فاطمة المرنيسي وشهرزاد ومقصلة الاستشراق (1-2)

*يحيى بن الوليد

جاءت الباحثة السوسيولوجية والكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي للكتابة عن “ألف ليلة وليلة”، وعن شهرزاد بصفة خاصة، بعد مرور ما يقرب من ستين سنة على ظهور أوّل كتاب حول “الليالي”؛ والمقصود كتاب “ألف ليلة وليلة” (1943) للرائدة سهير القلماوي. وهي مدّة ليست قصيرة أو هيّنة بالنظر لما شهدته الثقافة خلالها من متغيّرات وتبدّلات ومنعطفات وانقلابات… في الأنساق الكبرى والصغرى لأشكال من الإدراك والتفكير والتأثير… وعلى النحو الذي أفضى إلى التأكيد على نوع من الإحكام المعرفي الهائل من خلال مدارس ونظريات ومناهج وأبحاث وحوارات… في مجالات الهيمنة الذكورية والجنسانية (Sexuality) والإنتاجية (Productivity) والسلطة والمعرفة والجنون ونقد الاستشراق ذاته… وفي إطار من السوسيولوجيا الثقافية والأنثروبولوجيا التاريخية وحفريات المعرفة والسيميائيات والتفكيكية والنقد الثقافي ودراسات الجندر ودراسات التابع ونظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي… إلخ.

شهرزاد ترحل الى الغرب

وقد أفادت المرنيسي، دون تفريط في مرجعيتها الإسلامية، من هذا الإحكام النظري الهائل في الجبهات التي خاضت فيها وضمنها “حفرياتها” في التراث الغربي من خلال كتابيها “شهرزاد ترحل إلى الغرب” و”هل أنتم محصّنون ضد الحريم”؟ غير أنه لا ينبغي أن ننخدع بالعنوان الظاهري لكتاب “شهرزاد ترحل إلى الغرب” الذي ظهر أوّل مرة باللغة الفرنسية تحت عنوان مغاير هو “الحريم والغرب” (Le Harem et l’Occident) (2001). أجل إن الغرب هو المختبر، في حال الكتاب، إلا أن المنطلق هو الشرق ذاته، والغاية هي فهم تعامل العرب مع تراثهم كذلك. على أن هذا لا يحول دون التشديد على أنها تدرج شهرزاد ضمن مقولة “الحريم” التي تفيد على مستوى استخلاص أهم مقولات الثقافة ومستندات التصوّر بخصوص المرأة في الشرق والغرب على حد سواء. ومن هذه الناحية سيتواصل “التشويه”، الذي طاول الحريم في الشرق، داخل الغرب لكن بصيغ أخرى مغايرة ذات صلة بأنساق الثقافة الغربية ذاتها. وحصل ذلك ابتداءً من القرن الثامن عشر الذي يؤرّخ لميلاد التنوير في أوروبا أو “ثورة التنوير السلمية” كما يصطلح مؤرخون فرنسيون عليها. وقد تمّ تصريف “النظرة”، في إطار أشكال من “التمثيل” (Représentation)، ومن خلال شبكة من المفاهيم (الفكرية) حرصت المرنيسي على جردها وتفكيك مرجعياتها الأساسية ومقولاتها المركزية.

ومن هذه الناحية تميّز المرنيسي، في “شهرزاد ترحل إلى الغرب” (ترجمة: فاطمة الزهراء أزرويل)، وفي سياق المقارنة بين الحريم في الشرق والحريم في الغرب، وبما تستلزمه المقارنة من عدة منهجية وشبكة مفاهيمية، بين “الحريم المتوهَّم” [أو “التخييلي”، كما نسميه] و”الحريم التاريخي”. وتشير إلى أن الحريم الشرقي يحيل على سياق تاريخي وواقع معيش، وقد استمرّ إلى عهد قريب قبل أن يفكّـك نهائياً في العقد الأوّل من القرن التاسع عشر خلال حكم الإمبراطورية العثمانية على عهد السلطان عبد الحميد الثاني. ففي نهاية العام 1909 أنهت “حركة الشباب الأتراك”، بقيادة أتاتورك، الحريم في تركيا؛ بل أجبرت السلطان على أن يتخلّى عن حريمه (الإمبراطوري) (ص126). هذا وإن استمرّ الحريم في شكله العائلي فيما بعد.

حريم الشرق

أما الحريم في الغرب فهو “متخيَّل” (كما أسلفنا قبل قليل)، نتيجة تعرّضه لـ”تشويه” محكم ومقصود ومستثمَر. فـ”الحريم بالنسبة إليهم [الغربيين] يرتبط بالجنس والإباحية، ولا علاقة له بحريم الشرق البتة” كما تقول المرنيسي جازمة (ص24). وقد تحقّق ذلك، ابتداءً، من خلال الفن… وتعيينا من خلال رسّامين ــ نعدّهم ــ عالميين مع أنهم كانوا يخدمون ماكينات الاستشراق بمقولاته ذات الصلة بمهام القولبة والتنميط والتلفيق… والتخييل. ومن ثم تركيز لوحات/ أعمال ماتيس أو أنجر أو بيكاسو… على الشهوانية والفراغ والعري… إلخ. ثم إن ما أقدم بيكاسو عليه، بين سنة 1954 و1955، من  رسم لأربعة عشر مشهداً للحريم، إضافة إلى رسومات عديدة، هو بمثابة تنويعات بشأن لوحة دولاكروا [الشهيرة] التي تحمل اسم “نساء الجزائر في بيتهن”؛ كما تذكّرنا المرنيسي. ويمكن تلخيص الأعمال بأكملها في الحرص على الاستجابة للعصر من منطلق “خلق تكامل بين الفن والتطبيق في الحياة” وتأكيداً لمبدأ “الرغبة البيضاء” التي تقع ضمن خطاطة “نحن والآخرون” في إشارة إلى أحد عناوين تزفتان تودوروف (T.Todorov) في مرحلة تحوّله إلى النقد الثقافي. والعلاقة، كما يشرح تودوروف، بين “نحن” (باعتبارها مجموعة ثقافية واجتماعية) و”الآخرين” (الذين هم غير جزء منّا) قوامها التأكيد على التراتبية العرقية وتمجيد الاستعمار وليس الإقرار بالوحدة البشرية التي تقرّ بتنوّع الشعوب (الطبعة الفرنسية، ص12، ص57، ص1959).

وتلفت أنظارنا الباحثة السورية رنا قباني، في كتابها “أساطير أوروبا عن الشرق ــ لفّقْ تسدْ” (ترجمة: صباح قباني)، وفي حال ديلاكروا الذي كان له أبلغ التأثير، أنه “في عام 1833 زار ديلاكروا المغرب فأوحى إليه بسلسلة من اللوحات كان منها لوحة (نسوة من الجزائر) إلا أن صورة الشرق المطبوعة في ذهنه ظلت ترفده بالمواضيع حتى بعد أن جاء إلى الشرق وعرفه عن كثب. وقبل وفاته بثلاث سنوات كان لا يزال منكباً على مواضيع من ألف ليلة وليلة حسبما كتب في إحدى يومياته المؤرّخة في 23/12/1860″ (ص119). فديلاكروا، هنا، لا يكترث بـ”المغرب الجغرافي” أو بـ”الجغرافيا الثقافية” للبلد؛ فما يهمّه هو “الجغرافيا التخييلية”، ومن ثم منشأ تسمية “مغرب ديلاكروا” في عالم خطاب الاستشراق الفني. والمسألة، في عمقها، هي مسألة نسق فكري يقع في واجهة “عمارة الاستشراق”.

مقالب التنميط

والمسألة أيضاً هي مسألة “تقاليد الاستشراق ومكتبة الأعراف والأفكار المقبولة” بتعبير ناقد الاستشراق الأبرز إدوارد سعيد، وعلى النحو الذي يوسّع من دوائر الاستشراق وفي المدار ذاته الذي يطرح إشكالية “الموقف الغربي” أو يسرّب الموقف نفسه حتى في اللوحة الفنية التي توحي بالانغماس في الفن الممزوج بالاستعادة والإعجاب.

فإبقاء النساء مسترخيات وخالدات، على آرائك الحريم، وسجينات وعاطلات، وفي حالة من العريّ والإثارة، في حين أنهنّ في الواقع كنّ حرّات ونشيطات ومناضلات كما تقول المرنيسي، هو من باب مقالب التنميط أو التلفيق المنتظم في الاستشراق الفني المنتظم بدوره في خطاب الاستشراق الكبير. وعناوين الكتب، التي تصل ما بين النسوية والاستشراق، في حال الشرق، ومن منظور “أسطورة الجنس” وفي المدار ذاته الذي لا يتغافل عن “محتويات” اللوحة، كثيرة.

وحتى ننتقل إلى موضوع آخر، في سياق التأكيد على التحوّل الذي لا يمسّ جذر الثابت، تشير المرنيسي، في كتابها “هل أنتم محصنون ضد الحريم؟” (ترجمة: نهلة بيضون)، إلى أن ماتيس جمع ثروته من “الحمّى الحريمية” وعلى وجه التحديد في وقت كان الركود الاقتصادي فيه يجبر الناس على التقشف. ولم يتزحزح الوضع إلا مع ظهور آلة التصوير، في أواخر القرن التاسع عشر، حيث ستمكّن من استنساخ لوحات المحظيات بعد أن كان لا يقوى على اقتنائها إلا الأثرياء في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر. لقد وجّهت الآلة ضربة قاسية لتجارة الفن المزدهرة بالنسبة إلى الكثير من الفنانين، لأنها أتاحت تقليد أعمالهم واستنساخها (صص 43 ــ 46). لكن هل كان هناك من تحوّل مرافق لظهور الصورة الفوتوغرافية على مستوى الخضوع لغول الاستشراق؟ ومتى كانت التقنية بريئة؟ ومنْ يرى منْ؟ وقبل ذلك من الذي يرى؟ عين الكاميرا أم عين الإنسان؟ تجيب الباحثة السورية رنا قباني، في كتابها سالف الذكر، وبما يؤكد على استرسال الاستشراق، قائلة: “فالمصوّرون الفوتوغرافيون الأوائل الذين صوّروا الشرق الأدنى (بونفيس Bonfils بخاصة) قدّموا للمشاهدين نسوة جميلات (من بدويات ويهوديات وأوروبيات بملابس شرقية) في أوضاع تشكيلية تظهرهن كما لو كنّ حظايا في حريم السلطان وذلك كي يربطوا ما بين تقنياتهم الفوتوغرافية حديثة العهد ولوحات الرسامين الاستشراقيين” (ص147). فالأمر يتعلّق باستغلال كل ما هو متاح، من أدوات، من أجل أداء المهمة ذاتها.

المحظيات

القضية، هنا، هي قضية غرب في مقابل شرق لا يمكن التشابك معه إلا عبر التخييل والتنميط… وعلى نحو يفضي إلى إعادة إنتاج أو حتى اختراع الشرق. ولذلك كانت اللوحات الفنية حريصة على “إيقاف الزمن” طالما أنها توحي بأن لا شيء تغيّر في الشرق، وأن الشرقيين لا يحلمون البتة بالإصلاحات أو بالحداثة، وقبل ذلك هم “مشاكل يتعذّر حلّها”. وحصل ذلك كلّه مع أن المجلات التركية، منذ الثلاثينيات (من القرن المنصرم)، كما تستدل المرنيسي، كانت تبرز صور طالبات جامعة أنقرة وهن يرتدين الزيّ العسكري. وفي سنة 1930، وكما تسميها المرنيسي، كانت صبيحة كوكسن (وهي أوّل قائدة طائرة تركية) تصوِّر من على متن طائرتها. وخلال العقد المذكور بأكمله، كانت المحامية ثريا أكواكلو ترافع داخل المحاكم التركية (“شهرزاد ترحل إلى الغرب”، ص174). وتضيف الكاتبة السورية علياء تركي الربيعو في مقال “حادثة كولونيا”.. ثقافة ذكورية لا إسلامية” (متداول في شبكة الاتصال الدولي): “ومن أكثر نقاط التحوّل إثارة للانتباه ــ إن لم يكن للسخرية ــ أنه مع إتمام الفنان الفرنسي المشهور ماتيس لوحته المعروفة بـ”المحظية ذات السروال الأحمر” عام 1928 (تخصّص في رسم المحظيات فقط)، كان كمال أتاتورك يغيّر وجه تركيا، ممهّداً الأسس القانونية لثورة نسوية حقيقية؛ حيث قام بإصلاح قانون الأحوال الشخصية عام 1923 وحظر تعدّد الزوجات عام 1925″.

في تلك الفترة، كما تواصل المرنيسي ساخرة هذه المرة، “كان يجب فعلاً الذهاب إلى باريس للعثور على حريم للبيع”. فهذا الحريم كان لا يوجد إلا في لوحات مواطني الجمهورية الفرنسية. ومن ثم منشأ “الحريم التخييلي”. والمفارق، كما تلخّص، أن هذا الوهم، الذي يتخيّل النساء في الحالات السابقة، غائب تماما عن اللوحات التي أنتجها فنانو الشرق أو فنانو “شهرزاد الأخرى”؛ مما يستلزم، في نظرها، فهم التداخلات والإسقاطات النفسية بين أمرين يضاهي أحدهما الآخر غموضا: الخوف من الجنس الآخر ، والخوف من الثقافة الأخرى أو “العرق والثقافة” تبعا لعنوان الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي شتراوس.

فشهرزاد، المذهلة، التي أرجعت علوم الأواخر إلى علوم الأوائل وضمّت علوم العجم وعلوم العرب، وقرأت أمهات الكتب وطالعت المصنفات وأدركت الحكمة والمنطق، وحوّلت شهريار من شخص دموي غاصب وحانق وحاقد ومجنون… إلى إنسان ودود ومفارق للدم والكراهية… بسبب إستراتيجيتها المضادة والباهرة التي استمدتها من الثقة في الذات ومن الجمع بين العلم والذكاء ومن الوعي بخواء الخصم ذاته عدا من ناحية الإصرار على إراقة الدم، ستصير محطّ “رؤية دونية” في لوحات فنانين غربيين… وذلك كله في سياق أوسع هو سياق “الجغرافيا المجنسنة” (من الجنوسة أو الجندر (Gender) التي تغرق الشرق في الجنس أو أسطورة الجنس على نحو ما يمكن أن نتعمّق في كتاب “الاستشراق… جنسياً” لصاحبه الباحث التركي إرفن جميل شك. والمؤكد أن وراء ذلك تهيّؤات واستراتيجيات ومصالح وأغاليط… إلخ.  وتحتج سهير القلماوي (المشار إليها أعلاه)، في المدار ذاته الذي يشرك الرسوم في الجغرافيا نفسها قائلة: “فما هكذا كانت شهرزادنا في مقدمة الليالي؛ بل ما هكذا كان شهريارنا أيضا. إن شهريار لا يقتل عذراء كل فجر لأنه منهوم جنسيا كما خيّل إلى الغرب، لاستعدادهم إلى أن ينبهروا بموضوعات الجنس أيام ترجم جالان لهم الليالي. ونظرة إلى طبعة “مرديروس” مثلا لليالي وازدحامها بالصور الجنسية المثيرة عنوان على نظرة الغرب تلك”.

تفكِّر ولا ترقص!

وكان من المفهوم أن تتحدّد مرجعيات الحريم في التصوّر الغربي من خلال الفن، لأنه كان “البوابة” التي اطّلع من خلالها الغربيون على الحريم الشرقي. إلا أنه سرعان ما ستتسّع دوائر التنقيص، والتنميط، بانضمام المسرح إلى “المهمة الاستشراقية التنقيصية” ذاتها حين سيختزل شهرزاد في الرقص في العروض. تقول المرنيسي (ومن موقع المعاينة وفيما يدل على الماضي الممتد في الحاضر وعلى صنف من “الاستشراق العملي”): “فوجئت بأن شهرزاد في عرض الباليه في برلين كانت ترقص باستمرار، كنت انتظر منها أن تتوقف عن الرقص بين فقرتين وتروي إحدى الحكايات التي خلدتها على مرّ العصور”. وتوضّح المرنيسي: “شهرزاد الشرقية لا ترقص ولكنها تفكّر وتتحدث، إنها تنسج حكايات بالغة الجمال بواسطة الكلمات، إلى حد أن زوجها يفقد الرغبة في قتلها […] وإذا ما رقصت تفعل ذلك أثناء الليل في إطار لعبة تدعى السمر” (“شهرزاد ترحل إلى الغرب”، ص57).

وما يقال عن المسرح، من ناحية ارتكازه على “بيلدوزر التلفيق”، في ما يخصّ شهرزاد دائما، ينطبق على السينما التي هي بدورها فن آخر جذّاب ومؤثّر. وتكتمل دائرة “التواطؤ” بالكتابات التي اتخذت من “ألف ليلة وليلة” موضوعا لها. فالوظيفة ثابتة فيما الأداة مختلفة.

وكانت الحصيلة، الثقيلة، هي عرض”صورة مجرَّدة” من أخصّ خاصيّات شهرزاد التي هي “العقل والذكاء”. وفي جميع الأحوال، سواء تعلق الأمر بالرسم أو بغيره من أشكال التعبير والكتابة، فإن آليات الاختزال والقولبة والتكييف… تظل هي هي. وتظل متحكّمة في جميع هذه الأشكال وفي إطار من “الرؤية الاختزالية” (اللاهبة) نفسها.

________

*ضفَّة ثالثة.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *