خاص- ثقافات
*عمر ح الدريسي
يقول الكاتب الروسي الكبير- فيودور دوستويفسكي، “الأفكار تنشأُ من الألم، والألم ينادي الأفكار، فإذا كان الإنسان سعيداً، هذا يعني أنه لم يفكر قط.”. واللغوي الكبير في تراثنا العربي، ابن جني، سبق له وأن شبه “الشاعر”، بِـ “المُقاتل”، أي “المقاتلين الشجعان المغامرين الذين خرجوا على النماذج القائمة ولم يرضوا أن يكونوا، وهم الذين تميزوا عن غيرهم، كأبي تمام وأبي نواس.. وغيرهم”.
والخليل ابن أحمد يقول، “الشعراء أمراء الكلام يصرّفونه أنى شاؤوا، ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف اللفظ وتعقيده، ومدّ المقصور وقصر الممدود، والجمع بين لغاته، والتفريق بين صفاته، واستخراج ما كلّت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه، فيقربون البعيد ويبعدون القريب، ويحتج بهم ولا يحتج عليهم”.
ويورد البيهقي: “الشعراء أمراء الكلام، يجوز لهم شق المنطق وإطلاق المعنى..”، وهذا الشاعر، محمود درويش لحبيبته “يقول لها: انتظريني على حافة الهاوية تقول : تعال.. تعال! أنا الهاوية..”، فالشاعر الحقيقي، لا يترك للغة منطوقها، بل يُحمل كل لفظة ما لا تتحمله، يُحملها نظرة من يرى، من فوق الأعالي، ويتلقف من الأعلى عمق العميق، مثل الصقر حين يسبح في السماء وهو بعينيه يستهدف الطريدة من قاع مجرى النهر أو باطن دهاليز البحر.
ولهذا نقرأ تعريف الشعر في كتاب “تاج العروس”، “إنه الدراية، والعقل، والفطنة، وهو العلم بدقائق الأمور، والنفاذ إلى ما لا تنفذ إليه بصائر الناس. وقيل في سبب تسميته شاعراً: إنه يشعر بما لا يشعر به غيره، وبأنه يعلم. “.. !؟.
الفنان الأمركي مارك روتكو، الرسام المُعبّر حقاً عن “التراجيديا التي يعيشها الكائن البشري في القرن العشرين”. يقول “أنت تُعانى من الحُزن بداخِلك ، وأنا أُعاني من الحُزن بداخلي، .والأعمال الفنية، هى الأماكن التى من المُمكن أن تلتقي بها أحزاننا ، حتى يشعُر كُلّ منّا بالحُزن بصورة أقل…!!”.
هذه القولة تبعثني مباشرة إلى العالم النفساني سيغموند فرويد الذي يقول، “إن الشعراء والروائيين هم أعز حلفائنا، وينبغي أن نقدر شهادتهم أحسن تقدير، لأنهم يعرفون أشياء بين السماء والأرض، لم تتمكن بعد حكمتنا المدرسية من الحلم بها، فهم في معرفة النفس شيوخنا، نحن الناس العاديون، لأنهم يرّتوون من منابع لم يتمكن العلم بعد من بلوغها “.
ويقول الفيلسوف، الحكيم ياشلار ” كم سيتعلم الفلاسفة لو وافقوا على قراءة الشعراء “، بشلار هذا الذي كانت له رؤيته الخاصة حيث حاول تأسيس “علما للشعر”، اعتمادا على التحليل النفسي الظاهراتي أو الفينومينولوجي ، يقول في كتابه، ” شاعرية أحلام اليقظة، “الشعر أكثر من متعة، وجمالية اللغة، انه يحررنا من قبضة الزمن و مخاوفه”، والشاعر فريدريك نتشه يقول عن كتابة الشعر، “لكتب بدمك”، ربما هو عالم بموقف أفلاطون وتربية المواطن في أثينا، وموقفه من الشعر والرواة، وعالم أيضا بموقف سقراط الذي يقول عن الشعر في الندوة Simposio، “يتدفق على طول خيط صوف من كوب ممتلئ إلى كوب فارغ.”… !!
وجمالية اللغة هذه، تُحيلني على أن اللغة، هي الخزان الوحيد والمعبر الدائم لتراث الشعوب والأمم، وهي المُعبر الفصيح عن حضارته السالفة أو الحاضرة أو حتى القادمة، ومن حيث الشعراء هم حتما وتوافقا، مُجترحوا اللغة، فإنهم، هم رسل تلك الشعوب عن حضارتها، مهما اهتموا بهم في حياتهم، أو بخلوا عنهم حتى انتهى أجلهم… !!
وقبل العودة للحديث عن اللغة الشعرية، ككلام سامي، لابد أن أتوقف عند معاناة الشعراء في بلدانهم وسأقف عند “الشاعر الروسي المعاصر ذو الثانية والثمانون عاما، يفغيني يفتوشينكو، الذي ترك روسيا منذ التسعينات ليكون مهاجرا في الديار الأمريكية، ويحاضر في أحد معاهدها الأدبية ، والذي لديه أكثر من 150 كتاباً، اغلبها مترجمة للكثير من اللغات ، ومن أهمها قصيدة “محطة براتسكايا” و”ماما والقنبلة النيترونية” وغيرهما، والفائز بجائزة جون كون، الصينية الأدبية، التي تمنحها أكاديمية الآداب التابعة لجامعة بكين إلى الشعراء كل سنتين. والجائزة هي لإنجازاته الكبيرة في مجال تطوير الشعر العالمي، والتي انطلقت منذ سنة 2006، وكُرم فيها الشاعر العربي السوري أدونيس.
وحين يعود الشاعر يفغيني يفتوشينكو بين الحين والآخر لروسيا، وخاصة العاصمة موسكو، ليبرهن على حضوره، وليقول لمنتقديه، انه لم يهرب في الزمن الصعب من بلاده التي صنعت منه شاعرا كبيرا، واشتهر باسمها، بل هو هناك في الجانب الآخر يطلب الرزق. وينتمي إلى ما يسمى بجيل الستينات، وصعدت نجوميته في عصر “ذوبان الجليد” و”هبوب رياح التغيير” التي أطلقها الزعيم السوفياتي الأسبق نيكتا خروتشوف، وتحولت قصائده وانتقاداته للبيروقراطية الحزبية، إلى آلية تغيير هامة.”…. !!
معاناة الشاعر لم تكن مع السوفياتي-الروسي، يفغيني يفتوشينكو وحسب بل، كان الشاعر العبقري الإنجليزي” توماس تشاترتون (1770-1772) Thomas Chatterton”، الذي وجد نفسه غارقاً في ديون لا يستطيع لها وفاءًا، وبالتالي يجد نفسه مُطارداً من قبل العديد من الدائنين والخصوم والسلطة، وعندما يحل بإنسان ما العوز المادي، فما بالك بِـ شاعر، تصور كيف ستُعاديه الحياة الأدبية في لندن ، ويعاديه المجتمع ككل خاصة وهو يعيش في عاصمة الرأسمالية والليبرالية أنذاك.. ؟
وحسب الكاتب المسرحي، الفرنسي ألفريد دي فيني (1797-1863)، “هذا ما فرض علي الشاعر “تشاترتون”، أن يتنكر تحت اسم مستعار ويستأجر غرفة في بيت تاجر جشع وقاس، يدعى جون بيل، ولولا تعاطف الشابة الحسناء كيتي، لعلها تناست شيئا، مما يرعبها، من معاملة زوجها القاسية، بل الوحشية لها، لكان قد استعجل قرار الانتحار الذي سيقدم عليه لاحقا، لولا أن صديقاً له من أتباع طائفة “الكويكر” المتسامحة والتواقة دائماً لمساعدة الناس في محنهم، يقرر أن ينقذه مما هو فيه، من يأس وتشاؤم، فيتدخل كاشفاً له، على سبيل العزاء، كم أن كيتي تحبه من دون أن تجرؤ على البوح بذلك. وإذ يعلم “تشاترتون” بذلك الحب الذي يعطيه أملاً في الخلاص من مصيره البائس، يجرؤ ويكتب رسالة إلى اللورد العمدة “بيكفورد”، صديق والده القديم، والذي كان يُخيل إليه أنه مستعد في كل لحظة لمدّ يد العون، طالباً منه أن يمده، باسم الصداقة الأبوية القديمة، بمبلغ من المال يمكّنه أن يستعيد حياته ويعيد توطيد سمعته. وبالفعل يقرأ اللورد الرسالة وينتقل إلى المكان حيث يبدو عليه أنه يتطلع إلى حل مشكلة الشاعر الشاب. غير أنه ما إن يصل، حتى يبدأ في التعبير عن احتقاره للشاعر وللشعر في آن معاً.
هنا يدخل “تشاترتون” إلى غرفته، ويتناول كمية كبيرة من الأفيون. في هذا الوقت تكون الشابة الجميلة “كيتي”، قد أحست بأن كارثة على وشك الوقوع، فتلحق به إلى الغرفة، وقد قررت أن تفاتحه بحبها لعل ذلك ينقذه… لكن الأوان قد فات، إذ ها هي تجده يحتضر بين يديها، فتسقط بدورها مغشياً عليها بين يدي الدوق “الكويكري”، وتفارق الحياة هي الأخرى.”… !!
من الواضح أن الكاتب المسرحي فيني، كان يتوخى من مسرحية الشاعر العبقري “تشاترتون”، أن تكون عملاً ذا رسالة فكرية واجتماعية واضحة. فهو هنا لا يريد أن يثبت شيئاً في عالم الفن. بل يريد أن يشن هجوماً درامياً كاسحاً على ذلك المجتمع المادي الذي وجده يحيط به. مجتمع ينظر إلى الفن والفنانين – وفي مقدمهم الشعراء – على أنهم أناس طفيليون لا فائدة منهم ترتجى، وبمسرحيته هذه خلد الشاعر أكثر، بل أراد من الشاعر الإنكليزي الشاب، أن يكون رمزاً للوضع العام الذي يعيشه الشعراء في المجتمع، علماً بأن جون بيل واللورد بيكفورد يمثلان بالنسبة إليه “حثالة تلك الطبقة البورجوازية المركاتيلية التافهة”، التي ترى أن المادة هي كل شيء…
الباعث، الباهت، اللاهث… على كتابة هذا المقال بمناسبة اليوم العالمي للشعر، ليس هو “غُبن الشعراء”، في زمن الرأسمالية وعصر ما بعد الحداثة، بالرغم من عظمة كل الشعراء حيث هم قابضون على ناصية وإلهام ومُخيلة الشعر”، ولا هم يُبالون لما يُقال وما يحدث لِ “إبعاد الشعر” بالرغم من سمو كلمه واجتراح عُلاه، وهل من جيد أنثى، يتجمل باللؤلؤ، أو بقطعة قراط واحدة منه، إن لم يكن قلب الجسد جميل وروحه الجسد الجميل أجمل منه…؟؟
ومهما يكن من صلافة وجفاء الزّمن المادي، الرّديء المَعْـنَى، فإن اللغة تبقى إن لم يكن الكلام منها أجمل، يكون أسمى ما يمكن للمرء أن يعبر ويخاطب به حسب “أرسطو”. ولكن الداعي الحالي، والواقع الأفاّق من حيث تُقلب الحقائق، ويصبح الأفّاك صريحا، وإفكه حقيقة، وعليه انزوى المثقفون من أماكنهم، حيث أصبح همهم، كسرة خبزهم اليومي أوجب للاستمرار في العيش، طبقا لمقولة زوربا لصديقه الحكيم ” أنا حر يا زوربا ؟ – كلا لست حُرّاً. كُلُّ ما في الأمر، أنّ الحبلَ المربوط َفي عنقكَ أطولُ قليلاً من حبال الآخرين”، وانكفؤوا بما ثروا به على قلته،في بيوتهم، بين أقربائهم الثُّـقات، وهل بقي من ثقة في زمن تقويل الأقاويل، من حيث لاهي قيلت فعلا ولا فُعلت واقعا.. !!
سياسيوا رأس المال، حيثما وُجدوا، القليل منهم، من يستطيع كتابة خطاب نثري بيده، لا أنفي على البعض منهم وهم قلة، سعة مداركهم وثراء معارفهم،و ثقافتهم العليا، بل والإنسانية العميقة، بل منهم من يجهرون بحبهم للشعراء ويتذوقون الشعر ويعظمون المنتسبين له، لكن أن يكون بينهم شاعر، فلعمري هذا نشاز، والنشاز لا يقاس عليه، وإن حدث، بدا الأثر واضحا بالإيجاب، إبداعا وعطاءا وتصرفا…أتذكر هنا خيبة أمل كل من الفنان شارلي شابلن من هجرته لأمريكا إثر أزمة 1929، وكذالك خيبة الشاعر الإسباني غارسيا مركيز الذي قال ” لوركا ” قبل الهجرة، “إنني أعرف الكثير الكثير، لكن في المعهد كانوا يعطونني صفعات هائلة…”، وقال بعد الهجرة: ” قال في مقالته ” الروح المبدعة “، “أن الشعر بحاجة إلى ناقل .. إلى كائن حي” .- و إنني الظلُّ الكبير لدموعي // يسقط ألف كمان في راحة يدي // ينبغى لنا أن نتألم لنرى أولادنا يكبرون // يا حب، يا عدوي،كيف يعض جذرك المر // لا تحملي ذكراك.دعيها وحيدة في صدري”…!!!
لكن السمة العامة بل البادية دوما، هو الخوف المريب من المرء حيث ثبت أنه “شاعرا”، فلم يعد الاحتفاء به، كما كان في قديم العصور، كفخر بين قومه، حيث هو الناطق الرسمي باسمهم، المعبر عن آمالهم وآلامهم، فخرا وحماسة وهجاءا وغزلا ومُقاتلا مغوارا حيث فُرض القتال… الخ. لهذا كان يُعترف للشاعر، نعم الشاعر الحقيقي بأكثر من سلطة معنوية كاريزمية، جعلته ينأى، بل يكون هو المُتعفف عن أي سلطة تمارس بين الناس، فهذا الشاعر امرؤ القيس، حين أتاه الناعي في وفاة أبيه الملك حُجرا ، لما قتلوه بنو أسد ، وهو كان في جلسة خمر يلعب النّرد مع احد نُدمائه، ليأتي ليخلف مُلك أباه، حيث أوصى بالوراثة للملك، لمن لم يجزع من أبنائه، فأخذ يُردد، ” ضيعني صغيراً، وحملني دمه كبيراً، لا صحو اليوم ولا سكر غداً، اليوم خمر وغداً أمر”… !! إنها رؤية ورؤيا شاعر، لا صحو اليوم لهول الخبر ولكن لا سكر غدا لتحمل المسؤولية، التي كان طليقا منها، بل أصبح عليه أولا واجب أخذ الثأر… !!
ففي هذا البيت الشعري لا من حيث صَدْره، ولا من متم عجُوزه، تبدو مقولة أهمية اللغة، “اللُغَةُ أَهَمُّ أَداةٍ مِن أَدَواتِ الحَضارَةِ”. إن الشعر هو الحافظ دوما لإجتراح الكَلم، ولحفظ معنى المعنى، وهو الذي يرفع التحدي دوما أمام دراسة التراكيب، حيث يتلكأ علم النحو والصرف، وجيء بما اصطلح عليه البلاغيون وعلماء الكلام “يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره…”، ربما لهذا السبب ولغيره من الأسباب تحدّث البعض عن ما اصطلح عليه بعض اللسانيين، كالأستاذ توفيق قريرة “كيمياء الكلام”.
لكن هل هذا “الكمياء الكلامي” لم يعد مُتاحا اليوم لأصحابه الحقيقين، ألا وهم الشعراء. ففي عالم الماديات، والمال، وحقن الجيوب لشحد الأفواه، وترصيغ الأنامل بالدّهان، وتزيين باطم راحتي اليدين بالكبونات، فالذين يستغلون اليوم “كيمياء الكلام”، هم الإعلاميون والساسة ولوبيات الأموال والثروات، لتوجيه الناس في اتّجاه ما يخدم أهدافهم… لذلك تجد المُتسلطون على مر التاريخ، لا يحبون من الشعراء إلا من يمدحهم، بل يغدقون عليهم، والعكس بالعكس على من ينتقد هفواتهم وعثراتهم… !!!
Email : drissi-omar1@live.fr