عمتى فاطمة


سهير المصادفة


    دائمًا ما يكرر مجدي ما كانت تكرره أمي بأنني أشبه عمتي فاطمة، أحاول أن أجد الشبه الذي يتحدثان عنه بيننا، ولكنني عادة أفشل، فعمتي فاطمة لم تتعلم أبدًا، بل هي لم تدخل حتى المدرسة، وإنما ذهبتْ لبعض الوقت إلى كُتَّاب القرية، ثم تزوجتْ وعمرها ستة عشر عامًا ونسيتْ كلَّ ما تعلمتْه أثناء تنظيفها بيت عائلتها الكبير، ثم كلَّ المنازل التي تزورها ولو في زيارة قصيرة، نسيتْ قصار السور التي تعلمتْها في الكُتَّاب، وهي تُعدُّ طواجن الأرز المعمر والحمام المحشو بالفريك والفطير المشلتت وبرطمانات مخلل لا حصر لها توزِّعها كهدايا على الأهل والأحبة، وأصابع محشو ورق العنب الصغيرة بحجم بلح الأَمْهات، كانت أمي تتأملها وتحملق في أصابع ورق العنب الملفوفة، ثم أصابع يدي عمتي القصيرة العريضة وتردد بدون توقفٍ: 


ــ والله، شيء عجيب، أن تلف الواحدة أصابع ورق العنب بهذا الحجم الصغير، لهو هدف حياة في حد ذاته، هه!

كنت أعرف أن عمتي فاطمة جاءت لزيارتنا من المنيا، وأنا أصعد درجات السلم وأشم رائحة طعامها، بل أتعرف على نوعه وأنا ما زلت في الدور الأوَّل، أدخل من الباب وأنا أكاد أصرخ:

ــ فتة عمتي فاطمة.

فوجئت ذات يوم بدموعها حين شكت لي معايرة أمي لها بجهلها وبأنها حتى لا تحفظ سورتين قصيرتين من القرآن الكريم لكي تصلي بهما. مسحتُ دموعها وأغلقت غرفة نومي عليها لمدة يومين غبت فيهما عن المدرسة، وكانت هي مثل الأطفال الصغار تحاول الهروب من آن إلى آخر متذمرة:

ــ يا بنتي، والله عيب، وقت الغداء، يتغدوا إيه يعني؟

أتيت لها بساندويتشات من المُتاح في المطبخ ولم أفتح لها الباب لكي تعود إلى زوجها وأولادها في المنيا إلا وهي حافظة لكلِّ قصار سور القرآن الكريم، وبعد نجاحها في أن تصلي بنا كإمام قبل سفرها فجرًا بدقائق، قبلتْ عمتي فاطمة كلتا يديَّ، وعندما سحبتهما مستنكرة وأنا أقبل رأسها، قالت لي:

ــ معلوم، مَن علمني حرفًا صرت له عبدًا، فما بالك بمَن علمتني كلمات الله!

ثم ضيقت عينيها كعادتها ومصمصتْ شفتيها، ولم تنس قبل خروجها بثوان أن تلمز أمي:

ــ سبحان الله، يخلق من ظهر الفاسد عالمًا، كنتِ علمتيني بدل ما تعايريني يا لولا.

قضت عمتي فاطمة معي فترات طويلة، تذهب إلى المنيا لرؤية الأبناء الذين تزوجوا كلهم، وتقول لهم وهي ترتدي ملابسها وتودعهم:

ــ أنا نازلة مصر، أطمئن على عيني عند الدكتور، وأطل على الغلبانة اليتيمة.

كنت أتركها وحدها أثناء رحلاتي الخارجية والتي قد تمتد إحداها لعشرة أيام، وذات أمسية أثناء العشاء، وكانت عمتي قد طبخت لمجدي ما يُطعم قبيلة كاملة؛ لأننا سنأكل ثم سيأخذ معه نصيبه من طواجن الخضار والأرز المعمر والحمام المحشو فريك والبط بالبرتقال والعيش الشمسي إلى بيته… فجأة توقف مجدي عن مضغ طعامه وعمتي تحكي لنا أنها لا تأكل دائمًا وحدها وأن «بسم الله الرحمن الرحيم» يأكلون معها كلَّ يوم. أتذكر أنني كنت أدخل المطبخ فأجد عمتي فاطمة تحدث نفسها وهي مخوصة عينها:

ــ يحبون الزبادي جدًّا، يا عيني…

وكنت لا أهتم كثيرًا ولا أعلق على الكثير مما تقوله ، أنتبه إلى صوتها المستنكر وهي تعنف مجدي:

ــ لا هوّ انت فاكر إن احنا عايشين في الدنيا لوحدنا يا مجدي، معلوم فيه أرواح، ومعلوم زي ما فيه إنس فيه جن، الله، ده قرآن يا ناس.

ينظر مجدي إلى الباب، ولا يرد عليها، يُغير موضوع العفاريت حتى لا يُغضب عمتي، ويسألني عن موعد طائرتي غدًا، ويتمنى لي رحلة سعيدة.

ولما تأكد مجدي أن طائرتي أقلعت، ركن سيارته على بعد شارعين من بيتنا، وتسلل داخلاً دون أن يراه البواب وزوجته وأولاده العَشرة، فتح الشقة بمفتاحه في وقت قيلولة عمتي فاطمة، ودخل إلى حجرته القديمة وبات يومين معها دون أن تشعر بوجوده، ومع ظهيرة اليوم الثالث أمسك مجدي طوق جلباب إسماعيل البواب وهو يخرج من المطبخ حاملاً كلّ ما لذ وطاب، وأجبره أن يحكي له الحكاية، والحكاية بدأت ذات يوم عندما أرسلت عمتي فاطمة إسماعيل البواب ليشتري لها طلبات من السوق، وعندما أحضرها طلبت منه توصيلها إلى المطبخ وذهبت هي إلى غرفة النوم لتحضر له النقود، ويبدو أن رائحة نصف صينية البطاطس باللحم الضاني دوَّخت إسماعيل البواب، فوضعها في كيس من أكياس القمامة وأخفاها في جلبابه وسمعها قبل أن يغلق الباب خلفه وهي تنظر إلى الصينية الفارغة وتقول:

ــ بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم احفظنا من شرّكم، بالهنا والشفا يا أسيادنا.

في اليوم التالي وبالطريقة نفسها عمل نسخة من مفتاح الشقة وأعاده إلى مكانه على الكونسول بجوار الباب، ثم حفظ مواعيد نوم عمتي فاطمة الثابتة أثناء النهار والليل، وأخذ يتسلل أثناءها إلى المطبخ، ويطعم زوجته وأولاده العشرة مما تطبخه، بينما تواصل هي التمتمة بينها وبين نفسها:

ــ ياعيني، بيحبوا ورق العنب جدًّا.

لا يترك مجدي إسماعيل البواب يغادر العمارة قبل أن يصحبه إلى قسم الشرطة إلا بعد توسلات عمتي فاطمة بأنها سامحته وأنه عليه أن يسامحه.

يصرخ مجدي في وجهها ثم يقهقه حتى يستلقي على ظهره:

ــ يا عمتي حرام عليكي، طيب بالليل فهمناها، لكن عفاريت تطلع بالنهار وتسرق الأكل ساخنًا خارجًا لتوه من الفرن.

ويواصل مجدي الضحك، بينما تقول عمتي وهي تخوص عينها: ــ كنت عارفة، هه، يعني هي فرقت كتير، أهم كلهم عفاريت في قلب بعضيهم.

بعدها ظل سامي زوج عبلة يضحك وهو يسألها:

ــ يا عمة، طيب ما شمتيش رائحة سجائر مجدي وهو مستخبي هنا ليلتين؟

فيقهقه مجدي:

ــ يا عم سامي، ما هي العفاريت بتدخن كمان. ده أنا فكرت إني أحط بطانية على رأسي وأروح المطبخ وأقول لها خليها ملوخية النهارده يا «حاجة».

ونغرق في الضحك بدون توقف، ومجدي يزغزغ أحمد مقلدًا صوت عمتي فاطمة: أهم كلهم عفاريت في قلب بعضيهم. بينما تشيح عمتي فاطمة بيدها اليمنى غاضبة وابتسامتها الطيبة على فمها، وتضع يدها اليسرى على ما كانت عينها اليسرى.

قبل موت زوجها سيد بعامٍ واحد فقع لها عينها اليسرى. وزوجها سيد هذا كان يجلس طول الليل وجزء من النهار وفي يده الشيشة وغلام يروح ويجيء له بالفحم المشتعل، والطعام واللب والسوداني، ويخدم ضيوفه الذين لا تفرغ منهم المندرة. وبعد المغرب في إحدى ليالي الربيع وبالضبط منذ عشرة أعوام، كانت تتعالى ضحكات سيد وضيوفه مع الهواء العليل، حيث أخبرهم بأنه يفكر في الزواج من صبية صغيرة تجدد شبابه وترم عظامه المتيبسة، فقهقهوا بصوت عالٍ مهللين: والله عندك حق يا عم الحاج. وطبعًا سمعته عمتي فاطمة، وأثناء ذهابه إلى الحمام ومروره على المطبخ الذي لا تفارقه كعادتها استمع إلى قهقهات قريباته اللائي يفترشن معها الحُصر في المطبخ الواسع الذي تساوي مساحته غرفتين من غرف شقة الزمالك، فقرر سيد أن يتوقف لينصت لحديثهن، واستمع إلى عمتي فاطمة وهي تضيق عينيها ودون أن تبتسم أو تضحك كعادتها تقول:

ــ يا أختي، اللي أخدته القرعة تاخده أم الشعور.

ومع نهاية قهقهات النسوة زمجر الحاج سيد مناديًا عمتي فاطمة زوجته وابنة عمه في الوقت نفسه:

ــ فاطنة…

وهو عندما يزمجر باسمها هكذا دون أن يناديها بـ «أم حسين»، اسم ابنهما البكري، فهي تعرف على الفور أن ثمة كارثة تنتظرها، ألقت ما في حجرها على رءوس النساء، وهرولت إليه عند باب المطبخ، فقال لها بهدوء:

ــ أنتِ طالق، وعلى بيت أبيك.

تعرف عمتي فاطمة أن كلمة زوجها واحدة، وأنه لا جدوى من مناقشته، فارتدت الملس الأسود وتبعتها النسوة وهنَّ يُحسبِنّ ويدعونَّ عليه أن ينشك في قلبه، وانقلبت قهقهاتهنَّ إلى دموع.

ظلت عمتي فاطمة مطلقة في بيت أبيها لمدة شهرين حتى أكل الأهل والجيران وأولادهما وجه الحاج سيد، فوافق أن يردها خصوصًا وأنها طلقته الأولى. ذهب بنفسه ليردها إلى بيتها معززة مكرمة حاملاً هدايا لبيت عمه، ثم اعتذر لأصحابه عن استضافتهم في المندرة هذه الليلة ليلتفوا حول الشيشة والكلام في السياسة وحكايات القرية، وتقريبًا طرد الجميع من البيت بمَن فيهم أولاده حيث سرَّحهم لدى أعمامهم وأوعز إليهم بالمبيت هناك. وفي الوقت الذي كانت تتغامز فيه نساء العائلة بأن الحاجة فاطمة ليلتها حمراء الليلة، ثم يضحكن فرحات بانقشاع الغُمة، دخل الحاج سيد إلى المندرة وجلس على كرسيه المفضل، بينما حضَّرَتْ له عمتي فاطمة الحمام المشوي والأرز المعمر والخيار المخلل والسلطة الخضراء وشوربة لسان العصفور، وظلت جالسة على الحصير في المطبخ حتى يدعوها لترفع صينية العشاء بعد أن ينتهي من طعامه لتأكل هي، ودعاها بالفعل بزمجرته المعتادة، فهرعت إليه وهي تتعثر في جلبابها من شدة الخوف وهي تسمع زمجرته باسمها هكذا:

ــ يا فاطنة، ولعة. أحضرت له المنقد ممتلئًا بالفحم، وركعت تحت قدميه لتضعه إلى جواره على الأرض، فما كان منه إلا أن رفع المنقد الكبير برماده الساخن الذي يزن نصف الكيلو، وناره الموقدة والماشة الحادة التي تعتليه بنصليها اللامعين كما سكينين مسنونين، وألقاه في وجهها، ارتشق أحد نصلي الماشة في عيني عمتي فاطمة اليسرى، ولم ينتبه هو إلى أن الماشة بقيت في عينها وهي مستلقاة على ظهرها بعيدًا حين حاولت الهرب من المنقد، بل صاح وهو ينهض من كرسيه خارجًا من الدار كلها:

ــ كده خالصين يا فاطنة. نورتِ بيتك ومطرحك.

في مستشفي المنيا العام قالوا إن عينها اليسرى اتصفَّت. وعملوا لها الإسعافات الأولية اللازمة، وبقيت في المستشفى عشرة أيام، وعندما زارها الحاج سيد قبَّل رأسها وأجهش بالبكاء وقال لها أمام بنات العائلة اللائي يخدمنها:

ــ سامحيني يا بنت عمي، ساعة شيطان وراحت لحالها.

ولكنها أشاحت بوجهها لتنظر إلى الحائط حتى خرج من المستشفى، وأقسمت ألا يراها مرة أخرى بعين واحدة، وبالفعل لم تره أبدًا من يومها ولم تعد إلى بيتها إلا يوم موته.

في مستشفي المنيا العام حكت لها زينب بنت عمها أنها نادت عليها أكثر من مرة على باب المندرة باسم ابنها الأكبر حسين، ولكنها صمتت عندما استمعت إلى أنينها الذي يُشبه مواء قطة لم ينجح ولدٌ صغيرٌ في نحر عنقها من الوريد إلى الوريد، فجرتْ إليها بصرخة فتحت البيوت وأدارت موتور سيارة ابن عمها الكبير، وأغمضت زينب عينيها ونزعت الماشة فانطلقت الدماء لتملأ أرضية المندرة، وحملوها فاقدة الوعي وهم يحوقلون ويسألون عن مكان زوجها سيد ليخبروه أن الحاجة فاطمة قد أصبحت عوراء.

عندما أخبروا أبي هاتفيًّا اسودَّ وجهه، ولم يخبرنا بما حدث، فقط أخبرنا بأنه مسافر الآن إلى المنيا، وطلب منا أن نخرس كلنا ولا نسأله عن شيء. جهزت له أمي حقيبة صغيرة وهي صامتة، للمرة الأولى خوفًا من غضبه، وشدت لجام فضولها حتى وهي تفتح له الباب مودعة ومقبلة وجنتيه ومتمنية له السلامة.

ــ سليمة يا حبيبي، سليمة إن شاء الله.

ولكنها قبل أن يصل المنيا وبعد نصف الساعة قضمت فيها أظفر إصبعها الصغير كاملاً حتى أدمته، طلبت أكثر من تليفون في بيوت عائلة التوني، تطلب وتنتظر حتى تستمع إلى الجانب الآخر ثم تغلق السماعة فورًا عندما يأتيها صوتٌ لا تريد أن تكلمه، وبعد عدة محاولات تكلمت بلهفة، واقتربنا منها أنا ومجدي لننصت ماذا حدث هناك:

ــ ازيك يا حبيبي، انت ابن زينب؟ آه، وهي فين؟

فهمنا يومها أنها ضحكت على ابن زينب الأصغر الذي يحب الكلام في التليفون ويعتبره لعبته المفضلة، فأخبرها أن أمه في المستشفى مع العمة فاطمة، وهكذا حققتْ مرادها بأن تعرف ماذا حدث دون أن تقول له طبعًا مَن هي.

أعادت السماعة إلى مكانها وعيناها تتسعان من الرعب وهي تردد دون توقف:

ــ يا نهار أسود، يا نهار أسود، استر يا رب، يا رب استر.

لم أبكِ بحرقة في حياتي مثلما بكيت يوم وصول أبي وهو يمسك بذراع أخته عمتي فاطمة ويدخلها بعد عشرة أيام من الحادثة، جرت عليها أمي وللمرة الأولى أراها تحتضنها بكلّ هذا الحبِّ، قبلت رأسها الذي ضغطته في صدرها، وهي تبكي مثلي بحرقة:

ــ الهمج. الهمج. يا حبيبتي يا فاطمة، يا حبيبتي يا أختي.

لم أر قبح عين مفقوءة مثل قبح عين عمتي فاطمة اليسرى، عينها التي كانت سوداء كحيلة تم تشويهها تمامًا، وليس فقدانها البصر فقط، فإضافة إلى نصل الماشة كوت قطعة فحم ملتهبة الجفنين فألصقتهما إلى الأبد بجلد أسود متفحم أحيانًا، وأحمر أحيانًا، وأحيانًا أخرى أبيض كأنها مصابة بالبرص. عندما رأى أبي ابن عمه وزوج أخته سيد جالسًا على باب المستشفى بعد أن طردته عمتي، لم يُحيّهِ ولم يكلمه، عرف أن عمتي فاطمة كذبت في محضر النيابة وادعتْ أنها وقعت على المنقد وحدث ما حدث، وإن الله قدر وما شاء فعل. قبَّل رأسها وأخذها في حضنه وبكى وبكت على صدره بعينها الواحدة، عرض عليها أن يطلقها منه، فقالت: يا عيب الشوم يا أحمد، أطلق من «أبو ولادي»! يعني هو أنا هتجوز تاني، حد الله بيني وبينه، لكن طلاق لا، الله يسامحك يا أخي. فوافقها أبي قائلاً: أمرك يا فاطمة.

ولكنه حلف بأغلظ قسم وبالطلاق أنه لن يتركها في المنيا يومًا واحدًا، ولن يعود إلى بيته إلا وهي في يده.

يومًا بعد يومٍ يعتاد المرء على ما لم يتصور أن يعتاده أبدًا، وهكذا اعتادت عمتي فاطمة شكل عينها المشوه في المرآة واعتدناه كلنا ونسينا كلَّ شيء عن المنيا ومَن فيها وأولادها الخمسة، فالجميع يعرف أن أبي قد أقسم وانتهى الأمر، وأبي الذي لا يعرف قلبه إلا المحبة وحلو الكلام كان لا يجرؤ أحدنا على التحدث معه عن افتقاد عمتي فاطمة لأولادها، ومطاردة أولادها لنا كلَّ يوم هاتفيًّا وهم يبكون، عن وضعها الغريب الذي لم يحدث من قبل في العائلة، أن تترك أمٌ أولادها هكذا.

آخر مرة أغلقنا بعدها الكلام في هذا الموضوع وإلى الأبد عندما اقتربت أمي من أبي وقالت له هامسة:

ــ لم أعد أحتمل دموع فاطمة النازلة من عين واحدة يا أحمد.

فصرخ كأنه يريد أن يسمع صراخه كلَّ المارين في شارعنا:

ــ إلهي يحرق الأولاد يا عبلة، ويحرق مَن خلفهم، ويحرقه هو وأهله كلهم كما أحرق عين أختي. واسمعي يا عبلة، إذا كنتِ لا تحتملينها، سأؤجر لها شقة. مفهوم. مفهوم. مفهوم…

وظل يكرر كلمة مفهوم حتى خفنا عليه أن يختنق بها ويموت. ومنذ هذا اليوم لم نر دموع عمتي فاطمة، بدون شكٍّ عودت نفسها أن تطلق دموعها حرَّة في الحمام، أو أن تخرّط المزيد من حبَّات البصل وهي تطبخ فيختلط علينا الأمر ولا نستطيع تمييز سبب دموعها الغزيرة.

بعد عام نسينا الموضوع برمته، وكان الحاج سيد يضع أولاده الخمسة في سيارته البيجو «السبعة راكب» مرة كل شهر، وينتظرهم على المقهى القريب من بيتنا وفي فمه لاي الشيشة الذي لا يفارقه، حتى يأخذهم في المساء بعد أن يأكلوا من يد أمهم عمتي فاطمة، هذا علاوة على إجازة نصف السنة وآخر السنة التي يقضونها معنا كاملة، ومن أجلهم فسحنا أبي فزرنا القلعة وحديقة الحيوانات وأهرامات الجيزة وصعدنا جبل المقطم وركبنا الحمير في القناطر الخيرية، وعادت البهجة إلى عمتي فاطمة، وعادت حكاياتها تملأ حجرتي، حتى إنني أكاد أجزم أنني ضحكت معها كما لم أضحك من قبل أبدًا وهي تحكي لي حكاية فقأ عينها بطريقة كوميدية. وعادت أمي تفتح الباب علينا عندما تسمع صوت ضحكتي العالية، وعادت عمتي فاطمة إلى عادتها القديمة تخوص عينها اليمنى، وتخبط بكلتا يديها على فخذيها وهي تقول برعبٍ حقيقي:

ــ وي. وي. الحقي، أمك، الهمج.

وعادت ابتسامة أبي الطيبة، وعاد يكتم ضحكته وهو يرمق أمي بنظرة جانبية وعمتي فاطمة تقول:

ــ معلوم، لا يمكن أن يكون حنونًا وعاطفيًّا مَن له حاجبان كثيفان. معلوم أنه لا يمكن أن يكون عاطفيًّا، طيب شفتِ حاجبي عبد الحليم حافظ الرفيعتين؟ طيب لماذا فشل مجدي وهبة أن يكون ممثلاً عاطفيًّا؟ معلوم، لأن حاجبيه غليظان ومقوسان.

تشيح أمي بوجهها بعيدًا عنها، وترفع ذقنها للسقف كعادتها، وتتحسس حاجبيها الجميلين الكثيفين بشعرهما البني الناعم، وتكتم تعليقها حتى لا تغضب أبي، ولكنها بعد دقائق لن تصبر حتى تدخل المطبخ لتلقيه في وجه عمتي فاطمة:

ــ وهذا المعلوم التافه، في أي مدرسة وبأي لغة تعلمته يا جاهلة؟

أروع ما في هذا العام بعد حادثة عمتي فاطمة أن كلتيهما امتنعت تمامًا عن الشكوى من الأخرى لأبي، فكنا لا نشبع ضحكًا على مواقفهما وشجاراتهما الصغيرة التي ينهيانها بمجرد دخوله البيت.

محبته لأخته فاطمة كانت تجعله يكرر الكلام الذي يقوله له زوجها عندما يتصل به هاتفيًّا، يرفع أبي السماعة ويستمع إليه لدقائق ثم يغلقها في وجهه من جديد، ثم يردد على مسامعها ما قاله بجملٍ عادة لا تتغير كثيرًا: اقتلني أرحم يا أحمد. أو أبوس رجلك ورجلها، أو ربنا بيغفر يا رجل، أو سايق عليك النبي سامحني وخليها تسامحني، أو سأضع جزمتها فوق رأسي يا توني، أو…

لا تجرؤ عمتي فاطمة على الرد ولا يجرؤ أحدنا طبعًا، فقط يردد لها كلامه كأنه أمانة، جميعنا يعرف ذلك، ثم يعود إلى مصحفه الكبير الذي يضعه على كرسيه المذهب ويفتحه حيث ترك العلامة الساتان الزرقاء ويواصل قراءة القرآن الكريم وكأن شيئًا لم يكن.

……………………………………………………..

فصل من رواية بعنوان «ميراثُ الجنون» تصدر قريبًا
( الأهرام )

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *