تحت المطر


بقلم: جان ماري لوكليزيو /ترجمة : د. محمد قصيبات



خاص( ثقافات )
جميلٌ ذلك المطر التي يساقط على المظلةِ المفتوحة. 
إنه ينقرُ في رقةٍ على النسيج المبسوطِ، قطرة ً بجانب قطرة، فتأتي من ذلك دقاتٌ غريبة …خفيفة ٌ وسريعة، دقاتٌ هادئة كأنها موسيقى رتيبة تأتي من السماء ِ للأرض فتصلج الشقوقَ قطرة بعد الأخرى في سرعةٍ وهدوء.
حين تسقط قطرات ُالمطر على مظلتك المفتوحةِ السوداءِ تحسّ كأنك لا تسمعها أو كأن ذلك يحدث في مكان آخر غير الفضاء.
إننا نشعرُ بالأمن تحتَ مظلاتنا. 
نحسّ ساعتها ببرودةِ الماءِ المهشّمِ على شكلِ غبارٍ يطفحُ فوق الريح… الغبار الذي يتسرب من أكمام القمصان ويدخلُ من أعناقها … 
يبلل غبارُ الماء أقدامَنا فنمشي متشنجين لا ننظر إلى أحدٍ من البشر.
من أين تأتي كلُّ هذه القطرات؟ إنها تشقق السماءَ السوداءَ، وتتوهج كاللؤلؤ على أوراق الشجر، وفوق زجاجِ العرباتِ فتمحوها مسّاحاتُ الزجاج لكن القطرات تعود غير مباليةٍ من جديد. 
مسّاحاتُ الزجاج جميلة أيضًا، وكذلك العجلاتُ التي تدور على الإسفلتِ المبلل ، لكن الأجمل من كل ذلك هي المظلات السوداء المفتوحة تحت المطر.
تتشبث القطراتُ برؤوس النساء فتبدو نيرة على شعرهِنّ الأسودِ الكثيفِ، وتتزحلق القطراتُ على وجوهِ الشيوخ، وعلى خدودهم وجباهِهم، وعلى أرانب أنوفهم وتتوقفُ لحظات عند حواجبهم. 
الطيورُ تبدو مشعثة الريش، والقططُ المسنة تقشعر من شدة البردِ تحت العرباتِ الواقفة، وتحتمي الكلابُ عند أبوابِ البيوت. 
نحن نرى كل ذلك من أطرافِ الأعين سائرين تحت مظلاتنا المفتوحة… 
نرى أشياءً غريبة ساعة المطر: نرى زجاجًا رخوًا ، ومصابيحَ تتحرك تحت الماء، ودلتا أنهار ٍ في الشوارع، وشلالاتٍ، وبحيراتٍ وسخة، وأوراقا تذوب… نرى أوراقَ الدعاية تنسلّ من الجدران، ونرى رجالا يشبهون السلاحف، ونساءً كأنهن الفقمة ، ودرجاتٍ نارية مستعجلة، وحدائقَ خالية، وجدرانا تفقد ألوانَها، وأباريقَ زنابق تُسقى من ماء المطر.، ثم… ثم هناك البخار… البخارُ الكثيفُ المنتشرُ في كل مكان؛ حول الأفواه، وعلى فترينات المحلات، وعلى زجاج العربات، وفوق مداخن البيوت، وعند فتحاتِ اسطوانات الانفلات… ذلك البخار الذي يشكل دوائرَ شاحبة حول مصابيح الشوارع فتظنها جيوشا من الناموس، أو ذلك البخار الذي يخرج من الحفر الغريبةِ وسط الشوارع… ونرى أيضًا الشجيراتِ التي تبدو في عزلةٍ على جانب الأرصفة والتي يتساقط المطر عليها فيبلل أوراقها، كما يتساقط على زهور الغاردنيا والأورطنسيا والبتونيا.
نعم تحدث أشياءٌ غريبة تحت المطر: يتموجُ الشعرُ وتظهر الخطوطُ على أطرافِ الأصابع، وتبدو الأصواتُ ساعة المطر بعيدة مكتومة وكأن الناس جميعا شرعوا يستعدون للنوم… هكذا وهم يسيرون.
يحدث كأن الناس جميعا أمسوا ساعتها صامتين وهادئين. 
**

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *