خاص- ثقافات
*نازك ضمرة
أوقفني العجوز شبه المقعد عن قطع الطريق ، أشار لي لا بل انتهرني بجلافة للعودة والانتظار مع الآخرين، شارع ضيق لا يتجاوز عرضة ثلاثة أمتار، يكفي لمرور سيارة واحدة، على الطرف الآخر لذاك الشارع ينغرس عمود خرساني قديم بشع، بارتفاع مترين لا هو بالأسطواني ولا زوايا له ليأخذ شكل متوازي مستطيلات، متآكل الحواف ترى الحصى ناتئا فيه من كل الجهات تقريبا، لكن جزأه السفلي كان أملساً من كثرة تمسك الناس به، أو بسبب كثرة سند الظهور المتعبة عليه، كنت قد قطعت معظم المسافة حين انتهرني، تجمدت مكاني، كانني أسير بكبسة ريموت كونترول، كنت أجر الدراجة أوأحملها على كتفي، لا أعرف أصلاً لماذا استدعيت للحضور هنا هذا اليوم.
نأكل وننام ونصلي ونحاول أن نشتري الأشياء الرخيصة كي نتمكن من العيش مستورين بلا شكوى، الموقف صعب، ولا أظنني سأصل لنتيجة، لم أعد قادراً على التفكير فيما يحصل حولك، وقفت تنتظر مع عشرات الآخرين كي يسمح لنا بقطع ذلك الشارع الضيق، نريد ان نقطعه مشياً إلى مجمع المباني الصغيرة، تشبه الأطلال، وكل ما حولنا كانت أطلالاً وغرفا مهملة أوكأنها آيلة للسقوط.
قضيت ساعتين في الطريق أو أكثر، تصارعت مع دراجتي كي أصل المكان، استخدمت كل ما بقي لديّ من قوة حتى أوقفوني، شكوت لحالي في الطريق مرات عدة، يا إلهي! إنك شاهد على أنني قضيت سنوات عمري المديدة في العمل والسلوك المستقيم، حتى انني أخشى النظر في المرآة وأتجنبها، كي لا أرى علائم الأسى والإحباط على وجهي، لا أسمح لذقني أن تطول، سمعت أحد المجربين مرة يقول إن الذقون التي تطول، تؤثر كثيرا على العقول، من وقتها صرت أخشى الفلاسفة، حتى علماء الفيزياء والفنانين والنحاتين واالآخرين الذين يطلقون لحاهم، وقعت يدي على وجهي اليوم بطريق الصدفة، فإذا بشعر غزير نما عليه، لكنني وجدتني هنا أنظر للمرآة مضطراً، كيف ولماذا نظرت؟؟ أجفلت مبتعداً فزعا، ثبتوها على العمود المتآكل الأملس، لا أدري ما لزومها، لا أجرؤ على التساؤل عن سبب وجودها في ذلك المكان في شارع موحش، دبابة محا لونها، أو انها معفرة عن قصد بالغبار، مدفع خفيف مائل، وعسكري إما انه متقوقع مرهق او قزم، حين نظرت للمرآة المثبتة على طرف الشارع، لم أعرف نفسي في البداية، لكن الدراجة على كتفي، واعرف انني معها، إنني لست أنا، ذاك الوجه ليس وجهي الذي أعرفه، هل فعلت بي الدراجة كل هذا؟ أو هو المشوار الطويل والهدف المجهول، تمنيت مرآة غيرها لأتأكد أنني أنا نفسي الذي غادر منزله على دراجته صباح هذا اليوم، كنت آمناً مؤملا بالخير قبل أكثر من ساعتين، خارت قواي حتى استطعت وصول مكان الشكاوي، لم نكن كثرة الناس حولي هي السبب، أوهل هو سباق الناس في طريق لا يعرفون نهايتها؟، وهنا عند حاجز الشارع الضيق الوعر، شاهدت الكثيرين يغادرون معبسين، تظلل الخيبة وجوههم والفشل، سمعت أحدهم يتمنى لو أن هناك بائع كعك بالسمسم مع زعتر ليشتري نصف كعكة يوقف بها آلام أحشائه، بعد فشله في شكواه مع أنه حضر مبكرا، يقول إنه حضر قبل أكثر من ثلاث ساعات، وهمس آخر أنه قرر العودة دون عرض شكواه لأن الوقت صار ظهراً دون السماح له حتى بمجرد الاقتراب من الحارس، وآخر لا يريد أن يؤخر صلاة الظهر عن وقتها، وثالث جفّت ريقه ولم يجد ماء يشربه، وربما كان يعاني من مرض السكر، أما أنا فأحسست بشيء من الانتصار في البداية حين وصلت أمام المباني القديمة الكالحة، لم أعرف أن قطع الشارع الضيق محظورعلى كل الناس إلا بإذن مسبق أو بمؤهلات خاصة، أو تحت رقابة مشددة من شخص كبير مسئول، والغريب انهم يعتمدون على رقابة الناس بالمرآة هذه، هل تكشف المرآة ضمائر الناس؟ جبهتها تتجه صوب النافذة الصغيرة نسبياً في غرفة صغيرة منعزلة عن المباني القديمة، سمعت بعد قليل أن اثنين أو أكثر صاحا على شخص آخر بصوت محذر، طالبين أن لا يقطع ذلك الشارع الرفيع إلا بموافقة وإذن، لكنني قرأت في عيون الكثيرين قرفهم وكرههم للحياة والأوضاع، ما زلت لا أعرف ما المصيبة التي فعلتها كي استدعى لهذا المكان هذا اليوم! لم أقترف ذنباً ولا قمت بجنحة ولا مخالفة، ولماذا يكون عجوز مثلي هنا، وفي مكان عرض الشكاوى.
أرى الناس في الجانب الثاني للشارع بعضهم تهالك من تعب الانتظار، وبعضهم أنهك جداً من الوقوف فاستلقى على الأرض العراء المتربة، وآخر يسند ذقنه على راحتي يديه، وثالث يسند ظهره إلى شجرة هرمة مقصوصة نمت حول جذعها أغصان صغيرة كثيرة بشكل عشوائي، وامرأة عجوز محنية الظهر، تحاول المرأة التقدم في خطوات متعثرة لفترة، ثم تتوقف وهي تتكئ على عصا عوجاء تحملها، تقرفص بعدها وتنسى نفسها أنها لا تلبس سروالا أو ربما تعلم ذلك ولا تأبه، تضطر حين تقرفص أن ترفع ثوبها قليلا ربما بسبب الحرّ، كثيرون يحيطون بالعمود الضخم المتآكل، ساندين أجسادهم عليه.
دخلت غرفة مجاورة للموقع الذي سنشتكي به، كانت بلا باب، وبها نافذة لا تطالها رأسي ، تذكرت أنني وقفت أمام المرآة صباحا، شعر كثير نما في أماكن مختلفة في وجهي دون ترتيب ، خشيت كثيراً أن لا يعرفني الناس بهذه الشعرات التي طالت دون أن انتبه لها، فهل كبرت اليوم أكثر من الأيام العادية؟ هل سيحكم عليّ كل من شاهدني بأنني لم أعد أهتم بوجهي؟ أم أنهم سيقولون بخلاً أو توفيرأ أم لحاجة ما؟ أوقاتنا تسرقنا ولا ندري بمرورها . ماذا سأقول لهم إن أنكروني ولم يعرفوني؟ وصورتي في الهوية تخالف ما أنا عليه كثيراً، هل سيقتنعون إن قلت لهم أنني لا أفطن أن أحلق ذقني مع انني أملك مرآة صغيرة، وماذا لو أعطوني استبيانا لأصف فيه ملامحي ووجهي فماذا أكتب؟ فأي شكل سأصف؟ أهو الهيأة التي شاهدتها في مرآة عمود الشارع الضعيف، او هيأتي التي اعرفها قبل مغادرتي البيت، نسيت شكلي وملامحي، لكن عليّ أن أجد لي حلاً ، سأدعي أنني أميّ وأطلب من أحدهم مساعدتي في تعبئتها، وكلما سأل عن لون العينين أو لون الوجه أو عن العلامات الفارقة سأقول له : انظر واكتب ما ترى . لكن لماذا هذه المخاوف وتلك الأفكار السوداوية ؟ لأنتظر!. لمحت قبل قليل عجوزاً مثلي يعمل في هذا المكان، وفي تلك الغرفة التي بلا باب ، فلماذا لا أطلب منه التعرّف عليّ إن أنكروني.
حين دخلت الغرفة وجدتها بلا نوافذ أيضا، تزداد فتحتا عيني اتساعا، أحاول تأمل زواياها وجوانبها وأنظر إلى أطرافها، أرضيتها من الطين المرصوص ، ورشّوا بقعاً منها بالماء لمنع تطاير غبار، وبها باب كبير واسع في الحائط المقابل تطلّ الشمس منه والسماء، مما صعّب عليّ مهمتي، حيث أن الفضاء الواسع المشرق الفسيح بعيد عني، جعلني شبه أعمى، وزاد من حيرتي بسبب إحساسي بضآلتي، أسمع شخصا يخاطبني، اتجهت بنظري صوب الصوت فإذا به العجوز الذي أعرفه، سألته
-كيف استطعت أن تعرفني؟
– عرفتكك من حذائك المنبسط دائما لضخامته وطول عمره.
نظر للأعلى وأزاح نظره عني، استغربت أنه لم يشأ أن يقول أنه عرفني من غطاء رأسي الرث الذي لم يتغير ولم يغسل طول السنوات العشر الماضيات، ناولني كأس شاي ثقيل كانت في يده، لم تكن كأس الشاي حارة، حاولت تبليل ريقي أولاً، لكنني وجدت انني أفرغتها في جرعتين، قلت له وأنا أتناولها من يده:
– لا أريد أن آخذ شرابك، لكن دون أن أعيدها له، عبس وقال
– إشربها وسبحان مقسّم الأرزاق، وإذا أردت الاستراحة والمكث طويلا هنا سأطلب لك المزيد من الشاي، لكن حضور الشاي يحتاج إلى ساعة أو أكثر انتظاراً، أما موضوع استدعائك هنا فهو لأمر بسيط، أنت مطلوب للشهادة، إن كنت رأيت الشاب المشاغب والمطلوب للنظام من جماعتكم خلال هذا العام. فأجبته
– إن ما يقلقني هو العودة قبل غروب الشمس، وعلى دراجتي العرجاء التي ترافقني منذ عشرين عاما، ألا تذكر؟ كان عندنا دكان لبيع الخضار، ألم أكن أحضر لكم الخضار فوقها فتستقبلني زوحتك وتكافئني بنصف قرش أو بقرص خبز حار؟ أجابني العجوز الملتصق بمقعده القديم الكالح
– هانحن قاعدون أو نائمون ننتظر من يأتينا بالطعام ولو متأخراً، أما أولادي فلم أعد أرى أحداً منهم، تعلقوا بمختلف المشاكل، بعضهم يصنعون سلاحا أو خناجر أو هراوات وقناوي، وآخرون انشغلو بالغناء حتى ترضى النساء، وهل تصدق أن بعضهم امتهن الرقص والنط في الساحات مخفيا نفسه حتى لا يعرفه أحد، انشغلوا عني فماتت أمهم كمداً وهي تدعو لهم بالتوفيق، وها أنت تراني هاهنا، هل أنا دركي أم حارس أم خادم أم للراحة والنوم حتى الموت؟ لا أدري لماذا أعيش.
ولما سألته عن شيخ المراكز، وعن كيفية الوصول إليه قال
– غادر لتوّه لحضور حفلة زواج أحد الشركاء، ولن يعود ليوم أو يومين، يحب مشاهد الرقص وغناء النساء، وبرغم أنه لا يحب أحداً إلا أنه يحب الطرب والترفيه.
قادني العجوز وأخذوا إفادتي، لم أقرأ حرفاً واحداً مما كتبوا، المهم أنني وقعت المذكرة، سار معي العجوز في طريق خلفي التفافي متعرج ضيق، لا يتسع إلا لشخص واحد وكنت أتبعه، حتى يجنبني الأسئلة الكثيرة من الحراس الساهين عن أسباب دخولي أو تأخري، كان يمدّ يده محذراً أو مطمئناً لهم كلما همّ أحد الحراس بالنداء عليّ، حتى وصلت الشارع الضيق، وجدت أربعين أو خمسين شخصاً ينتظرون على جانب الطريق كي تسمح لهم امرأة قصيرة ذات وجه ممتلئ ببشرة منتفخة خشنة، لها هيبة لأنها ممتلئة الجسم وكرشها مقسوم إلى نصفين، والحزام وسطه مشدود جداً، لكن ثدييها كانا ممنتفخين وهابطين فوق معدتها، سقط شخص من المنتظرين على الأرض أو أنه داخ، ضحكت الدركية ضحكة ملجلجة، ولولا أنها مخيفة لتبعها الكثيرون من المريدين، كاد الحاضرون أن ينسوا ذلك الذي داخ، أشارت المجندة للشخص الساقط وسمحت بمساعدته لتنظيف الشارع.
أردت أن تشكرها وألقيت نظرة خاطفة على عينيها العسليتين، استغربت وبادلتك النظرة بملامح قاسية، تحتار في فهمها مع أنك عجوز تدعي الخبرة، ربما أرادت أن تخبرك بأن وجهك بشع، ورأسك مشوه بشعر أشعث. سرعان ما تناسيتها.
وما إن قطعت الأمتار الثلاثة مبتعدا، حتى امتطيت دراجتك ، وبدأت تبتعد عن المكان، لكن الدراجة سرعان ما تعطلت بعد أقل من مائة متر، كدت تسقط على الأرض وأنت تحاول تفحصها، ارتميت على الأرض من شدة التعب والمرارة غفوت، وحين فتحت عيني ليلاً وجدت نفسي في غرفة مهجورة بابها مخلوع، وسراج زيت ضعيف يخفف ظلمة الليل، صرت أتمنى ان يطلع النهار بسرعة، لعل أحدا من أهلي يعينني على العودة لمنزلي، لا أستطيع العودة للنوم لأنني أحس بقرص الجوع.
_________
-
قاص فلسطيني يعيش في اميركا