص لها من إدراج السياسة والتسيّس والتسييس.
وإذْ أدرك عدوان أنّ بعض ضرورات هذا التسييس يمكن أن تفضي، في كثير أو قليل، إلى جرعة من الجموح الشعاراتي، ومجازفة نهوض البنية الشعورية في القصيدة على نبرة اللافتة السياسية المعارضة تارة، أو البيان الاحتجاجي التحريضي طوراً؛ فإنّ سلسلة الحلول الفنية التي انتهجها، لدرء هذه الأخطار، لم تكن من طراز «كلاسيكي» انتهجه معظم الشعراء الكبار المنخرطين في تسييس الشعر (على شاكلة و. ب. ييتس وإزرا باوند، في الشعر الإنكليزي؛ وبول إيلوار ورونيه شار في الشعر الفرنسي؛ ومحمود درويش وأمل دنقل في الشعر العربي…)، فحسب؛ بل لقد جعل من تلك الحلول كتلة خيارات تعبيرية قائمة في ذاتها، تضيف إلى، وتغني، بصمته الأسلوبية الإجمالية الفارقة.
بعض هذه الحلول يمكن تلمّسها في تشديد النبرة الدرامية، والإفلات من تحويل الشخوص والأساطير إلى أقنعة، واعتماد تكوين بشري تشكيلي يحتمل الذهني والمجرد والنوستالجي ولا يتنافر مع الملموس والعياني والتسجيلي. حلول أخرى صنعتها اللغة الشعرية ذاتها، من حيث أنها تقيم موازين تبادلية دقيقة بين إطلاق المشاعر والأحاسيس، أو ضبطها وأحياناً كبحها عند حدود الإيعاز السياسي.
ويبقى أن المسعى الجمالي ـ والنقدي أيضاً، إذا جاز لي أن أضيف ـ وراء اقتراح هذه المختارات، هو أن تفلح في التذكير بقامة شعرية رفيعة، مثّلها «ابن الحياة الحر»، «المتعالي على التعالي»، المنحني «بانضباط جنديٍ أمام سنبلة»، والناظر «حزيناً غاضباً، إلى أحذية الفقراء المثقوبة»، المنحاز «إلى طريقها الممتلئ بغبار الشرف»؛ كما عبّر محمود درويش في رثاء عدوان.

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *