ليست صدفة أن تكون أمي وأن أكون أماً لها… إلى «سلمى»

*آية الأتاسي

إلى أمي: أتذكر ما قالته لي أمي يوماً: لماذا لم تكتبي عني أبداً؟
تذكرت هذا وأنا أحصي عدد المرات التي أجلت فيها رسائل الحب لأبي حتى مضى ولم يستلمها، لماذا إذن لا نكتب عمن نحب إلا بعد رحيلهم، نكتب عنهم ولا يقرأون…
هذه المقالة هي عن أمي ولها لكي تقرأها، فهي لطالما كانت قارئتي الأولى وأنا أكتب خواطري الطفولية.
بنكل في طفولتي كنت أحلم بأم تشبه أمهات القصص والأفلام، كتلة بشرية من حنان وحب، تفوح منها رائحة أطباقي المفضلة، ودائماً ذراعاها واسعتان لاحتضاني، وطرف ثوبها طويل بما يكفي للالتفاف حول يدي كي لا أتوه.
كل الأمهات جميلات ولكن أمي لا تشبه أياً منهن، فهي أجمل من أن تكون أماً وأوسع من أن تكون مجرد أم، ورغماً عنها تعددت أدوارها وكان علينا نحن أولادها أن نعتاد انتقالها المرن بين حنان الأم وصرامة الأب، في ظل الغياب القسري للأب والحضور العاطفي الشديد له. هي من صنف الأمهات اللواتي يستيقظن لتشرق الشمس على أكتافهن وتمتلئ عيونهن بحزن البنفسج، الذي نادراً ما يفضح دمعه، ويخبئه في البؤبؤ الأزرق كما تخبئ الطبيعة دموعها في البحر الأزرق. ما زلت أذكر أول مرة رأيت أمي تبكي فيها موت أحد الأقارب، كنت حينها طفلة وشعرت بخوف مباغت، فقد كنت أظن أن الأمهات قادرات فقط على مسح الدموع لا على ذرفهن، ولحظتها فهمت ألا شيء يوجع ولا شيء يهزم الانسان أكثر من دمع أمه.
أمي هي البداية ومعها كان أول الحياة وأول الوجع وأول الفرح، ولها كانت أول رسالة كتبتها في رحلة مدرسية صيفية، مسحت دمعتي وأغلقت المغلف، وتعجبت بعدها كيف رأت دموعي، وفهمت أن للكلمات عيونا تبصر وأنها لساني الآخر الذي يخاطب صمت أمي ويصل قلبها.
صارت الكتابة لغتنا السرية، أكتب وأكتب، وهي تنتظر ما لا أقوى على البوح به، فقد اعتادت على ابنة تتقن كتابة المشاعر لا قولها، ولم تعد تطالبني بالكلام، بل صارت تقرأ فواصل الصمت الطويلة، وكيف لا وهي ملكة الصمت بلا منازع.
تراقب الحياة بصمت وهي تمر أمامها، وكأنها جالسة في شرفتها تحتسي قهوتها بهدوء، قهوة مرة بما يليق بكثافة السائل الأسود وكثافة الحزن الدفين، هكذا كانت صباحات أمي الطويلة دائماً، وكما علمتني هي الفنجان الأول نشربه وحدنا في سكون أما الفنجان الثاني فهو للمشاركة والكلام. عرفت أنني نضجت للحياة وللقهوة معاً عندما أصبحت تضع فنجانين على الصينية وتنتظرني.
وعرفت أنني مضيت بعيداً في العمر، عندما بدأت أحضر قهوتي بنفسي كي أجالس معها صمتي، فكلما تقدم العمر ازدادت كثافة القهوة وطال الصباح وامتد الصمت.
وكما ورثت طقس القهوة هذا عن أمي ورثت عنها أيضاً حساسيتها المفرطة، وحتى مواضع الألم والكثير من الأمراض الوراثية، وما بقي عصياً على الوراثة، كالشكل الخارجي مثلاً، نقلته الجينات بأمانة مطلقة لابنتي وكأنني جسر العبور بين الجدة والحفيدة. ألمس ابنتي كما لو أنني ألمس أمي، أتقدم في العمر فأمسد تجاعيدها وأحصي ساعات انتظارها الطويلة، وكلما شعرت بالوجع تذكرت دموعها. وأصبحت بلا وعي أردد مع ابنتي عبارات أمي وكما كانت تقول أمي: وحدهن الأمهات يقلن الحقيقة، الحقيقة العارية من كل مصلحة أو غاية، فكل ما تفعله الأمهات يفعلنه باسم الحب وحده.
سلمى:
ليس فقط من باب العُرف والتقليد أن تأخذ ابنتي اسم أمي، إذ لا بد لرحلة الجينات من عنوان عريض هو اسمهما معاً «سلمى». «سلمى» الاسم الذي لشدة جماله يتكنى به حتى الرجال حتى لو لم يكونوا آباءً، كالشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي الملقب بأبي سلمى، وسلمى ما هي إلا فتاة أحبها حتى ارتبط اسمه باسمها. و»سلمى» هي الحبيبة التي تغنى بها الكثير من الشعراء، وكأن لكل شاعر سلماه، التي إن لم توجد اخترعها وأطلق عليها «سلمى».
كما كتب الشاعر الجاهلي المرقش يشكو أرقه بسبب حب سلمى:
سرى ليلاً خيال من سليمى فأرقني وأصحابي هجود
فبت أدير أمري كل حالٍ وأرقب أهلها وهم بعيد
وكذلك كتب شمس الدين البديري عن سلمى حبيبته:
خيال سلمى عن الأجفان لم يغب وطيفها عن عياني غير محتجب
فإن نأت أو دنت حبي كما علمت تشيب فيه الليالي وهو لم يشب
وكتب غيرهم الكثير من الشعراء عن سلمى، حتى في الغناء كان لسلمى نصيب من «سلمى يا سلامة» إلى «أرى سلمى بلا ذنب جفتني».. ربما يعود هذا إلى سلاسة الاسم ورقته تغوي بالشعر والموسيقى والحب..
السين: وكأنها السرة وذلك الحبل المقطوع الطرفين بين بدايتي وبداية ابنتي.
اللام: الذراع المدودة أبداً لترفع الهم عن أكتافنا والسكون في الوسط لكي نبطئ الخطى ونتأمل عمق المعنى.
الميم: أول الأحرف وما يسهل على الرضيع نطقه «ماما»، وحرف المتعة بكل اللغات.
الألف: التي تتكور كرحم أم.
«سلمى» ليست صدفة أن تكون أمي وأن أكون أماً لها.

مفاتيح أمي:

لا شيء يشبه صوت امي عندما تناديني باسمي الذي اختارته بنفسها، ولا شيء يشبه صوتي عندما أنادي ابنتي «سلمى»، وكثيراً ما تختلط عليَّ الأمور بين وجه أمي ووجه ابنتي، وأحياناُ أشعر بأن ابنتي أمي وأمي ابنتي وأنا تائهة بينهما. وأحياناً أراني في وجه جدتي، التي لا أعرفها إلا من روايات أبي عنها، وكيف كان يرى وجه أمه فيَّ، وكأنني أنا الخارجة عن نسق العائلة وتقليدها، أنا التي لا تشبه أمها أو ابنتها، تشبه أو بدت وكأنها أم أبيها. ماتت أم أبي وهو طفل صغير، بكى عليها كثيراً حتى جفت دموعه، ولكنها أكملت الحياة في داخله، تماماً كما أكمل هو دورة حياته في داخلي، وكأن الموت ليس سوى اختفاء مؤقت عن النظر وظهور دائم في القلب.
وما الموت إلا الوجه الآخر للحياة، ونحن ندلف إلى الحياة من بوابة الأم، وتظل هي تمتلك مفاتيح حياتنا وأسرارها، ولكننا لا نغادر الحياة من البوابة نفسها، وإن كان لنا كبشر من خيار في موتنا، فربما كنا سنختار جميعاً الموت بين ذراعي أمهاتنا تماماً كما ولدنا يوماً بين أذرعهن، وما زلت إلى اليوم أتذكر الرجل الخمسيني المصاب بالسرطان والأب لأربعة أولاد، الذي طلب قبل موته أن يأخذوه إلى بيت أمه وغادر الحياة بعد يومين في حضرة أمه، تماماُ كما جاءها.
وبعيداُ عن الموت ولأن هذه المقالة ليست إلا إعلاناً صريحاً عن الحب لأمي ولكل الأمهات، ولأن الأم هي الحياة بها تبدأ وحولها تدور، شيء كقانون الجاذبية الذي يبقينا على سطح الأرض، ويبقي الأرض تدور بنا، وكأن هناك خطوطا غير مرئية للحياة تتشابك وتمضي لتعود إلى قلب أم. وهكذا أجدني مهما غادرت ومهما سحبت المحطات وجهي وتركت تلويحة أمي على أرصفتها، أجدها دائماً تسافر في قلبي وأبداً أحمل مفاتيح بيتها في جيبي، أدعي دائماً أنني نسيتها سهواً من دون أن أعترف أنني أفعلها متعمدة، وكأنني سأعود بعد قليل، وأطلب منها أن تغلي القهوة ولا تنسى فنجاني في صينيتها.
___
*القدس الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *