نهاية حمار شجاع

خاص- ثقافات

رضا نازه*

رفع رأسَه العظيمةَ وأخذ نَفسا عميقا حبَسَه في رئتيه، ثم عاد يعُبُّ الماء عبًّا قويا ناعما هادئا. الحمار جنتلمان، لا يعكر صفوَ الماء بأنفاسه ويشرب بذوق عالٍ. رغم ضحالتها بقيت البِرْكةُ رقراقة وقد غسلتها للتو زخةُ مطر وصقلت ماءَها بماءٍ.

 ما الذي أتى به هنا وسط الأجمة وهو الداجنُ الأليف. تيهٌ أم استكشاف أم صبوة لأنثى الزَّرَد؟ مَرَّ على مقرُبة منه أرنبٌ يركض ويقرعُ بقوائمه الترابَ حتى تطاير. استرسل الحمار ولم يأبه. أمالَ رأسه وتأمل انعكاسَها على صفحة الماء بعينيه العسليتين. كأنما تبسم. الفرق بينه وبين الحصان في الدرجة لا في الطبيعة. بينهما عمومةٌ ومصاهرة ودمُ بغال. رفع بصرَه في السماء، قلما يرفعه في زرقتها ورحابتها من فرط الكد والكدح والنظر الأفقي. غمرَه إحساسٌ عارم بالحرية تاه به عن حقله والمحراث والصراخ والنباح..

غمس شفتيه من جديد في صفحة البركة لا ليشرب، بل مكث يتحسس نعومة الماء. داعبته البرودة والرطوبة. ما لبث أن أثاره حضورُ ظِلٍّ غريب أمامه على الضفة الأخرى. رفع رأسه ليرى أسدا كامل الأوصاف منتصبا ينظر إليه. كأنه هناك منذ البداية. أكُلَّ هذه الغفلة في حضرةِ كُلِّ هذا الخطر؟

بماذا يصفه وكيف؟ لو كان يعرف أسماء الأسد لاختار له أضخمَها حروفا وجرْساً وبنية. هزبر، بل ضرغام، بل غضنفر، بل قسورة تفر منه الحُمُر الوحشية اليقِظة المستنفَرة، لكنَّ حمارنا رمادي أليف..

وهو يمعن النظر في لِبْدة الأسد وعينيه الثاقبتين قبل مخالبه سَرتْ في جسده قشعريرة صارت رعشةً ثم رعدةً ثم زلزالا في كيانه وقد تخيل نفسه تحت الناب وفي قبضة وحش لا تنفع معه “أرجوك” أو “عافاك”، ولا يُجدي الترحم على أمه وأمه أستاذة الصيد ولا على أبيه وهو حتما قد طرده من العرين أو قتَلَه وتَأوْدَبَ** دون حرج وحل مكانَه.

تمالك الحمارُ نفسَه وتظاهر بالشرب تمهيدا لإطلاق قوائمه للريح، لكنه إذ طأطأ رأسَه لاحظ أن الأسد الواقفَ تراجعَ شيئا ما وتقهقر كالمتوجس. طأطا الحمارُ من جديد ثم رفع بقوة فإذا بالأسد يهتز ويتراجع في خوفٍ، رأيَ العين. اندهش الحمار. كيف لحركات بسيطة منه أن تجعل أسدا يتراجع. هل انقلبت الموازين؟ تراجع الحمار قليلا عن مكانه ثم صَفَنَ بحافره الأيمن كفرس ملكي ذي أبهة وتِيهْ فإذا بالأسد هو يُطلق قوائمَه للريح. تأكد أن الأسد من النوع الجبان على ضخامة جثته. جبان أم لعوب؟

نرجسية الحمار وإحساسه لأول مرة بوميض فخامة جعلاه يستبعد كل الفرضيات ليُبقي واحدة. الأسد جبان. “يِيسْ آيْ كَانْ!!” وافرحتاه.. هذا أوان البرمجة اللغوية العصبية. أنا حمار مخيف. أنا حمار مرعب… طرب حمارنا وسَكِر وانتشى وشفى غليلَه من مسلمات الوراثة وجنايتها..

غير مبالٍ، قفز وسط البِركة وكدَّر ماءَها بحوافره وهو الذي لم يكدرها قبل قليل بشفتيه، وانطلق راكضا خلف الوحش الهارب ناهقا سعادتَه وقدرتَه الجديدة وسطوتَه..

ركض الأسد مسافةً بين الأشجار والحمار وراءه بإصرار. كان إصرارا دون هدف، أو هدفُه في ذاته. لم يكن يتصور أنه سيقبض على الأسد وحتى لو قبض عليه هل سيلتهمه كما لو كان الوضع معكوسا.. أنى له؟ المسكين سيبقى ثدييا عاشبا غير نادر مهما فعل..

بلغ الأسد دارةً شاسعةَ غير مكسوة بعشب أو شجر، وكان في طرفها صخرةٌ عملاقة قصدَها بسرعة. ظن الحمار أن الأسدَ قد بلغ منه الرعب والتعب مبلغا حتى أراد أن يعتصم بقمة الصخرة ويحتمي من بطش حِمارِيٍّ محتمل، لكنه وهو يدنو منها بدا للحمار أن في أسفلها غارا حين بلغه الأسد انسلك فيه وهو يصرخ صراخَ المرعوب بحق وصدق، فزاد حماسُ الحمار.

تبعه ينهق في الغار وصدى نهيقِه يتردد في الدهليز كزئير معكوس، حتى وجد نفسه في باحة كهف واسعة تضيئها شمسٌ مطلة من فتحة عريضة أعلاه. هناك وجد زمرة أسود ولبؤات وأشبال في حلقة واسعة. كان كل واحد منهم يمسك بين أظافره كَارْطَة وينظر بعضهم لبعض في صمت ومن حين لآخر يغمز أحدهم الآخر خلسة فيقول المغموز “أنا مِت” ويضع ورقته وينسحب من لعبة “القاتل”

التفت الأسد الهارب إلى الحمار المذهول وقال له “كما ترى يا صديقي.. لقد خسرتُ شوطا من اللعبة فحكموا علي أن آتي بحمار دون خدش ..”

ووضع الأسد كفَّه على عينيه في استحياء!

________

قاص من المغرب

**نسبة إلى عقدة أوديب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *