في اليوم العالمي للشعر أيها الشعر من أنت؟

*ملف من إعداد: عاصم الشيدي

ماذا يمكن لشاعر أن يقول في اليوم العالمي للشعر، أي خطاب يمكن أن يوجهه للعالم/‏ الإنسانية، أي مواجهة يمكن أن تحدث بين شاعر أعزل إلا من الكلمة والصورة الشعرية وكثير من الحزن والألم مع واقع دموي بملايين الأيادي الملطخة بالدماء والعار.

كيف يرسم الشعراء صورة الشعر هو الآخر لحظة مواجهته وجها بوجه؟ هل هو تلك اللحظة الخاطفة لمحارة في اللحظة التي تخلق فيها اللؤلؤة كما يقول قاسم حداد، أم ذلك الكائن الذي لا تصير الحياة بدونه، ولا يكتمل الهلاك من غيره كما يذهب عبدالله حبيب؟ هل هو رمادي كما تدعي شميسة النعمانية أم هو المنير الذي لا يرحل عن كوكبنا لأنه يبعث النور في لحظة الظلام، أم هو صورة للجوع كما يتصوره خالد المعمري في عيني شاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني، أم هو أمومة العالم التي تنثر دفئها وشبعها للعالم أجمع كما نقرأ لفاطمة الشيدية؟

الشعر صوت قدسي آت من خلف السماء الثامنة، من مدن لا نعرفها وعوالم لا ندركها ولحظات لا يمكن أن نمسك بامهيتها.
في هذا الملف الذي يأتي بمناسبة اليوم العالمي للشعر الذي يصادف اليوم 21 مارس من كل عام يحاول عدد من الشعراء أن يقفوا لحظة ويختلسوا النظر لوجه الشعر المنير ويخاطبون عبره العالم/‏ الإنسانية، أو يخاطبونه هو مباشرة باعتباره يختزل كل الإنسانية بين سحره الحلال.


لا نملك أجنحة –
إيرينا بوكوفا –

لا نملك أجنحة لكي نحلّق،
بل نملك أقداما لكي نتسق،
رويدا رويداً وخطوة تلوى اخرى،
قمم جبال زماننا المكفهرة.
عندما يبدو لنا التغلب على المصاعب التي نواجهها في زماننا هذا، ومنها تغير المناخ وانعدام المساواة وتفشي الفقر وانتشار التطرف العنيف، أمراً عسيراً وهدفا بعيد المنال، تبعث فينا كلمات الشاعر هنري وادزورث لونغفيلو المذكورة آنفا الأمل من جديد.
ويملك الشعر، بفضل جزالة ألفاظه وتعدد صوره وثراء معانيه وإحكام بحوره، قدرة لا نظير لها في سائر فنون الأدب. ألا وهي القدرة على ايقاظنا من غفلتنا وإخراجنا من قمقم حياتنا اليومية وتذكيرنا بآيات الجمال المحيطة بنا وبقدرة المعاني والقيم الإنسانية المشتركة على الصمود.
والشعر نافذة تطل على تنوع البشرية الذي يأسر القلوب ويخلب الألباب، وتضم قائمة اليونسكو التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية العشرات من أشكال التعبير الشفهي والشعر، ومنها المناظرات الشعرية القبرصية، وشعر «سا ترو» الغنائي الفيتنامي، والشعر الغنائي البدوي المسمة «التغرودة» المشترك بين عمان والامارات العربية المتحدة. وقد باتت الحاجة الى الشعر، وإن كان فنا أدبيا قديماً قِدم اللغة ذاتها، أشدّ مما كانت عليه في أي وقت مضى في ظل الاضطربات الراهنة، إذ يبعث الشعر الأمل في النفوس ويتيح للناس تشاطر معنى الحياة في هذا العالم.
وقال الشاعر بابلو نيرودا ذات مرة: «إن نظم الشعر سبيل من سبل السلام» ويملك الشعر قدرة فريدة على مخاطبة الناس ودخول قلوبهم بلا استئذان في كل مكان وزمان على اختلاف ثقافتهم. ولذلك يعد الشعر معينا لا ينضب للحوار والتفاهم. وقد كان دائما سلاحا لمقارعة الظلم والذود عن الحرية. وتملك الفنون جميعها، ومنها الشعر، «قدرة عجيبة على التعبير عن المقاومة والتمرد والاحتجاج والأمل»، كما قالت سفيرة اليونسكو الجديدة للنوايا الحسنة من اجل الحرية الفنية والابداع الفني السيدة ضياه خان.
ولا يمكن اعتبار الشعر ترفاً.
فالشعر قوت القلوب الذي نحتاج اليه جميعا، رجالا ونساء، نحن الذين نحيا معا الآن وننهل من معين تراث الاجيال السابقة ما يعيننا على مواصلة حياتنا، ونحن المؤتمنين على هذا العالم الذي سيعيش فيه أولادنا وأحفادنا.
وإننا لنحتفي، اذ نحتفل بالشعر في هذا اليوم، بقدرتنا على الالتئام متحلين بروح التضامن، وقدرتنا على تسلق «قمم جبال زماننا المكفهرة».. وإننا لنحتاج الى ذلك من اجل المضي قدما في تنفيذ خطة التنمية المستدامة لعام 2030، وتنفيذ اتفاق باريس بشأن تغير المناخ، لكيلا يتخلف أي انسان، سواء أكان رجلا أم امرأة، عن ركب التقدم والتنمية المستدامة..


أيها الشِّعر…
عبدالله حبيب –

أيها الشعر: ما/‏‏ من أنت؟
لا تصير الحياة بدونك، ولا يكتمل الهلاك من غيرك، ولا نَسْدُرُ إلا في رغبتك. لا ماء في المسامات، لا ذكرى في الصخرة، لا عطر على الزَّند، ولا وحشة إلا في تهجُّدك. لا دمع في المقلة، لا رموش في الفقد، ولا ضباب إلا في بصيرتك. لا يصير الفقد جارحاً إلا بآخر ناقة ترحل بالعاشق من أطلالك، ولا رضاب في لُعاب القُبلة سوى تهشمك. تعيثُ فينا رياحاً، تفتك بنا خراباً، تسفك لنا نخيلاً، مواعيد، أعراساً، وليس في الخِدْرِ تنهيدة إلا آهتك. تُطوّح بنا نحو الأمداء والأقاصي ولستَ بعيداً إلا في الأقمطة التي نساها إخوة يوسف في أنهُرك. تَنازلنا لك عن أكبادنا صباحاً تقلي به إفطارك فتتركنا في المسغبة صباحاً، والليل الطويل من مآثرك. لا أحشاء، لا ترقوة، لا خصر، ونحن ننحني على ركبتك. لا تصير الأم أمُّاً إلا في حليبك، ولا يكتمل العشق إلا بأنجَلِ خناجرك. لا يكون السَّفرُ شراعاً إلا في بحرك، ولا يكتمل الإياب إلا في القبر حين الموت عودتك. لا يتضوَّع الليل ريحاناً، ياسميناً، فَراشاً، فِراشاً إلا في عتمتك. لا ينبلج النهار فَزَعَاً، فَزَّاعة، فارساً مُجَندَلاً إلا في ذؤابتك. لا تدفعُ بنا سوى نحو الشِّراك، والأفخاخ، والمكائد، ولا نرتضي طريدة سواك والسُّهوب مصرعنا ومقتلك. لا تروم السماء غير سابعتك ولا تريد الأرض إلا أديمك وكل الكون دُمْيَتك. لا توقظني مجز الصغرى إلا على جبينك، ولا تهدهدني الليالي إلا في حضنك، وما تبقى من الألوان في رموز رئتك. لا تسعفنا في الكرِّ، ولا تعيننا في الفرّ، وتخذلنا في الإسناد الجانبي والخلفي، وكل الحروب رصاصتك. لا نتقدم إلا فيك، ولا نتقهقر إلا أمامك، ولا نعرف ما الذي تهرسه جنازير الدَّبابات: أضلعنا أم أضلعك؟. يُبَرِّح بنا العذاب فيك فنرتضي، ونرتضي، ونرتضي، ونرابط، ونرابط، ونرابط، ولا نستغفرك. تغور الفيافي في عيوننا ولا نستسقي بغير سرابك وغيمتك. تناديني محفوظة حبيب في لحدها، ولا تشغلني لطيفة حبيب عنك إلا فيك، وفي الهجر حنانُ مَهجرك. تستغيث بي مريم إبراهيم: «أين أنت يا الشريد ثكلتني»؟، فأظلِّلُ الرقدة في هجعتك. يبتسم سعود أمام فريق الإعدام، ويلهو زاهر بسبع رصاصات تَوَّجت صدره في لؤم كمين الرستاق عن غفلتك. يشاغب خميس الحتف بنيران تغطية الانسحاب في وادي الجزي وليس من الطلقة إلا جنونٌ في مرفقك. نهذر لك بالحكمة، فنقول “via negativa”، لكن ما الإغريق، والرومان، والحلاج إلا خيوط في جُبَّتِك. تَلِجُ البلاد في البلاد، وتهرب البلاد من البلاد، فنسير خلف النجوم، والتيه من محاسن معشرك. تشحذنا الصورة، ويكشطنا المجاز، وتغرر بنا التورية إخفاقاً في حضرتك. تؤاخينا بين المد والجزر، ولا عذر ولا عاصفة إلا في برزخك. تهدينا من صريع، إلى سجين، إلى منفيِّ، إلى بكاء، فلا نستكين حول المأدبة في اشرئباب تيتمك. لا نيزكاً أعطيتنا، لا شمساً أهديتنا، لا أرضاً وهبتنا، ونحن في النار هشيم غربتك. بزغتَ غيمة، سقطتَ سحابة، هدلتَ حمامة، ونحن في الأحشاء كِسرة في سكرتك. غاب الوقت، وغاب القول، وغاب الوله ونحن في الهيولى هولاً في تَخَلُّقك. لا أريدك، لا أحبك، بل حسبي أن لا أغادرك.
أيها الشِّعر: ما/‏‏ من أنت؟


الشعر يهجر الأرض إلى كواكب أخرى –
سماء عيسى –

يذهب الشعر بعيدا، ينتقل بين الشعوب، من زمن الى آخر، من مكان الى آخر، دون حواجز، دون تأشيرات دخول، وحتى الملاحقات الأمنية التي دون شك لن تغض النظر عنه، لن تكون قادرة على الإمساك به وتقييده وتعذيبه وسجنه.
هو النقيض لذاكرة القهر والغزو والقمع، لأنه الوجه الحقيقي للإنسان في أشد لحظاته اغترابا وعزلة، لأنه مرآة الجمال الإنساني؛ وعذابات الهجر والموت والمنفى.
كعمانيين لدينا من البرتغال، الوجه الاستعماري البشع، الذي مثله أمام عيون أسلافنا افونسو دلبوكيرك. قدم هذا العسكري البرتغالي، الوجه القبيح للاستعمار بفخر واعتزاز. حرق جثث الموتى وجدع الأنوف واغتصب وسمل العيون، كل ذلك في فخر واعتزاز، حاملا غطاء أنبل البشر وأكثرهم محبة وسلاما المسيح عليه السلام.
لكننا كعمانيين أيضا، نحب سارماغوا؛ ويتهافت كتابنا وقراؤنا على قراءة فرناندو بيسوا. هذا وجه آخر وصل إلينا من البرتغال، دون ادعاء محبة المسيح، غير أنهما حملة رسالته المقدسة، لأنهما في الأدب العالمي جسدا قيم المحبة التي نادى بها السيد المسيح قبل ألفي عام.
مع اقتراب ٢١ من مارس من كل عام، نحتفل معا بعيدين، عيدين يمثلان وجها كونيا جوهريا واحدا، عيد الأم وعيد الشعر.
بالطبع الشعر أم الكون، حارس أشجار الغابة من فؤوس القتلة، ما يتبقى من الكون بعد اندثاره. الحافظ لنا جمال الأنهار والكواكب والأفلاك والرياح.
اقتراب الشعر من الأمومة، هو ما يجعله لصيقا برسالة إنسانية كبرى، لأن الأم هي من تحفظ لنا تجدد الحياة، هما معا يحفظان لنا كونية الانتماء حيث تنتفي الأعراق والألوان، وتتضاءل أرواح التعصب البغيض. ما يجعله قريبا من الجذور الإنسانية الكبرى؛ التي منها تتجدد أنساغ الحياة، جذور الحب والحريّة والجمال الروحي الخصب.

لماذا نحن غرباء في هذا الكون؟
لأننا شعراء
لماذا يبحث الشعر عن وطن آخر غير الأرض؟
لأنه لا ورود ولا أشجار ولا عشاق
أبقت الحروب في الأرض
ولماذا قناديل القرى مطفأة هذه الأيام؟
لأن الأمهات والأطفال والشعراء
تاهوا هائمين في الصحراء.

لكننا مقيدون بك أيها الشعر
غير قادرين على هجر فيضك الروحي الخالد
غير قادرين على هجر طفولة الإنسان الأولى
ابتهالاته الشعرية للكواكب السيارة وأفلاكها
صلواته المقدسة للآلهة في الجبال والصحراء والبحار

لا رحيل لك عن كوكبنا
لأنك المنير
عندما يسود الظلام
نافذة البحر
عندما يغلق الأعداء
أبواب الأرض.

العالم الذي أضحى يتيم الروح دونك
أيها الراحل الغريب
أيها الشعر

سأرحل وحيدا
إلى حيث لا أدري
ولا ألاقي حتى نفسي
وقد أضناني البحث عنها
عن حقول عذراء
اختفت بها أحلامي الصغيرة.

من ينتظرني
في الضفة الأخرى من النهر؟
كل امرأة كان قلبي
ينتظرها عند المنحنى.
عندما يحل الظلام رويدا رويدا
تبدأ الرياح
في استقبال الطيور المهاجرة
وتبدأ الأشجار في البكاء
كل من عبر وحيدا
دون أن يسأل إلا عن الحب
بعد أن لفظته الغابات
في مستنقعات الرغبة.

أيتها الطيور
الطيور الجوارح
فجر أرض بعيدة
ينتظر غنائك العذب.
لست بحاجة لبكائي
الشمس جففت الدمع والدم
وليس من عشيقات في هذه الخرائب
هنا رحيل دائم
لا نهاية لهجرة الإنسان
الى الكواكب المهجورة.

ستكون الأرض خرابا يوما ما
ولن نجد من يستمع لأحزاننا
ولبكائنا المر
عند الينابيع التي أدمنت جفاف الصحراء
وتركتنا في العطش الأبدي
إلى الطفولة وإلى عمر يمر سريعا
كفراشة تموت في الفجر
قبل أن ينفض الطير جناحيه
ويرحل إلى كواكب أخرى.


إلى الشعر ذاته في يومه الرماديّ!
شميسة النعماني –

بينما ينشغل العالمُ بالمسافات التي تتلاشى وتتباعد في الآن ذاته، تتوارى أيها الشعر كمَلِكٍ حاربتْهُ طوائفُ كثيرة وممتدة ومتجددة فانسحبَ مُتَلَفِّعًا بردائه الملكي واتخذ من قمةِ الجبلِ المطلِ على البحر بيتًا ومن الشجرة المجاورة له نايًا ومن الإحساسِ حبرًا، وظل يكتب ويعزف ويبكي ويصفق ويغضبُ ويسامحُ ويحيا ولكنه لا يموت..
كنتَ أيها الشعرُ ولا تزالُ جناحًا في طائرٍ لا يعترفُ بأعشاشِ الأرض المستقرة، وموجًا لا يبحث عن وطنٍ ولا يغريهِ المبيتُ على كتف رمل مهما بلغ تَأَنُّقُه، وربيعًا يقاومُ توالدَ حزنه الخريفي ويتخلى عن معطفه الشتويّ وناره الوحيدة للعابرين المتجمدين من كآبةِ الحياة، وتقفُ مُحْتَمِلًا رمضاءَ الصيف لترتاحَ في ظله زهرةٌ نابتة في منافي العمر المُجدبة..
يا الشّعر! ماذا تكونُ غير موسيقى آخذة في الإنسان محل الروح من الجسد؟ وماذا تكون سوى الغيمة التي يرتجيها الصبّارُ المجاور للربع الخالي؟ وماذا تكون سوى نهر النيل للغابات والأفواه والكائنات التي إذ تتعلَّقُ به فإنها تتعَلَّقُ بالحياة؟ وماذا تكون سوى فيروز التي تصدح في صباحات الفقراء والأثرياء، والعاشقين والتائبين من الحب؟ وماذا تكون سوى نحنُ الممتلئون بالشجن؟ بل تكاد تكون الإنسانُ ذاته، بأمزجته المتباينة، وسموهِ وانحداره، وحكايتهِ البائتة وأحلامه المشاغبة وحاضره المتكسر كفُخارٍ يتدحرجُ من الجبل الأخضر.. في هذا اليوم، وأنتَ أيها الشعرُ وردتُنا التي تداري أشواك الإنسانية التي لا تفتأ تقوى، فإني أعتبُ عليكَ عتب الوليدة لأبيها، وأتساءلُ لماذا تتأخرُ إلى العتبةِ الأبعد، ويخفتُ صوتُكَ حتى لا يكاد يبين؟ لماذا لم تعد صوتَ الجماهير ولا ديوانَ الأمم ولا قديّسَ الكتابة ولا حُلمَ الناشئة ولا الأكثرَ مبيعًا ولا الشمسَ التي إن حضرَتْ لم تبدُ أيُّ كواكبُ؟
في يومك أيها الشعر وأنت الإحساسُ الذي لن ينتهي، الإحساسُ بالخير والحق والجمال، فإنه رغم كل هذا القبح المتزايد والمتطاير حتى لا تكاد تسلم شفافية قطرة ندى من غباره إلا إن التفاؤل والأمل يصمدان في النفوس الفتيّة؛ لأن الكون لم يكن يومًا ليلًا حالكًا ولا نهارًا منفلتَ البياض، وإنما هو الاثنان معًا، تمامًا كما نحن!
وليس المدهش أن يتوافق يومك- يوم الشعر العالمي- مع يوم الأم لأن كليكما الأصل والموئل، والكهف والسماء، وأنكما الجنة، بل أقول إن المدهش جدًا أن يلتقي عظيمان متوازيان الدهر كله في الذاكرة نفسها، ويقفان صنوًا إلى صنوٍ كطودينِ شامخين يتحاور الوجود حولهما وبهما إلى اللامنتهي..
أيها الشعر، سلامًا أبديًا وأنا أشعلُ الشمعةَ بين يديكَ، أنتَ الذي انْحَرَفَتْ عن مسارِ ضوئِكَ شموعٌ كثيرةٌ واتخذَتْ موقع النسيان أو ذَوَتْ أو لعلكَ أنتَ الذي سَلَكْتَ مَسْلكًا أبعدَ عن جموعِ الضوءِ الحديثِ وأقربَ إلى غيمٍ أبيض منزوٍ، فليتكَ أيها الشعر تعُدْ لموقعِ ضوئِكَ الكاشف وتحتفي الجموعُ بين يديِّ خصبِكَ بالحياة..


وقت للكتابة.. كلما كان الشعر كذلك –
قاسم حداد –

1
في تقديري، من تجربة غير مكتملة، إن الشعر الحقيقي هو كناية عن مزيجٍ صارمٍ بين لا مبالاة الآلهة ويقظةٍ خاطفةٍ لمَحّارةٍ في انفتاح كينونتها لحظة تَخَلّق اللؤلؤة. تكوينٌ هو الصقل الكونيّ لأبجديةٍ ضئيلة الحيلة، أجلَ أن تأخذ وضع المبارزات، فلا هي تخفق في مهمتها ولا هي تنجح. مرضٌ هو أجمل ما يناله نبيٌ عابثُ في كتاب العلّة الصحيحة.

2
وإذا كان الشعر كذلك،
فإن أحداً من جيل النقد القديم لن يغفر لشعراء الجيل الجديد (خربطتهم) لخريطة منطق الدلالات التي أدمنها نقادٌ سابقون، بل أن بعض هؤلاء قد يتعرضون لشهوة الحرب والفتك بأصحاب الكتابة الجديدة، لخروجياتهم الفجّة عن الطوق والطريقة، وعدم امتثالهم لقانون سكة الحديد التاريخية فيما يكتبون.
وإذا كان الشعر كذلك، فإن للنقد المطمئن حقُ الذهول إزاء ما حدث ويحدث في إقليم الكتابة الشعرية العربية منذ حين، وربما جازَ لبعض هؤلاء القول مجدداً: «إن كان هذا شعراً فكل ما قالته العربُ باطل». وكأن العرب، جميع العرب، تاريخياً وجغرافيا وفسيولوجيا وسيكولوجيا، هي عربٌ واحدة، وكأن، طوال ذلك الوقت، بمسافاته الفنية والزمنية، لا شيء يحدث ولا شيء يموت ولا شيء يولد. وأمة العرب الآن، لكي تنهض من وَهْدَتِها، فلتصغي لشعرها.
لكل ذلك، نقول، إذا كان الشعر كذلك،
يتوجب علينا الاستعداد، لإعادة النظر والمراجعة والشكّ في الجذور التي لم تزل تطاردنا بوصفها مصائد وشراك أحياناً، وأحياناً كمشانق. ففي الشكّ والمراجعة شيءٌ من حقّ الكائن في حياته المختلفة. الشكّ، لا لتضميد الجراح وتفادي النقائض، لكن لتحيتها وإيقاظها، ووضع الجمرَ في مهبّ الحب بلا هوادة.
فإذا كان الشعر كذلك، وهو كذلك على ما أظن.
سيكون علينا قراءة النص الجديد خشوعاً في هيكل الحب، وليس صلافةً في قاعة القضاة والمحاكمات.

3
لكن،
من جهة أخرى، ودون الذهاب في وهم المبالغات، نحن بحاجة للمراجعات والتريث، ليس لنقد الجذور فحسب، ولكن لإعادة النظر ودرس العطايا والثمار. ففي الأسئلة شيءٌ من الجنة أيضاً. فربما كان طريق جهنم مفتوحاً على مصراعيه، لمن يثق طويلاً في المستقر متسارع التغيير من النص، فمعظم ذلك الحديث هو من المتهافت نحو القِدامة.

4

فالشغف والدهشة، وهما شرفتا الشعر المذهلتين، سوف يتقهقران، إذا طالَ بهما الوقت، من غير صقلٍ وإغناء ومزيد من السجالات. والشاعر هو من لا يغفل عن الدهشة والشغف في حياته، ناهيك عنهما في كتابته.

5
كلما تقدمنا في العمر والتجربة، سوف نكتشف كم أن الشعر، مثل الحياة، يستعصي على الوصف. وأن معظمنا تركةُ المزاعم التي ابتهلناها برهة التعرف عليها في أوّلنا، والتي باتَ علينا وضعها تحت المساءلة، والكفّ عن الثقة التي تشبه الجهل. فالجهل في الأدب طريقٌ ملكية نحو جهل الحياة ومستقبلها. والزمن الذي يجعل النبيذ طيباً، ربما يَعطُبُ الشعرَ كلما اطمئنَّ.

6

كلما كان الشعر كذلك، وهو كذلك،
حقّ لنا أن نسعى إليه بالمزيد من الحب، مثلما الأفق الإنساني الرحب.


رسالةٌ إلى عبدالله البردُّوني –
خالد بن علي المعمري –

شاعرَ اليمنِ عبدالله البردُّوني
يُغريني هذا اليومُ بكتابة رسالةٍ خاصةٍ لك، أقودُ فيها حُروفَ الشعرِ وأسئلةَ المكانِ إلى دائرةِ خلوتِكَ الشعريةِ. أسئلةٌ مفتوحةٌ على احتمالات الحياة في تناقضاتها المستمرة، وسطوتها الماكرة، في دفئها وشتائها، في عبثيَّتِها وجنونها. وأنا أقلِّبُ ديوانَكَ الشعريَّ متأملاً قصائد ظلَّتْ عالقةً في سماء الشعر العربي كـقصيدة «لعَيْنَيْ أمِّ بلقيسٍ» وقصيدة «من منفى إلى منفى» وقصيدة «فلسفة الجراح»، وقصائد أخرى طالما وقفْتَ فيها مع قضايا شغلَتْ بالكَ سنينَ طويلة، قضايا الإنسانية في المقام الأول والكرامة والفقر والحرية. تأملتَ الحياة اليمينة فكانت بصيرتُكَ النورَ الذي يقودك إلى ميادين الحياة، وساحات الوطن. كتبتَ عن «ليالي الجائعين» فكان تعبيراً يعزِّزُ قيمة الوجود الإنساني في تكاتفه، تعبيرا أطلقتْهُ بصيرةُ شاعرٍ تأمَّلَ حال الشعب، فوصف الثراء مقابل الفقر، والشبع مقابل الجوع، والطبقية في كل تجلياتها حين قلت:
يا ليلُ، من جيرانُ كوخي؟ من همُ
مرعى الشقا وفريسة الأرزاءِ
الجائعون الصابرون على الطوى
صبر الرُّبا للريحِ والأنواءِ
الآكلون قلوبهم حقداً على
ترف القصورِ وثروةِ البخلاءِ
الصامتون وفي معاني صمتهم
دنيا من الضجّاتِ والضوضاءِ
ويلي على جيران كوخي إنهم
ألعوبةُ الإفلاسِ والإعياءِ

وكما كتبتَ عن تلكَ المشاهد أظنُّ روحَكَ اليومَ تتنقَّلُ في أرجاء اليمن ضاجةً بأناشيد الخلود والحرية والحياة، ناظرةً إلى الموت في عنفوانه وهو يختطفُ أجمل ما في الأرضِ. وكما كانت حروفُكَ المشعل الذي اهتدى به أهل اليمن في تاريخ كفاحهم، فهي الأمل الذي يتعلّقُ به اليمنيُّ، فأراكَ تنفضُ عنك ترابَ رحلتكَ الأبدية متجلياً لشعب اليمنِ زارعاً بيدهم شجرة الوئام والخلاص.
إنَّ ما تناقلَتْهُ وسائلُ الإعلامِ من أنّ اليمنَ يواجهُ أكبرَ مأساةٍ إنسانيةٍ في العالم، وذلك على لسان مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (ستيفن أوبراين) الذي أشار أيضا إلى أنَّ ثلثي الشعب اليمني في حاجةٍ إلى مساعدات، يجعلنا جميعا كعربٍ نعيشُ مرحلة تاريخية من الإطراق والهوان، مرحلة تمرُّ بها الأرضُ التي انحدرتْ منها أغلب القبائل العربية، مرحلة تتمثل في أزمةٍ تجعل من سكّانها يبحثون عن قوتهم في حاويات القمامة، إنها لحظة أليمة في تاريخ العرب الحديث. حتما لقد عشتَ هذه المأساةَ بكل تجلياتها، ونظمتَها شعراً، ووصفتَ سطوتَها على الإنسان، وربما يكون ما قمتَ به أبلغ وصفٍ لما مرَّ باليمن وتاريخها وامتدادها الجغرافيّ، فقد شكَّلَ الشعرُ لديكَ سلاحاً واجَهَ الفقرَ والموتَ والمرضَ والطغيانَ، فكنتَ تواجهه متسائلا:

لماذا ليَ الجوعُ والقصفُ لكْ؟
يناشدني الجوعُ أن أسألكْ

وتحاكم الظلمَ قائلا:
أيا من شبعتُم على جوعنا
وجوعِ بنينا. ألم تتخموا؟

ألم تفهموا غضبةَ الكادحينَ
على الظلمِ لا بدّ أن تفهموا

سيدي البردُّوني
وكما أنَّ المأساةَ متصاعدةٌ فينبغي أن يكون الشعرُ مستمراً في مواجهته لها، فصوتُ الشعرِ أقوى وأبلغ من أصوات العابرينَ على جراحِ الإنسانية وآلامهم وأحزانهم. وهذا وجدي الأهدل كتبَ مقالاً قبل عامٍ تقريبا في العدد (101) لمجلة الدوحة عنوانه: (تاريخ طويل من الجوع)، يرى من خلاله أنَّ مشكلة اليمن مشكلةٌ مزمنة في إشارة إلى الجفاف الذي أحاط باليمن في تاريخها الطويل وما رافقه من صراعات تاريخية ممتدة، وكنتيجة لما آلت إليه تلك الصراعات ما ذكره: «ربما تضمُ اليمن في وقتنا الحاضر أكبر عدد من الجائعين في العالم! أحدث تقرير صادر عن البنك الدولي ذكر أنَّ (21) مليون يمني بحاجة ماسة إلى الغذاء والملجأ والرعاية الصحية ومياه الشرب. وبلغ عدد المشردين حوالي (2.5) مليون شخص، وقدر عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس بحوالي (3.4) مليون طفل». أيها العازف على أنغام الكلمة، ألا تغريك كلُّ تلك المعطيات لتفتتح قاموس الشعر الذي بين يديك، وتقرأ لهذا العالم النائم بين أحضان الفوضى بيتَ شعرٍ؟ لقد مررتَ على شوارع صنعاء وعدن وحضرموت وإب وتعز ومأرب فلم تخطئ مفرداتُكَ ما كنت ترمي إليها. تلك الشوارع لم تعد كما عرفتَها يوما ما، لم تَعُدْ تسمع خطى أبنائها، ولا تختصرُ المسافةَ بين جارينِ، نسيَتْ ما كنتَ تقولُهُ ذات لقاء، هل تغيَّرتِ المفرداتُ أم تبدَّلتِ القلوب والوجوه؟

أخيراً..
لعلّك في مجلسكَ الأخيرِ تُكثرُ من قراءة قصيدة (أبو تمام وعروبة اليوم)، ولو حَدَثَ وقابلتَ أبا تمام في مكانٍ ما هناك فإنك ستُكملُ له الملحمة العربية الخالدة. وكل ما لم يره أبو تمام في زمانه ستكتبه له صدّقَ ذلك أم لم يصدق، ولكنني أجزم أنك ستحذف الشطر الأخير من قصيدتكَ: (إنَّ السماءَ تُرَجَّى حين تَحْتَجِبُ).


يوم الشعر.. أمومة العالم –
د. فاطمة الشيدي –

أيها الشعر أنا لولاك يتيم
حمزاتوف

الشعر صديقنا الحميم، وعدونا الحميم أيضا، أجلسنا منذ الأبد على ناصية قلبه، أسمعنا نبضه المدوي، وأمرنا أن نرهف السمع له، مذ جئنا ونحن مرهقون من حمله الثقيل على أكتافنا الهشة، مذ جئنا ونحن مأخوذون بالفتنة والعشق، نذهب في الأشياء حتى مداها الموغل، نقترف غوايات الوجع، ونحفر في مسام البعيد، يغرينا بضحكته الباسلة فنذهب حفاة وراء صداها المتقطع النشيج، نتقاطع مع السراب، ونفند الأمل حفنة حفنة، نزرعه على جفون الغيب، وبين مفارق الغياب، ونحضره تميمة للماء.
مجانين نرقص على حواف الأبدية، بعبث نقلع عيون الضوء ونتمطى بلذة على سرر الحكمة الحالكة، ننادم الليالي وننشغل بأشياء بسيطة، كضحكة غافلة ملقاة بإهمال على رصيف ما، أو نظرة حائرة، أو دمعة تجلس بثبات في عين فقير عشي، نكتحل بالرماد، ونغني للفوضى، ونشق جيوب التجلد فنسقط من علياء التحصّن، ولكننا نقوم مجددا، لأنه يمد لنا يدا مليئة بكل ثمار العزيمة والبهاء.
نعانق فيه ذرى الحرية، ونذهب معه إلى روابي الجمال مبهوتين مشفقين على الكون، نطرّز الكون بخيوط الخير، وتتمدد جلودنا لتحتمل أكثر من كائن ومن روح ومن كون.
نرتقي معه، نتصاعد فيه، بالحرقة والألم، ننتبه للتفاصيل بعين صقر، ندون ملامح الموتى في دفاتر الأطفال المدرسية، ونرسم دعاء الأمهات على مداخل الكينونة لنجعلها آمنة، نحيا خلف جدر العزلة الآثمة كنباتات الظل التي تخشى الشمس، نقدم المحبة بأيدٍ مصبوغة بالحنين والقلق، نتمنى ونحلم فهذا أقصى ما نستطيع، وحين ينقضي العمر، نكتشف أن سلالنا خاوية، وأننا نقبض على الماء، ومع هذا نبتسم فلا طريق كان يمكن أن يحتوى كل ذلك الجنون والقلق إلا الشعر.
**
أيها الشعر لا تذهب بعيدا
أرجوك
فأنا ولدتُ برئة واحدة
وصدري موبوء بالربو والكلمات
حررني من الكلام العالق بالمريء
وذلك الذي يحزّني في الحنجرة
حررني من براثن الرؤيا
وصرخات الرفض المكبوتة
من شوكةٍ في الفؤاد
وجمرة مستعرة كالجوي
تحرّق كبدي
ولا تستطيب إلا رائحة الورق والاحتراق
امسح على جرحي القديم بقصائدَ عنترة
وأرتق ثقوبي بلامية «الشنفرى»
وأحزان الشعراء المنفيين
بانقسامات الرؤية والوعي
وأوجاع الغرباء
كقروح الملك الضليل
وعزلة «المعري»
وتشظيات «السيّاب»
خذني إليك بكل بيت جميل ذاهب في التصاعد والارتقاء

**
الضجر ليس مبررا عميقا وجارحا
لكتابة الشعر
أنيابه النخرة لا تصلح للتمرئي في لجج الشعر العذبة
وملابسه الرثة لا يصح أن نعلّقها على مشجب الشعر الأنيق
والحزن أيضا ليس كافيا
فله نظرة قاتمة تخيف الأطفال والمجانين
أبناء الشعر الشرعيين
والحب كذلك؛
فتلك الطعنة الغائرة متوهجة أبدا، بحيث تقتل الكلام قبل أن يولد
والفرح، والوحدة، غير كافيين
فمن أين نأتي بالشعر؟!
ربما مما يدور في ذهن عصفور في الأفق
قبل أن يركنَ للشجرة
وربما من عيون الموتى التي تبرق في الذاكرة
أو من ضحكاتِ الأمهاتِ المرتبكةِ في الصباحات الباكرة
وربما من حدس الربابنة بالعاصفة قبل الإقلاع
أو من الهواء المولع بالعبث في جسد الوقت
وشعر الحقول
أو من الأقدام التي نسيت خطواتِها على أرصفةِ الفقد المتسخة
أو من حزنِ مالكِ الحزين قبيل الغروب
أو من صرخة مكتومةٍ في جوف كائن لن يسمعها أحدٌ أبدا
وربما …
وربما …
لكن الشعر المراوغَ غالبا
يأتي بخفةٍ متناهيةٍ، وغير مدركةٍ للأسباب والنتائج
كالموت تماما!
**
نحن الشاعرات المولودات بأصابعَ طويلةٍ
وأرجلٍ قصيرةٍ لا تساعد كثيرا على المشي
لا نحاولُ كثيرا الاعتناء بمظهرنا
نرتدي حضورنّا المباغتَ في القصيدةِ على عجل
نتعطر دائما بالخزامى والياسمين
كي تكونَ القصيدةُ عطرةً حين يلامسها الحب
لا ننظرُ كثيرا في المرآة
كي لا تفضحَ شوق رجلِنا المختبئِ بين شقوق الكلام
الرجل الذي لا يشبهُ الرجال في التفاصيلِ الصغيرة
الرجل الذي لا نختاره غالبا
فهو ينزلُ مع المطرِ كما علمتنا الأمهات
ونحن نصدقُ الأطفالَ والأمهاتِ فقط
*
نحن الشاعراتُ المرتبكات أمام تراتبية الأشياء حولِنا
لا يهمُنا كثيرا ترتيب الأواني في المطبخ
لا تهمنا ألوانُ الأثاث في الصالة
فقط تهمنا الحديقةُ الخلفيةُ للمنزلِ والحياة
هناك حيث نتنزهُ بعري أرواحِنا الموجعِ
وصريرِ أحلامِنا المزعج وأرقنا الدائم
هناك نبني خياما لهياكِلنا النحيلةِ لنحميها من الألم
ونعمّد أصابعَنا الطويلةَ بالضوءِ والحبِ كلَ يومٍ
ونغني للرجل الذي يسكن تحت إهاب الكلماتِ بلا حذر
«تعا، ولا تجي واكذب علي ،، الكذبة مش خطية»
*
نحن الشاعراتُ المترنحاتُ في المدى
ننام على ركبةِ وردةٍ عقيمةٍ
أو زهرةِ عباد الشمس غدرَها الضوء ذات غروبٍ
فانحنت للغياب
أو قرنفلةٍ خدّرها اليأسُ عن التطاولِ في البياضِ والحسن
ونتشفّع في ذاكرةِ الترابِ والندي
وحمى الليلِ لمن عبر هذا الوجود بظهره
ليصدَّ النصال عن قلبٍ مرهقٍ وأغنيةٍ يتيمة
نتحدُ مع الجوعِ والبردِ
ونكتبُ على عنقِ الأمل قصيدةً عاشقةً
كي يخرج للناس فاردا جناحيهِ كرخٍ عتيقٍ
يوزّع الحلمَ
ويرتجلَ الأمنيات
*
نحن الشاعراتُ المالحاتُ كالفستقِ
لا نستوردُ ملابسَنا ودبابيسِ شعرِنا
نحن نصنعُ كل شيءٍ من لهفتِنا الصباحيةِ
وقلقِنا المسائي
كلُ شيءٍ نخيطهُ بالتفاصيلِ عبر الوقتِ
نرتقُ ثقوبَ أحلامِنا بإبر الولهِ
ونغني للحظِ كي ينامَ قليلا بين أحضانِنا
كطفلٍ متوحدٍ
وقد يفعلُ طويلا لأنه يستلذُ عبثنا بشعره
قبل أن ينتبه
ونبتسم له لأننا سرقنا -الكثير من الحب- غايتَنا القليلة
في غفلته حتى حين
**
في يوم الشعر سأفرُّ كحمامةٍ من شرك المعنى
وسأراقصُ الكلماتِ كطفلةٍ تنتعلُ حذاءَ أمِها
كي يرفعَها الشوقُ للأعلى قليلا
سأقرأُ شعرا كثيرا لـ «لوركا»، و«السياب»، و«أدغار ألن بو»، و«المتنبي»
ولكلِ الشاعراتِ: المراهقات، والمجيدات، والجارحات، والعابرات بخفةِ فراشةٍ
سأقرأُ لـ«الخنساء»، و«ولادة»، و«فدوى طوقان»
وكثيرا جدا سأقرأ لـ«نازكِ الملائكةِ»، و«فروغ فرخزاد»
وسأقفزُ في قلبِ عزلة «إيميلي ديكنسون» لأكسر شرنقتي فيها
وسأعانق «سلفيا بلاث» عناقَ أختٍ بعيدةٍ أو على سفر
ثم سأمشي بمحاذاةِ قصيدةٍ غجريّةٍ لشاعرٍ مغمورٍ
سأتوّحدُ معها
وأهرّبُ لها العشقَ من عيونِ النساءِ المحزوناتِ، والرجالِ الخائنين والخائبين في الحب
ولاحقا سأجلسُ على مصطبةِ التاريخِ
سأنتحبُ كثيرا باسم كلِ الأمهاتِ اللائي رحلن على عجل، والأبناءِ الذين لم يأتوا
والشعراءِ الموتى
والقصائدَ التي لم تكتب
ثم سأضحكُ لكل الشعراءِ الخارجينَ على فتنةِ القبيلةِ والمالِ والسلطةِ
سأصافحُ «الشنفرى» وأغمزُ لـ«تأبط شرا»
وأشدُّ على يدِ عنترةَ، وأنا أبتسمُ له (لقد أجدت الحبَ والشعرَ يا صديقي الأسمراني)
وهذه هي الفروسيةُ الحقّةُ
ثم سأكتبُ شعري على صدرِ الليلِ
وفى قلبِ امرأةٍ عجوزٍ خانها الحظُ والأبناءُ
وعلى جبينِ حبيبي كي لا ينسى أنه قصيدتي الأجمل
وأخيرا سأتبرأ من كلِ ما كتبت
وأبكي على صدر أمي خفيفةً خفيفةً
كطائرةٍ ورقيةٍ في يدِ طفلةٍ بضفيرتين حالكتين
وفرحٍ أقصر من حذائِها الذي لا مقاس له إلا في الحلم


بحروف صغيرة ومسالمة –
عادل محمود –

إلى ياسمين… ضوء عتمتنا

بمناسبة اليوم العالمي للشعر… سوف أستأذنك «سيدي العالم» بتلاوة هذا النص المكتوب في إحدى عتمات سورية، حيث لم نعد نعرف متى نضيء ومتى نعتم، لأن الكهرباء، في محاولتها إلغاء الشروط القديمة للعيش في الكهوف، قد غادرت سورية مثلما غادرها بعض شعرائها إلى بلاد الإضاءات المستدامة.
«بعد 3650 قطع للكهرباء… (هكذا أحصيت العتم)
فجأة …نبت شعر كثيف أسود
على كامل جسدي.
فجأة… أصبح فكّي واسعاً، وأسناني ضخمة.
ولي أربعة أنياب.
وحفيدان ينطّان على أعمدة النور.
فجأة… فقدت لغتي،
وأصبحت أجعر بصوت غريب عني.
فجأة… وبما تبقّى من ذكرى الإنسان في قلبي،
وعقلي، وعاطفتي… أدركت ما حلّ بي.
وهكذا…
مشيت، بطيئاً، منحنياً، مخذولاً… عائداً إلى الكهف،
ومن عيني المحمرتين، الآسفتين، الحزينتين…
سالت آخر دموع الإنسان».
وفي المهجر كتب صديق شاعر: «أيها الشاعر: لا تدخل المدينة بعلم سوري واحد. أنت لا تعرف أي جيش سيلقاك أولاً».
لقد ذهب الشعر، كعادته في تفقد مفقوداته، إلى أحياء الصفيح فرأى دمارها، وإلى أرياف المجاعات فتفرج على جفاف ضروع الأرض، وعلى أعمدة الكهرباء كانت صور الشهداء تغطي وظيفتها، وفي الأرقام- قيل للشعر- أن سكان سورية أصبحوا 68 % إناث والباقي ذكور قيد الموت في العسكرية النظامية، والمعسكرات المعارضة.
الحياة بدأت طيشها باختراع حلول بذيئة غالباً. مثلاً: هناك فتوى تشبه قراراً بإلغاء الحب، وهي تعدد الزوجات حلاً لكثرة النساء. ولكن أين هي حسابات قلة الزاد وطول الرحلة؟
الحياة تقدم النهار السوري بمجزرة. وأحد الشعراء، حين أرادوا قتله هو وابنه، خيروهما، فقط، من تريد أن يموت أولاً، وحين قال الشاعر: أنا، قتلوا الابن أولاً… فسقط الشاعر على الأرض إلى جوار السكين، ومات.
وشاعر أخر خطفوا طفلتيه، وقتلوا الأم وها هو يحاول بعد عودة الطفلتين أن يكتب نص النسيان.
في العصور الوسطى لم يقتل أبو العلاء المعري، وهو مؤسس «جحيم الغفران» و«جحيم دانتي»… ولكنهم، في العصور الحديثة قطعوا رأس تمثاله في مدينته «معرة النعمان».
الحياة تقدم الليل السوري… برداً دون سلام من دفء ونار أو حنان. فيذهب الشعر إلى وسادته مرتجفاً، لأن ما يحدث لا يدخل من نوافذ الشعراء إلى مكاتبهم، ولا يوزع عليهم وعداً بغدٍ أفضل… ما يحدث لا تصفه الكلمات، ولا تصوره الأفلام، ولا تحيط به شهادات الشهود:
السكين ليست مفردة محببة في «نص» لأنها ليست كذلك على «رقبة».
لا أدري إن كان بوسع الشعر، في يومه العالمي، أن ينتبه إلى نداء استغاثات السفن الموشكة على الغرق، بدلاً من توزيع الدواوين الشعرية، ونسيان أدوية ضرورية، ليس للأفواه الجائعة، وليس للقلوب المحطمة، ولا للكبد والجرب، وفقر الدم… وإنما أدوية من أجل استعادة الرحمة بين البشر، ومن نوع إعادة الاعتبار للضمير. ولمفردات الحس الفردي أمام مشاهد قدمتها الكارثة السورية كاملة الوضوح، وواضحة الحلول. ولكن ما تزال أوروبا لا ترى في سورية إلا رئيس جمهوريتها.
«سيدي العالم» إن بين السوريين شعراء، لا يعرفون كيف يتدبرون ثمناً للورق والأقلام، أو كي بورد لكمبيوتر عتيق. ولكن ليس هذا هو المهم. المهم هو أن يعي العالم الحديث هذه المنظومة القديمة من العقوبات… العقوبات التي لا تفرق بين بريء ومتهم، بين شعوب وحكوماتها، بين زمن الجدوى من العقوبة، وزمن تحولها إلى مأساة.
«سيدي العالم» إن المطر يبلل الصالح والشرير على السواء. وعلى الأغلب يبلل الصالح أكثر، لأن الشرير يكون قد سرق مظلته.
وهكذا هي عقوبة الحصار على سوريا.
نحن، الشعراء، بدأنا نختنق من شدة النقصان، من عتمة بيوتنا، وظلام قلوبنا.
نحن، الشعراء، ستختفي كلماتنا في فداحة الأشياء، وأعماق شرورها، واتساع بشاعاتها. وسيبقى وقت قليل، وقت صغير ومسكين، لا لتمجيد أي شيء، ولا لهجاء أي شيء، بل للوقوف على أطلال، وللرثاء بجمل قصيرة في فيس بووك بارد.
«سيدي العالم»
أنا بالرغم من كل ذلك… ذلك الذي كان ينبغي ألا يحدث… سأتبع هذه الوصية الصغيرة للطيار والكاتب الفرنسي- صاحب الكتاب الساحر «الأمير الصغير» أنطوان دو سانت أكزوبيري:
«أكتب بخط رفيع، وحروف مسالمة، حتى وأنت تقرع طبول الحرب. ففي وسط الضجيج العالي، توجد بصورة أبدية، همسة ما تشبه التبشير بقدوم الأعزاء الغائبين».


عن المعنى والشاعر –
د. محمد بن عبدالكريم الشحي –

سأتحدث عن المعنى، المعنى الذي ظل الإنسان يبحث عنه من قبل ومن بعد فكتور فرانكل (1)، هذا المركب، والنسبي، المابيني، والذي أعطى ظهره للعديد من تطلعات الكائن وتهرّب من حدوسه، المعنى الذي «قصداً أو سهواً» تم الزج به في الجاهز من منعرجات الروح الإنسانية الباحثة عن جمالها الأول وبراءاتها الجبليّة، فمن يستطيع أن يثبّت المعنى على صخور الحياة الملساء في هذا الراهن المراوغ؟
دعونا هذه المرة نؤمن بالشاعر، فهو إنما سمي بالشاعر لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره كما يرى ابن رشيق في العمدة، تنبعث بالأمان الطري روح الشاعر وتنسرب في الماوراء متجاوزة صرامة المرئي ومحدوديته باحثة عن جذور الماهيات، ونواتها الأولى، متلمسة الزغب الذاهب إلى منابت الحياة، مرتبة مدائحة ومناحاته على حدٍ سواء، لا لشيء، إلا لتنقلنا من غبش الملتبس، وترصدات غبار كثيف يقترب من اتخاذ هيئة أعمدة المعابد القديمة وهي تهوي، تنقلنا لمكان بعيدٍ عن جفاف الآفاق وندرة الضوء و تباعد الرموز، هل قلت الرموز؟ إنها لا تليق إلا بالشاعر وإحالاته وكأنها الجداول التي تأتي بالماء من الغدران القريبة لتعيدها إلى قلب النبع، لابن عربي:
إلا إنّ الرموز دليل صدقٍ على المعنى المغيّب في الفؤادِ
بالشعر نسبر مجاهيل المعنى الذي يعطي الحياة اكتمالاتها، ذلك لأن الشعر بتعبير أدونيس « لا يجيء من معلوم مسبق، وإنما يجيء من مجهول لا ينكشف بشكل نهائي لأنه في حاجة دائمة إلى الكشف» (2).
تحتاج الخليقة للشعر لكي تتشبث بالحياة أمام أعدائها، ولكي نصل إلى جوهر الدلالة ولب القصد والنفاذ إلى الكينونة الناصعة التي لم تتشوه بعد، علينا أن نؤمن بالشاعر إذا، فأنه «ليبدو لي أمرًا لا جدال فيه أن اللغة الشعرية تتمتع بصلة خاصة فريدة بالحقيقة» (3).
وإذا كان الشعر قائما على التخييل كما يعتقد ابن سينا أو قائما على المحاكاة كما يعتقد أرسطو، فلا يمكن تجاوز جماله الدفاق الذي يأتي من النبع المحفوظ والذي تنحدر من العلاء مياهه المعظّمة لتذيب قبح الحياة وتغسل انكساراتها ولأوائها.
الشعر هو غريزة البحث عن المعنى، هذا الذي تاه طويلا في بطون المتون وجدلها المفضي للجدل، لغة الشاعر وحدها ما يهب له صورته المثلى الأولى، التي عبرت عنه وتركته حتى يبرد كالنقش في قبة التخيّل، خصوصا أن الشعر له «الأسبقية في الكلام البشري» كما في كتاب جنوح الفلاسفة الشعري (4). مؤكدا ما ذهب إليه جان جاك روسو: «في البداية لم يتكلم الناس إلا شعراً،ولم يخطر ببالهم أن يفكروا إلا بعد زمنٍ طويل» (5).
في الشعر لا تبدو الحياة مواجهة فحسب، إنها قمرٌ دائخ في الحلكات البعيدة، قصة تخلصت من منطق السرد واتجهت نحو شغب التداخل واللامتراسل، والمضمرات التي ليس لها نتوء يدلّ عليها سوى قلق الشعرية، في الشعر يعاد إنتاج المعنى لنبصر الوجوه المتعددة، ونتخلص من نرجسية المعنى الأوحد، وإذا كان التوحيدي يرى المنطقَ نحوا عقلياً فالشعر له نحوه الحُلُمي الذي تباشر من خلاله الظواهر التمدد و ترويض الاستحالة ومعرفة التخوم والمطلقات.
مؤمن بك أيها الشعر وبخلاصاتك، خصوصا تلك التي تترك ندوبها في الروح، فاحرسنا أيها الشعر، وانصت أيها الشاعر لصالح العامري وهو يحذرك، يحذرك من الشاعر الذي بين جنبيك لتبقى مخلصا لمعنى جمالك الأول:
«حتى الغابات عارية الأمداء: صار لها مكياج حتى الليل المستأنس في وحشتها صار بريد القتل حتى اللص الداعر فيها: يمسح لحيته ويشيل مسوح الكاهن. حتى الفنان الطالع من صلب الشجرة: صار يقوي حنجرة الويل ويعضد قلب القيح الكافر حتى الشاعر: صار يمسد غيلان الديجور كي تأكل قلب العصفور» (6)

1. فكتور فرانكل مؤلف كتاب: الإنسان يبحث عن المعنى
2. أدونيس، الثابت والمتحول، دار الساقي، الجزء الرابع، الطبعة السابعة، 1994، ص:246.
3. هانس جادامر، تجلِّي الجميل، ترجمة: سعيد توفيق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997، ص:224.
4. كريستيان دوميه، ترجمـــة : ريتا خاطر،المنظمة العربية للترجمة،بيروت، ص:45.
5. جان جاك روسو:محاولة في أصل اللغات، ت:محمد محجوب، الدار التونسية للنشر، 1984، ص:36.
6. صالح العامري: بريد الغابة وحيوانات أخرى، بيت الغشام للنشر والترجمة، 2015، ص:48.


إلى طفلي الذي لم أنجبه: لن أخدعك بسحر الكتابة.. لكنها اللذة !
سعدية مفرح –

ليس هذا النص هو الذي أعددته للنشر. كنت قد كتبتُ رسالة مبهجة مليئة برائحة الزهور وألوان الفراشات وضحكات الدببة الصغيرة وأزياء باربـي، بالإضافة إلى ألعاب الأجهزة الذكية وصور أشهر لاعبـي كرة القدم في العالم وشعارات فريقي برشلونة وريال مدريد، و… و..، وكل ما يعشقه الصغار كما أظن، لكي أدلف من خلال تلك الأشياء المحببة لهم إلى عالمهم، فأضيف له شيئاً جديداً ربما يستبدلونه بكل تلك الأشياء عندما يكبرون؛ الكتابة.
ولكنني لم أستطع أن أستمر في متاهة الخديعة طويلاً.
عندما اقتربت من حدود الألف كلمة وأنا أكتب، توقفت فجأة. أزحت لوحة المفاتيح من أمامي ثم قرأت ما كتبته عن أفانين الكتابة التي تحول سواد الكرة الأرضية إلى اللون الوردي، فعدت لأظلِّل الكلمات ثم أضغط على أداة القتل القابعة في أقصى يمين لوحة المفاتيح «ديليت». اختفت الكلمات المبهجة في تلك اللحظة إلى الأبد.
الكتابة ليست سحراً. والكاتب ليس ساحراً. أعني أنها ليست ذلك العالم السحري الجميل الذي نتفنّن، نحن المولعين بها، في تزيينها أمام الآخرين لنبدو أمامهم، ربما، وكأننا الأكثر قدرة على اقتناص اقتراحات الحياة الأجمل من خلالها. قد ننجح في خديعة الكبار، وكثيراً ما فعلها ممن سبقنا إلى الكتابة وخدعنا، لكنني لست واثقة أنني سأفعلها مع الصغار الذين ينبغي أن أوجِّه هذه الرسالة لهم.
وإن فعلتها.. فمن يدري بتفكير هؤلاء الصغار عندما يكبرون ويصبحون قادرين على قراءة رسالتي؟
بأي حجر سيرمونني أو يرمون ما تبقّى مني على هذه الأرض، عقاباً لي على ممارسة الخديعة مع سبق الإصرار والترصد والمجاهرة، ومن دون الاختباء وراء قصة أو قصيدة مثلاً؟
أعرف أن الأبناء عادة يغفرون لأمهاتهم بعض كذباتهن الصغيرة، بل والكبيرة أحياناً، عندما يكبرون.
لكنني لست أمًّا!
لطالما قلت للآخرين إن هذا خياري الذي أصبح قراري لينتهي وكأنه قدري النهائي، وأنه يناسبني تماماً، حتى إنني أتذكر متى اكتشفت أنه يناسبني. كنت قد انتهيت من إعداد مسودة كتابـي الرابع «مجرد مرآة مستلقية» عندما وقفت عند تلك الدرجة التي تودي بـي إلى ما أصبحت أعبِّر عنه لاحقاً بأنه مهوى الردى. فكرت أن يكون ذلك الكتاب الذي كنت أراجع نسخته التجريبية الأخيرة قبل الطباعة هو البديل عن أن أكون مهيأة للأمومة ربما، فأصبح البديل والمنقذ في اللحظة نفسها.
لا نختار أقدارنا، لكننا نختار كلماتنا ونستطيع ببساطة أن نجعل من تلك الكلمات تبدو وكأنها أقدارنا.. وتلك هي الكتابة. كتابتي على الأقل، والتي لا بد أنني أحاول رسم ملامحها الآن لأزيِّن صورتها لك يا صغيري الذي لم أنجبه وأعرف أنه لن يكبر ولن يقرأ تلك الكلمات أبداً.
هل تغيرنا الكتابة فعلاً؟
هل نتغير بها؟
أم نتغير فيها وحسب؟
تستهوينا حياتنا المرتبة، رغم فوضويتها أحياناً، على الورق. ويغرينا أن تبدو أمام القارئ وكأنها فردوسه المفقود. ندجّجها بالعِبَر والحِكَم التي نفترض أمام ذلك القارئ الضحية أننا استخلصناها من الحياة، فنسهم في خداعه ذلك الخداع الشهي الذي يجعله يتلمس أطراف الأوراق الخضراء فتتندى أصابعه ويفرك جناح فراشة ملونة حطّت للتو على حافة الكرسي القريب، ولعله يغني مع بلبل عابر بين الأسطر فتعبق رائحة غابة استوائية عربش أغصانها على الجدران بينما يمسك بكتابه بين يديه.
الكتابة تفعل كل هذا فعلاً يا صغيري الغائب للأبد، تخدعك لأجلك. ترسم لك حياتك المشتهاة وتغويك لإعادة إنتاج المادة الإنسانية الخام والتي خلق الله عليها جدك الأول ضمن سياقات الجنة البعيدة في الزمان الأول والزمان الأخير.
صحيح أنها لن تعيدك لإرث جدك المفقود في فردوس الغواية الأولى، ولكنها على الأقل تذكرك على الدوام به، وتهبك جنان أخرى بديلة في السحر والدهشة والحركة المستمرة نحو الأعلى.
ستقرأ هذا الكلام يا بنيّ، الذي لا أعرفك لأنني لم أنجبك، بعيون صغار حقيقيين لم يكبروا بعد لكنهم على الأقل نجوا من غيابك الأزلي، كما يفترض أنهم نجوا أيضاً من الزلازل، والبراكين، والمباني المتداعية، والبرد المفاجئ في عراء الفقر، والجوع القاتل في فساد الأزمنة والأمكنة والآخرين، والأمراض التي تختارهم بعناية من دون أن يوفّر لهم الكبار ما يوازيها من عناية.. والحروب بأشكالها.
قل لي يا صغيري الذي كبرت في الغياب بعيداً عن عنايتي، كيف بالله عليك يمكن للكتابة أن تنقذك وأصدقاءك الحاضرين والغائبين من تلك الحروب مثلاً؟
كيف لكلمات تستوي على عروش الروح أن تحمي الجسد من شظايا قنبلة عنقودية؟
وكيف لها أن تعيد اللوعة على الورق بإحساس الأمومة المفطورة القلب لحظتها؟
لطالما وقفت أمام أيقونة القلب المفطور في أجهزة الهواتف الذكية لأسمِّيها بقلب الأم. وكثيراً ما استخدمت تلك الأيقونة في رسائلي الهاتفية للتدليل على الأم. وها أنذا الآن أختبئ وراءها لأتقمص ذلك الدور ولو لربع ساعة أكتب فيها رسالتي إلى طفلي الذكي.. الذي سيكبر يوماً وهو يحب القراءة والكتابة تأثراً بأم لم تلده. طبعاً سيسعدني جداً أنه كبر وتفتحت روحه في حبر الكلام المكتوب، حتى وإن اكتشف أن الكتابة لن تغير العالم كما قد تغيره قنبلة ذرية، وأن الكرة الأرضية ليست مكاناً مناسباً لنمو الصغار مثلاً، بالرغم من أنها تعج بعدد كبير جداً من الشعراء والكتاّب والكتب والمكتبات. صحيح أننا بوجودهم وبوجود ما يكتبونه أصبحنا أكثر قدرة على احتمال بعضنا البعض، لكن عيون الأطفال الدامعة والحزينة والمنطفئة والمفقوءة والميتة ما زالت تلاحقنا لتكشف عجز كل الكلمات عن تصوير لوعتها الحية حتى في مواتها المعذب. وها هي عينا طفلي الذي لا بد أنه سيشكرني في العدم لأنني لم أساهم في وجوده ضمن سكان الكرة الأرضية تلمعان في وجداني من خلال ملامح أطفال عبرت أسماؤهم بين الكلمات العابرة لتصنع مجدها النضالي في لحظات معينة.
تحاصرني الوجوه وتختلط عليّ في لحظة الكتابة لأختار من بينها ما لا يمكن اختياره.
تحاصرني ذاكرتي بالأسماء فتختلط لتظهر وتغيب دامية أو خائفة أو ميتة. تطل من شقوق تلك الذاكرة أو من فجائع الكلمات المكتوبة عن سنوات الحروب والتهجير والمذابح في كل مكان ومنذ أن عرفت معنى الزمان.
لأطفال فلسطين الركن الأهم في مشهدي المتغير دائماً، لكن الآخرين كثيرون وموجوعون أيضاً وميتون.
في سوريا، وفي مصر وفي اليمن وفي العراق، وفي الخليج والمحيط، وفي العالم البعيد خارج الوطن المتشظي على خريطة العرب أيضاً، وبالقرب مني تماماً.. في وطني حيث أعود من عملي لمنـزلي في الجهراء كل يوم لأصادف طفلاً كان من المحتمل أن يكون هو طفلي الحقيقي جالساً على الرصيف ليبيع ما يتيسر له ويشتري حلمه الكبير بوطن، فكلمة «بدون» لا تبدو له اسماً مناسباً لوطن!
هل تستطيع الكتابة مثلاً يا صغيري القابع هناك في زاوية من زوايا الانتظار أن تمنحك وطناً حقيقياً يحبك ويعترف بك كما تحبه وتعترف به على سبيل المثال؟
لقد خدعتك أيها الطفل الجميل، رغم عينيك الفزعتين، مرة عندما وعدتك كاذبةً أنني سأنجبك. أعرف أنني أقسمت لك على ذلك وأنا أختار اسمك الموعود من جلال التاريخ وبهاء القصائد، لكنني حنثت بقسمي وأخلفت وعدي ببساطة، ولن أفعلها ثانية. لن أخدعك مجدداً فأعدك بجنة طافية على بحر من السعادة ستضمنها لك الكتابة في نهاية خدمتك لها. فقط سأخبرك بسري الصغير معها؛ اللذة.
أقولها لك وأنا أستعيد كل اللذائذ المذهلة التي منحتها لي الكتابة بكل أشكالها لمجرد أنني أحببتها، وجعلت منها جناحي الذي ساعدني على التحليق بعيداً جداً نحو الأعلى.
كثيراً ما فكرت أن تلك اللذة بالذات هي جنتي الموعودة في ذلك الطرف القصي من وجودي كله على هذه الأرض، ومن الأمومة التي لا أجيد منها سوى أن أكون ذلك القلب المفطور.


شعراء يطوفون بأقداح الشعر ليسقوا العابرين نبيذ الحياة –
مسعود الحمداني –

كلما قطفنا وردة من حقل الكلام، أزهرت وردة أخرى..
هو الشعر الذي لا ينتهي، السير باتجاه الشمس، وصولا إلى الخلود..
ألف شاعر يمرون علينا كل يوم.. ويرحلون..ولا يبقى سوى الشعر..وبعض الأثر..
هكذا هم مرتادو الآفاق يبحرون إلى حيث لا أحد.. يهمسون لليل، وللنجوم، وللحبيبة..
مارقون كما سهم، مراوغون كما قمر وحيد.
يلبسون ثياب الكلمات، ويغرسون شتلات الروح، ويغادرون بعد أن يتركوا بعضهم في قلوبنا..
الشعراء وحدهم الذين يصنعون العالم الأجمل، وحدهم الذين يقطعون فيافي الخيال، ويركبون خيول المعني.
صعاليك يحتاجون إلى قطع طريق القصيدة، وينثرون حبيبات القمح على سفوح الحروف، ليلتقطها طير العشق الذاهب إلى أبديته.
ألفُ شاعرٍ يمرون دون أن يتركوا أثرا..شاعرٌ يمر بألف أثر..

ما أفظع أن يتحوّل الشعر إلى قاتل، يتربّص بضحاياه، ربما لأن بعض الشعراء يؤمنون بما يقولون حد الموت، بعضهم يقول ويفعل، وآخرون يقولون ولا يفعلون، وفريق ثالث لا يقول ولا يفعل!!

هكذا هو امرؤ القيس الذي قتله عشقه وطموحه وشعره:
بكى صاحبي لما رأى الدربَ دونهُ
وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
فقلتُ له: لا تبكِ عينكَ إنما
نحاولُ مٌلكاً أو نموتُ فنعذرا
وهكذا هو المتنبي الذي قتله هو الآخر شعره وطموحه:
إذا ترحّلتَ عن قومٍ وقد قدروا
ألا تفارقهم.. فالراحلونَ همو!
وهكذا هو طرفة بن العبد الذي راح ضحية ثقته بالآخرين:
الخيرُ خيرٌ وإنْ طالَ الزّمانُ به
والشّرُّ أخبثُ ما أوعيتَ من زادِ
هكذا يتحول الشعر إلى قاتل، ويتحول الشاعر إلى طائر نورانيّ، يرسل عبر الزمن رسائله، يتناقلها الناس، ويعيشونها، وقد لا يعرفون قائلها، وهذا هو منتهى نكران الذات للشعر، رغم نرجسية الشاعر، وغلوّه، وغلواءه أثناء حياته.

ولعل يوم الشعر الذي ابتكره العالم، محاولة منه على التخلص من كل شيء مادي، والجلوس برهة من الزمن على أطلال الحياة وبساطتها، محاولة لا أكثر للاختلاء بالذات بعيدا عن عالم من الحروب والقتل والدمار، محاولة للعيش ولو للحظات.

حاولت فنون الأدب الأخرى سحب البساط من تحت أقدام الشعر، وقال القائلون أن الشعر قد مات، وأن الزمن زمن الرواية، غير أن ذلك لم يكن سوى ثرثرة لا أكثر، فالشعر لا يموت، والناس بحاجة إلى كلام يخرجهم من صرامة الكتابة، ورداءة الحياة إلى موسيقى تزرع الحنان والحنين في دواخلهم، إنهم بحاجة إلى أكثر من النثر ليغتسلوا من أدران المادة، ويعيشوا في ملكوت الخيال.

ليس للشعر مكان سوى القلب، وهذا ما لا تستطيع الفنون الأخرى فعله، ليس بمقدوري حفظ قصة قصيرة، أو رواية أو مسرحية، ولكني أستطيع ببساطة أن أقتطف زهرة من حقل الشعر، فأحفظه، وأستخدمه كسلاح حين أحتاجه في موقف إنساني ولو بعد حين..فمن منا لا يحب الجمال، والمغامرة وراء طائر الرخ، نحو سماء لا أفق لها، وبحر لا قرار له، وصحراء مترامية الأطراف لا حدود لرمالها..
هكذا..يأتي الشاعر محملا بكنوز المعرفة الإنسانية، مخضبا بحناء التجربة، ممتطيا حصانا أو جملا أو سيارة فارهة لا يهم، كل ما يهمنا هو ما يبعثه الشعر من جمال، وما ينثره من أريج في غصون القلب، ووجدان الروح.
تماما حين يأتي أبو مسلم البهلاني ليقول:
متاعي رجعُ الطرفِ منها وكل ما
يسرّك من عيشِ الزمانِ قصيرُ
وبي من تباريحِ الجوى ما شجا الهوى
وذلك ما لا يدّعيهِ ضميرُ
وفت لرسيسِ الحبِ بالصبرِ مهجتي
وما كلُ من شفَّ الغرامَ صبورُ
أو كما يكتب محمود درويش على جداريته:
سأصيرُ يوماً ما أريد..
سأصيرُ يوماً طائراً، وأسلّ من عدمي وجودي..
كلّما احترق الجناحانِ اقتربتُ من الحقيقة، وانبعثتُ من الرماد..
أنا حوار الحالمين، عزفت عن جسدي وعن نفسي
لأكمل رحلتي الأولى إلى المعنى،
فأحرقني وغاب..
أنا الغياب.. أنا السماويّ الطريد

أو كما يفعل لوركا الأسباني حين يشرق بماء القصيدة :

أكثر الأفراح
حزناً
أن تكون
شاعراً …
كل الأحزان الأخرى
لا قيمــة لها
حتى المـوت.

هكذا يتناسل الشعراء من رحم الإبداع، وينزفون مواجع الأحلام، ويرسلون شواظا من كلمات إلى أزمنةٍ بعيدة لم يعيشوها، وعوالم لم يروها..فالشعر يمنحك الخلود، ولا يهم كم سنة لبثت على الأرض، المهم كم قرنا عشت بعد موتك..
شعراء ماتوا صغارا، سنوات قليلة عاشوها (طرفة بن العبد، أبو القاسم الشابي، لوركا.. وكثيرون غيرهم).. ولكنهم ما زالوا يعيشون بيننا، يأكلون، ويشربون، ويرفرون على نخيل الكتابة.. شعراء غابوا، وآخرون وُلدوا، وجاء بعدهم أسراب من حمام يصطاودن المعنى من على شجيرات الخيال، ويطوفون على أروقة الحلم، ليأتوا بنبيذ الكلام، يصبونه في أقداح العاشقين، ويلوحون بأيديهم للذين ما فتئوا يرحلون إلى غير رجعة.
____
*المصدر: جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *