موسى حوامدة في حوار مفتوح حول تجربته الشعريّة

خاص- ثقافات

 

 استضافت مؤسسة أروقة للنشر والتوزيع والدراسات في القاهرة التي يديرها الشاعر اليمني هاني الصلوي يوم الأربعاء الماضي الشاعر موسى حوامدة في أمسية شعرية وحوار مفتوح حول تجربته الشعرية، حضرها عدد من الأدباء المصريين واليمنيين والعرب، قدمه وأدار الحوار الناقد والشاعر المصري ابراهيم موسى النحاس والذي تحدث في بداية اللقاء قائلاً: نحن في مصر لا نعتبر موسى حوامدة الشاعر الفلسطني المنشأ والذي يعيش في الأردن منذ أربعين عاماً، (وكما ذكر على قناة النيل الثقافية فهو مواطن أردني لكن فلسطين في دمه)، غريباً علينا فهو حاضر بيننا، يشارك في الحياة الثقافية في مصر، وسبق أن طبعت له هيئة قصور الثقافة مختارات من شعره تحت عنوان سلالتي الريح عام 2010، كما طبعت الهيئة المصرية العامة للكتاب مجموعته (موتى يجرون السماء) عام 2012م، والتي كتبت عنها دراسة نقدية.

 وقال النحاس: أعجبتني جداً رؤية موسى حوامدة ونظرته الإنسانية للأشياء بالمفهوم الأعم والأوسع لكلمة إنسانية، فقد رفض المتاجرة بالقضية الفلسطينية مثل غيره من الشعراء، وأعلن أنه مع التطور الطبيعي للقصيدة العربية، ورفض الانغلاق والتعصب لشكل ما سواء للقصيدة العامودية أو التفعيلة، وهو يرى أن قصيدة النثر منتج طبيعي للحراك الشعري ولتطور القصيدة العربية، ومثل هذه الرؤية الانفتاحية ترتبط بأفقه الواسع أولاً وبالموروث الثقافي الكبير ثانياً، وبسبب تحركه بين البلدان العربية المختلفة والعالم واحتكاكه المباشر بحركة الإبداع، وهذا جعلنا أمام شاعر يرفض الانغلاق الفكري والفني أيضاً، ويتوجه في انفتاح نابع من تلك البنية الثقافية والمعرفية والخبرة الحياتية.

وقرأ موسى حوامدة عدداً من قصائده، من بينها؛ لست حزيناً، كسيرة النائم في السكون، وقصيدة مآرب، وحين يأتي الموت، وأنا ميت، سأكتب وأرمي في البحر، لم أعد أحبك، قاطع طريق، ذاهل عني، عدم يملأ اليقين، سامضي إلى العدم وغيرها.

وخلال الحوار تحدث عدد من النقاد من بينهم زين العابدين مروان، قال كنت معجباً بما قرأت عن الموت، وكنت أظن ان ما قرأت هو اجمل ما قيل عن الموت، ولكن بعد أن سمعت قصائد موسى حوامدة عن الموت أظن أن ما قرأته لم يكن شيئاً مهماً.

الدكتور محمود بطوش الروائي والناقد وأستاذ التراث قال: موسى حوامدة شاعر من شعراء العالم، لا يمكن أن تحيطه الأوصاف التقليدية العادية، فهو شاعر كبير جداً، فهو من طراز الشعراء الذين أعتبرهم قلة قليلة جداً، قلما نجد شاعراً بهذا الحجم.

وقال طبوش: أستغرب وجود شاعر من هذا الطراز بيننا وليس عندنا مشروع حضاري، شاعر يحيا ويكتب ويقرأ بيننا، إذن هناك  مشكلة عربية كيف يتسق السؤال، هناك خطأ ولا بد أن نعرف تفاصيل هذه الأخطاء وكيف يتم تهديد الوجود العربي، الشاعر الجيد نصف نبي أو ثلاثة أرباع نبي، وأزعم أننا نحتاج إلى دراسات معمقة حول تجربته الشعرية.

الكاتب اليمني أحمد النعمان أشار إلى مراحل تطور الشاعر وكيفية ولادة القصيدة لديه.

الناقد صالح السيد قال إن الشاعر موسى حوامدة لا يكتب القصيدة بل هي التي تكتبه.

الشاعرة هدى أبو العلا قالت لدي فوبيا من قلة الشعر لكن ما سمعته عن الموت جعلني أبحر في تلقي القصائد، التي تدل على فلسفة عميقة لدى الشاعر تحتاج إلى فهم وتأمل.

القاص المصري محمد رفيع الفائز بجائزة المتلقى للقصة العربية القصيرة في الكويت قال: لن يغيب عن ذهني اخيلوس الذي رفض الدخول إلى كل الحروب إلا من أجل أن يذكر اسمه، ويكتب في لوح الخلود، وأظنه فعل ذلك،  وما أريد قوله أن موسى الحوامدة وهذا رأيي يكتب من أجل الخلود، الشعر يهزم الموت، الموت يعني الفناء، لكن من يكتب شعراً بهذا القدر، يكتب اسمه في لوح الخلود، نحن لدينا سلاح واحد ضد الموت، وهو أن نتناسل، كل الناس تمتلك هذا السلاح، ولكن الفنانين والأدباء لديهم سلاح آخر، ضد الموت وعندما أسمع أن شاعراً كبيراً مات بعد صراع طويل مع المرض، أقول أنه  انتصر، وأنا أقول الآن موسى حوامدة انتصر على الموت.

وأضاف رفيع: وعن المقاومة أرى أن موسى حوامدة طور شكل وفكرة شعر المقاومة الى شكل آخر وهو اصطياد الجمال، لأن الأعداء يريدون لنا الموت، وهذه صيغة أخرى متطورة من المقاومة.

محمد نبيل القاص والكاتب الشاب قال: تتطور تجربة موسى حوامدة تطوراً طبيعياً من الغنائية إلى الحالة التي تبتعد فيها القصيدة عن الحالة الغنائية، فهو لديه حس مسرحي واضح، ويبدو أن المسرح يشكل جزءاً من تفكيره، وأنا أحب قصائده وتجربته العشرية ويلفت نظري أن اللغة لديه ليست متجانسية ولا واحدة فهي تطلع حسب الحالة التي يكنب فيها ويتغير شكل اللغة معه، من قصيدة إلى اخرى وهذه صفة نادرة.

ومن بين القصائد التي قرأها موسى حوامدة:

مآرب أخرى

 

أعطاني سحرَ الكلمات

وكَلَّمَني تكليما

يا ألله

هَلْ يلقي عبدك موسى

في الناس نبَّوته وعصاه

بيضاءُ يدي

والطورُ طيورْ

سأشق البحرَ

وأرفعُ عن أرض الكنعانيين الجورْ

هارون أخي

والشعر شقيقي الأوفى

ولساني لا بد يدورْ

إني للرب الأقرب…منذور

مذ ألقتني أمي في اليمَّ

ومذ منحتني زوجة فرعون النورْ

***

نور… نور

نور … ما

وسما

هي ذي نورما ؛

ماء رقراقٌ ،

شفافٌ ،

ما أصفاه

وما أحلاهْ

هي ذي نورما

لم تترك للربَّ دفاتر أو فرشاهْ

كسر اللوح المأثور رماه

لما طلعتْ من بين أصابعه

من تشبهه في علياه

وبدت إنجيلا معجزةً توراهْ

قراّنا لا بل نور حياة

لا تشبهها الملكاتُ

ولم تصنعها كل وصاياه

ضاع الدين وعبدك يا الله

في سيناءِ مفاتنها تاه

هي ذي نورما

امرأة … من عين الله

حلم…من حلم الله

سر من كُنه الأسرارْ

نور من قبس الانوار

وحي…

.إلهامْ.. من لدن الله

وكما…حول القبة أسوار

وكما…فوق الهيكل

تحت الهيكل أشرارْ

حولَك يا ربي أشباه

لكني لا ألقي بالاً لبناتِ شعيبَ

ولا للقبطيات

إني عبد اللهْ…

ونبي الكلمات…

فأعد لي أرضَ الميعادْ

لأعود اليك

وأقيم لك الصلواتْ .

تشرين ثاني 1991

 

حينَ يأتي الموت

حينَ يأتي الموتُ

سأبصقُ في وجهِ الحياةِ؛

أقنعُ نفسي أنَّ الدُنيا بائسةٌ،

والناسَ، كلَّ الناسِ، ديدانٌ صفراء.

حين يأتي الموت

سأزرع الغروب في حديقة الوداع؛

أعلنُ هزيمةَ الإنسان

وألقي فلسطين،َ

في دفتر الغياب.

حين يأتي الموت

سأرمي زهرةَ الخلود

في وجه جلجامش

وأهزأُ

من نصائح الطبيب.

حين يأتي الموت

لن أساومَه

لِيُحرِّضَ المُقرَّبين

على حفلات النواح؛

كُلَّما كان عددُ المشيعين أقلّ

كان ضميري أكثرَ بياضاً،

وكلَّما كانت الدموع أقلّ

كانت أخطائي أجمل.

لينصرفِ المُعَزّون

قبل تدشين البياض..

لينصرفوا؛

ليست لي حاجةٌ إلى مديح ناقص،

ليستْ حسناتي مشجباً للنفاق،

لينصرفِ الأوغادُ؛

ما نفعُ الزَفَرات لأطباق السماء؟

لينصرفِ المحسنونَ

            طيبو القلب،

            مخلصو النوايا.

ماضيَّ

حاضري

وغدي مات

ولستُ حريصاً على فرصةٍ للنجاة.

حين يأتي الموت

لن أعتذر للريح التي تَنفستُها

ولا للخيطان التي لامَسَتْ جسدي،

لن أعتذر للماء الذي شَربتُ

ولا للوهم الذي تلبسني

أو توهمت،

ولا للبلاد التي ظلت عالقةً في حلقي كالسلحفاة..

لن أعتذر لأحدٍ

أو بلد.

ربما أُحرِّرُ روحي من فساد الكون،

أسرد لِذاتي طِيبَتي الكاملةَ

وأناقةَ الربيع في كتاب الصيف؛

ربما ألمسُ وجهَ أمي بيدين نظيفتين،

أسمع سعالَ أبي

أشمُّ رائحةَ صدره بلا معجزات.

حين يأتي الموت

سأقطعُ المسافةَ بين الحياة والموتِ

برجفةٍ شبقيةٍ عابرةْ،

تماماً، كما حدثت تلك الشهقةُ المدوية،

في المرة الأولى،

على رَِدْفَيِ الأرضِ العذراءْ.

جبالٌ لا تلهيها صلاةٌ

ولا أدعيةٌ عن مُناداتي

تموتُ معي؛

تمشي في جنازتي،

بكامل العنفوان تُحيي حفلَ الختام.

حين يأتي الموت

سأهربُ إلى حضن أمي

ووجهها الناعم؛

إلى يديها الرقيقتين

ونظرتها الغريبة،

سأحملُ لها سريرَتي الكاملةَ،

أعترفُ لها بهفواتي العديدة؛

بعجزي عن تحرير رقبتي من دنسِ الشهوات؛

بغفلتي السابقة عن مصادفةِ الحكمة؛

بطيبة التين والزيتون؛

باضطراب الذاكرة؛

بموت الناس، جميعاً،

عند انحسار النعمة.

لن أصرخَ نادماً

على مسقط رأسي،

لن أموتَ حزيناً

لأني لن أدفن في طين بلادي،

لديّ من الخيال

ما يجعلني أضمُّ ترابَ العالم بين يديّ.

في كلِّ ذرة من الكون

جسدي هناك،

لن أموتَ غريباً في أي مكان،

لدي في كلِّ مربعٍ جثةٌ كاملة.

أسمعُ دبيبَ الخوف

يسري في أوصال الكائنات،

لن أصرخَ مرتعداً،

لستُ شجاعاً أكثرَ مني

ولستُ جباناً لأهرول خلف قطار الفرصة الضائعة،

لا أملكُ طاقةً على الهروب من اللُعبة.

أضحكُ بملء شدقيَّ،

أضحك -إن أسعفني فكّايَ-

على الذين يبكون من الموت

يحسبونه عدوهم الوحيدَ،

بينما تناسَوا أنَّ الزوال

لغةٌ فيزيائية قديمة؛

تناسَوا أنَّ الموت لم يأتهم من الغيب

ولا من ربَّات الجحيم،

بل من تعلقهم بالحياة،

ومن أجسادهم المعطوبة.

اكتملتْ رحلة الأسى،

انكسرتُ بكلِّ بطولتي،

بكاملِ شجاعتي،

بملءِ إرادتي،

وفي كل معاركي الوجودية والحياتية انهزمتُ،

وتلكَ كانت فضيلتي.

كلَّما كان عدد المشيعين أقلَّ

كانت حريتي كاملة.

إيماني بالله حَمَلني بخفةِ الملائكة،

لست في حاجة إلى الملقن والمقرئ؛

لست في حاجة إلى المراثي والنواح،

فلستُ ذاهباً إلى حفلة خداع هناك؛

إنني

      عائدٌ

            مني

                  للأزل.

 وأنا مَيْتٌ

وأنا مَيْتٌ؛

أرى ما لا يُرى

كنتُ استعرتُ عينيّ هُدهدٍ

وحساسيةَ خفاش

ونسيتُ أنْ أدفنهما معي.

وأنا مَيْتٌ؛

تحت ترابٍ بارد ورطب

أُدوِّرً على ملاكَيَّ فلا أجدُ تفاحةً أو سوطاً

تناسيت موتي

تناسيت حقي في قبر فرعوني

ونسيت أن آخذ صورتي معي

لأضيفها على بطاقة التعذيب.

لم يأتني أحدٌ من الموتى

بقيت وحدي أفكر فيما مضى من لعنات!

***

وأنا مَيْتٌ؛

وحشرجةُ الروح فارقتني

لم تناد باسمي امرأةٌ ولا حورية

لم يسألني أحدٌ عن اسمي

ومهنتي أو اسم بلادي

لم تعرفني العفاريت

ولم يروا وجهي في بيانات المَدْفن

فأجَّلوا عقابي ليوم بعيد..

رفعتُ كفني

عالياً

صرختُ طالباً

حقي في الموت

أَرْجَعوني

للعناية الحثيثة

أفقتُ من غيبوبتي

خشيتُ أن أروي للممرضة البدينة

بعضَ ما مرَّ معي في غرفة الموتى.

*

لم يصدق غَسَّال المشفى أني عدتً

لم يصدق حفارُ القبور

…..

لا وقتَ لحدوثِ المعجزات،

لا أحدَ يصدق السماء

اخفضْ صوتَك الرعوي

وعدْ لقبرك الأثير

هنا تُمضغ الشهوات

هنا لا فرقَ بين الماضي والحاضر

لا فرقَ بين الموت والزهور

شفاهُ الترابِ تأكل من بين يديكَ طحالبَ الندم

سترتاحُ من عناء الحكمة

تنام في سريرك الشعري،

تقبلْ دعاء الطيور

واخلد لنومك الأبدي

لا شيءَ يستحق الحياة

لا شيء يستحق الحياة.

**

لستُ نبياً لأثق بالوعود

لا وعدَ يجعلني مطمئناً في ظلام القبر.

**

وأنا ميْتٌ….

أفتشُ بعينيَّ عن الدود

عن حقي في تكذيب المواعيد

عن طَرف شالِ أمي

وعن رائحتها

ما فائدة الموتِ

يا موتُ

إنْ لم أجدْ أمي في انتظاري؟

**

لا شيءَ هنا في القبر

لا شيء مما توقعت

كلُّ شيء مظلم وبارد

عظامُ موتى قريبةٌ من مخدتي

وجماجمُ تذكرني بأصدقائي

عيونٌ غائرةٌ في الزمان

تبكي من الخديعة

ومن كذب الأحياء.

**

تراخ قليلاً أيها القدر

أما كان يمكن تأجيل السفر إلى نهر الأموات؟

أما كان يمكن حلّ تلك المعضلة العالقة

في كومة الأسئلة؟

هل صدقوا الأحلام والأوهام

حتى جاؤوا باسِمين

وجئتنا بلا صورةٍ أو هُويّة

عدْ إلى أعلاك

حتى يقترب تدوير وجهك من وجه أنكيدو.

صعدتُ مجرى النهر

تحت الطين عالياً وعارياً

كيف صدقتَ الشعرَ وكذَّبت الموتى

صدقتَ السماء وتناسيتَ سر الطين

يا موتُ رويدَك هنا لأصلحَ رأسي قليلاً

وأشربَ كثيراً من الخمور

وأقتلَ الدودَ في جثة صديقي.

آه يا أنكيدو

يا عدوي السابق

وصديقي الخالد

أما كان يمكن أن تهرب مني ومعي؟

 

 

 

 

 

 

قاطع طريق.. 

 

 

كمنْ يقصُّ أَثَرَ غيمةٍ في السماءِ

كان يحرثُ الريحَ،

بمحراثٍ من يأس.

الطريقُ استمدتْ عزمَها من سعة البرق،

القاطع مرَّ بقريةٍ صغيرة؛

مرَّ بحفنة حصادين يغمرون الأرضَ بالحركة.

القاطعُ توقفَ يبحثُ عن سبب لإكمال المسير.

القمح نادى قاطع الطريق.

أصحابُ البيادر رَمَوا أغمارهم فوق الغيمة..

قاطع الطريق صار سنبلة.

*

تلك السيدة مشغولة بنسج شالٍ مطرز بالصمت،

لفّت خيوطها على شعر البناتِ،

تجلّى الليل بقمر وَضيءٍ،

تلعثم الحزنُ

قرب أيقونة العذراء؛

مَنْ مِنكُنَّ يا بنات وصلت للكمال؟

مَنْ مِنكُنَّ يا بنات حاكت شَرشفَ الموت بيدها؟

مَنْ مِنكُنَّ يا بنات..

كانت تلك السيدةَ المشغولة بنسج خيالٍ مطرز بالنجومْ؟

*

كثيرةٌ أشجار الكلام الجارح،

كثيرة حِكَم العجوز الطيبِ،

كثيرة تأويلات القصيدة،

والشاعرُ إذ يعبر حاجزَ الخَطابةِ

يرى روحَه مغمورةً بأشجار كثيرة،

وحطابين مذهولين

عن سماع روايات التقهقر.

*

أرغب كما يرغب الجريحُ

بضُمَّادٍ وإبرة بنجٍ؛

أرغب كما يرغب طائرٌ،

بقبضةِ ريحٍ يحملُها بين جناحيه؛

أرغبُ كما يرغب الجبلُ

بزحزحة الشمس قليلاً،

ومبادلة السماء

بوظيفة التسكع مع صديقاتِه النجمات.

*

ليس شرطاً أن تهطلَ الأمطار حين تعطش البقراتُ.

الكاتب المغروس في دفتر المذكرات

لم يجدْ علةً لخروج آدم من الجنة

مباشرةً بعد مأدبة الغداء.

فكر الكاتب المنهمك في كتابة التأريخ:

 (كيف انقضت المسافة الزمنية بين الجريمة والولادة

كيف انخلع قلب اليقين،

وانزلقت الجنة، ببساطةٍ، من بين يديْ حواء

كيف كان شكل البرق والرعد هناك

كيف كانت تهطل الأمطارُ

وحامض الكبريتِ، كيف كان يتطبب به المجذومون

وتلك الأدوية المكدسة في صيدليات السماء،

من نهبها قبل أن يُحقَنَ آدم بحقنة الدوخانِ،

ويُرمى بين الصخور).

لعلَّ الكاتبَ لم يشأ أن يكمل النبش في أرض المعصية،

فكَّرَ الكاتب، لحظةً،

ألقى بالقلم جانباً،

نظر للأوراق المكتوبة،

همَّ بتمزيقها،

لكنَّ صوتاً خافتاً جاءه من سماء بعيدة:

لا تَرمِ الأوراقَ؛

لن يقرأها أحد،

أكملْ مسيرتك الذاتية في تعريف السجين بحقِّهِ في طلب الإعدام.

*

قاطع الطريق لم يجد طريقاً يقطعُه،

توقَّفَ قليلاً،

تساءل: أين ذهبت خطواتي؟

أين آثار أقدامي؟

أين اختفت الطريق؟

كان قاطع الطريق نائماً،

كان الحلم لا يسير في طريق معلوم،

قاطع الطريق واصل إكمالَ طريقِه السرية

في تنظيف الغيوم من قُطَّاع السماوات.

كسيرةِ النائمِ في السكون

 

أغرزُ الحروفَ في لحم الورقْ

أكتبُ مأخوذاً بصورة النقوش الفرعونية
عتيقاً مثلَ فسيفساء مادبا
متأهباً كما جيشِ كسرى..

كسرى

……كافٌ وسين

 أعمى يرى

  في خَرس العتمة

قمراً مخفوقاً بالطين

راء وسين

ويدٌ تعبث بالأفلاك،

بقرى الصعيد

  بتاريخ الأسى

  وتاريخ العبيد.

  ياءٌ وسين

  غادَرني الحلمُ فتىً

  وغادرني اليقين.

 سيفٌ وصلاةْ

كلما شبَّت الحرب

 تذكرت ألا إله إلا الله

  أوشك الرمل أن يطمر حصاني

  وأن أنسى الصلاة؛

  صليتُ وحدي

  وحدتي نجاة.

 

خيلُ الروم حفرتْ على طريق القلب خطى الناسك العجوز 

  بين رحلة الشرق

  وغواية الغرب

  حدجتني (كونتيسةٌ) إسبانية

  بنظرة صليبية

  لم يرتجفْ وثني

ولم يلتقطني السيارة.

*

أصبغُ ريشَ الهواء

أصف جثامين الطيور

أعدُّ خطى القتلى

المدينةُ نتاج الضغينة.

*

اليافعُ في خضرته

شجرٌ مكسورُ الخاطر

مصلوبُ السبب.

*

كسيرةٌ يدُ الذكرى

كسيرةٍ ظلَّلها الجحود

كسيرةٌ بلا عرج

متاهة المشَّاء

كسيرةِ النائمِ في السكون

الذاهبِ في الوجوم

الساكنِ في العدم.

 

كسيحةٌ بلادي

لها حشرجة الناي المذبوح

رنينُ الهوية

عميقةُ الأثر

لا تحتاجُها العقيدة

يحتاجها الحطاب.

*

  أمضي حراً من أساي

 حراً من شفاهيتي

 حراً مني

  ومن كلماتي.

 

  عِلَّتي آسرةْ

  قلبي عليلٌ

  والرؤى حاسرةْ

  بَللٌ أصاب الكون

  سالَ قلب القاهرةْ

آخيتُ المسيح

مسَّني جنون الناصرةْ

  ما كنتُ مشغولاً

  كانت جروحي نافرة

  خبأتُ في كهف السماء منازلي

  ومضيتُ أبحث عن آخِرة!

الليلُ مصباح العمى

والمؤمنون سماسرة.

 

 كسيرةٌ حكمة المهزوم

  تمشي على مَهَلِ…

  سيحدثنا الرمل عن سيرة الرمل

  سيحدثنا العنكبوت عن قوة النسيج

  وحكمة الهوان.

 

ملكٌ على تاج الأبد

هذا جنوني بلاد

وضيائي مُصابٌ بالرمدْ

  صادني النوم وأنا أحلم بالكمان

  بإلهة إغريقية

  تحملني بعيداً عن إعصار إيجة

  تردُّ لغايتي الصبابة

  ولأمتي الرشدْ.

  من علَّم الأرضَ الغزل

من أَلْبسَ التاريخَ طاقيةَ الإخفاء؟

  مبهوتاً بالأزل

  أكتب سيرةَ المفجوع

  في أرضٍ لم تزل

تمنح القلبَ دواء الضغينة

ولا تعطي العدو مداد الخجل.

 

  من علَّم الأرض الغزل

  لأقي بساتيني العفونة

 وأقي جراحي العطب

  شَفَّني البوح

  ونام كرمي عارياً

  يا بلادي

  لست موسى الفرعونيَّ

  ولستُ شُعيب

  إنني أنثى الرجاء

  ضيَّعتني أمي في سوق الصرافين

 وحين عدت للشام

  كانت سيناءُ محبوسةً في قبضة الهكسوس.

  

رجاءً لا توقظيني

  من هلوساتي

  لا تُدخليني

  دوار الأبجدية

  ما قتلتُ أخناتون

ولا خنتُ كليوباترة

  ما بعت المسجد الأمويَّ

  ولا زوَّرْتُ تاريخ بترا

  أنقى من البياض كنتُ

  وكانت صروحي عامرة

  قلبي اشتغال الكلمات

بتأثيث الحاضرة

 عمَّرت خرابَ الكون

  وما بعتُ رفاقي

ولا غازلتُ عاهرة

  لكن المغول أفسدوا الناس حولي

  وما عاد ينفعني اليقين

  ولا سورة التحرير،

  أطوي البلادَ طياً

  وأعود من نقطةٍ خاسرة.

 

 

 

 

 

لَسْتُ حَزيناً

لَسْتُ حَزيناً لكنَّ قَلبي طَرِّي
صَيَّرَتْني أُمي شَاعراً وما بيَدَّيّ
أنقى من النَّقاءِ جِئْتُ
ومن البياضِ كُنْتُ
ومن النَّدى رَسَمَتْ وَجْهي ويَديّ
وحَمَّلَتني ما لا أُطيْقُ من نَقاء السَّريرَةِ
ومن رائِحَةِ العُشبِ في قَريَّتي
ومن رِضا الوالِدَين
والصَّلاةِ على النَّبي
ومن حبِّ فلَسطين
أَوْرَثَّتْني الهَشَاشَةَ والدُموع
ومن حبِّ بَغداد حتَّى طَنْجة
أوْرَثَّتني خَفْقَ الضُّلوع
وحبِّ الحُسين والتَّرضي عَلى عَليّ

لسْت يَتيْماً

لكنَّ حُزني قَصيّ.
وبلادي صارَتْ قِطعَةً قِطْعَةً

تَذوبُ في الحَّنين إلى شَفَتيّ

يا بلادي لسْتُ حَزيناً

إلا …عَليّ.

 

عند منعطف الحلم  

 

 

 

عندَ مُنعطفِ الحُلمِ

بينَ التَفعيلةِ وشَهوةِ النثرِ

وَجدتُ ذراعَكِ سَنْديانَ القَصيْدة

وأصابعَكِ أقلامَ الكِتابَة

حروفُ اللُّغةِ من بَينِ يَديكِ

تَشْتَهي أنَ تُسكبَ في أنهارِ الصَّبابَةِ

في أطراسِ الحَنين

ودَفاترِ العُشَّاق.

وعلى مَرمَى النارِ

تحتَ رصاصِ الحربِ المُنْهَمرِ

لم أعدْ أُفرِّقُ بينَ الجِهةِ الغادرةِ

وَجَبْهَةِ العدوِ

خانَتْني الأرضُ

وسَرقتْ جُثَّتي منّي

خانَتْني الشمسُ

وسَلَبتْ وَجهَكِ من صَباحاتي

خانَتْني الغيومُ

وتلاشَتْ في الزَوال الأخيرْ.

قبلَ اكتمالِ البَنَفْسَجِ

ارتطمتْ قَصيدتي بكَمينِ الشرِّ

تحتَ وسادةِ اللغةِ

وَضَعوا لَكِ يا حَبيبتي عِلَّةَ الزَهْوِ

والزهوُ آفةُ الكَمانِ

وخريفُ المُحبين.

وعلى مَرمى الكِنايَةِ

وجدتُ روحي تَغْرَقُ في حِبرِ الخَديعة

كلَّما كتبتً سَطراً

مَحَتْهُ السُيولُ الطينيةُ

وكلَّما رَسَمْتُ شَجَرةً

قَصَفَتْها الزَوْبَعة.

لم أكنْ أعرفُ أن القتيلَ

يحتاجُ إلى شهادةِ حُسنِ سلوكٍ لمَوْعدِ القيامة

حتى انهارَ جدارُ الوهمِ الأخير

وطَمسَتْ وجهَهَا الأوراقُ البَيْضاءُ

صارتْ عُمْلةً رَديئَةً

لا تَصْلُحُ لتجفيفِ الدُّموع.

ذاهلٌ عني

 

ذاهلٌ عني
عنْ مَطلعِ الشمسِ وميعادِ الذنوبِ
ذاهلٌ عن صَفاءِ الخَييبةِ
ورَصانةِ المَسافةِ
وحَريرِ الذِّكرياتِ
إن لم تَعضُدي روحي بجُروحِها
وتَسكُبي ماءَكِ المُستريبَ على وَحْشَتي.

ذاهلٌ عن مَعْنى المَعَاني
وأنتِ تَرشُقينَ هواجِسي بالخِذْلان
وهَشاشَتي بزَوَغان الكَلمات
وأعْذاريَ بالخَطيئة.

كلُّنا كُهوفٌ مَخبوءَةٌ
تعجزُ الأبوابُ عن سَرْدِ عَتمتها
قلبي لا تُقيةَ لَديهِ
ولا أشجارَ تَحميهِ من النُوْر
وعُذري لا تكافئُه النُدوب.

كم مرَّةً جرَحَني اللهُ

وسَكتُّ..

فلا حَرْفَ عندي يَخدِشُ النَبيل
كم نمتُ على خَطلِ اللِّسانِ
وغَدرِ النسيانِ
ولم تغفرْ ليَ الكُروم
لم تَحسَبْني السَّنواتُ من أيَّامِها

ولا الفصولُ من حِصةِ الأعيادِ فيها.

نَفَتْني الأَرْضُ كَما تُنفَى الخَطايا
ولمْ تُشوِّه جَبينيَ العُيوبُ
بقيتُ خارجَ العُزلَة

مَطْوياً
مَكْسوراً صَالحاً لهَزيمةٍ

طَريَّاً مُغْبَرّاً كما تَشاءُ الصحراءُ
مريضاً بألمِ الطينِ
وَوجعِ الجبالِ
مُعافى من تُرابِ الحِقد
وغُبن التَّضَاريس.

أصيرُ شيئاً لا مَلامحَ له
عبثاً يُطاردُ الوَهم
وَهْماً مَريضاً بَلا سَببٍ
سببٍ ناقصٍ من كَمالِ الطُفولَةِ
من صَولَجانِ الرُّعونة.

أَنْبِئيني أيُّتهَا الوِهَادُ عنْ حَالي في العَراءِ
وسَّحْنَّتي فوقَ لَعنةِ الجُنودِ
وخَوفي من دُنوِّ الفُرسان
أخْبِريني يا خائنةَ الأَرْضِ
أيُّ ريحٍ حَملتْ نَعْشي

يومَ سُقوطِ الشُّهب
أيُّ بَلاءٍ حَمَى جثُّتي

من رَصَاصِ الضَّغَينة.

عاقرٌ هيَّ الأرضُ

ومتِّسخٌ ثوبُ النَّوايا

فكوني غرابَ البّينِ

يَجلسُ مرتاحَ الضَّمير

بعدَ حَريقِ الغابة.

 

 

عدمٌ يملأُ اليقين

لو لم تكوني الشرفةَ

والشعاعَ القادمَ من عين الشمس

لو لم تكوني النهار

والسحابَ الهاطلَ والغواية

لو لم تكوني الزمان المنساب في حبات المطر

لكنتُ التابوت الخشبي

والبلادَ المنسية.

***

عدمٌ يملأ الرئتين

وكلام فارغ عن الحياة

وما بين النور والعتمة

تموت خلايا العمر باكية.

*

كأس وحيد

يشفع للغيّاب

وبيتٌ محمومٌ يصفعني بالموت.

سأموت

لو لم ألتقطْ حبات الفجر

من بين يديكِ.

*

سأموت قهرًا

وأموتُ في بلاد الناس

وما كان همّي ألا أموت

لكن حزني بلاد

وحياتي قصيدةٌ تتلاطمها الأمواج.

**

الليلةَ … وكما كلّ ليلة

يتمزقُ قلبي بين ال/طريقين

وأفتح نافذة الندم

لكلِّ طريقٍ أسلكه.

مالي إذن أدفع حظي بيدي

وأركل كأس سعادتي

بقدمي؟

***

سأموت

إن لم تختطفني إحدى الإلهات

وترفع عن صدري كآبة الوجود.

وأموت .. لو ظل العالم سائراً إلى حتفه الأكيد.

اللعنة

لم يعد للسماء لونها المعتاد

لم يعد ظلُّ الحنين يحجب اللهيب

وأنا موزعٌ بين السماء

وبيتي الضرير.

ما لي أنا لأكون المنشقَّ عن ذاته

والملعونَ في حياته

ومن أنا لتطاردني وحوشُ الظلام

وتقتلني أفكار السوء؟

كنت أويت إلى ذات الرواية…

أيتها الشمس ألا تساعدي الأعمى؟

ما نفعك أنتِ يا نسائم الصباح

إن لم تحمليني إلى براءة الكروم

وما نفعكِ أنت يا غيومَ الحيرة

إن لم تُمسكي بيديَّ التائهتين؟

أتحرِّرًني الكلمات

أتمنحني المتاهةُ درباً ثالثاً لليقين

أم تزيدني غموضاً

   تلك الحُجُبُ الملتفةُ حول ضمير القدر.

سأتوارى قليلاً عن عناء الجبال

سأهبط رويداً إلى حضن العشب الطري

لستُ طموحاً لأحطم السلاسل

وأكسر القيود

طموحي أقلُّ مما يود الفرسان

وترغب الجيوش

طموحي سلامٌ يظلِّل الوقت

يغطي التفاصيل

حتى تصير الحياة

في سلاسة النعاس.

عمان30/3/2012

 

 

لم أعدْ أحبكِ

 

لم أعدْ أحبكِ…

….

تغيَّر القمر كثيراً

بدَّل شكلَه مراراً

تَرَكَ ندوبَه فوق صفحة السماء

وحزنَه على وجه الليل.

كلُّ شيءٍ لم يتبدلْ/…تبدل

لم يتغير/ …تغير

كل شيء

آوى إلى رحمه الأول

إلى زوجته الأولى

إلى كونه المتلاشي

وحده البحر

ظلَّ يزمجر طامعاً في بيته الجديد.

لم أكنْ أنا البحر

لم يكني البحر

لم أطمع بشيء

ولم أتركْ مياهي أسفل الوديان.

لم أعد أحبك

لماذا لا يعود القمر إلى بيته

والفارس إلى موته

والحبيبة إلى قبرها الأول.

لم أعد أحبك

ودعتُ رملَ الصيف في أول تموز

خارت قوى أيلول على عتبات الخريف

تطلع الغريب إلى غربته

النايُ إلى صوته المتطاير

أدركْ يا نايُ لحنَك المتناثر بين خلجات الهواء

أدرك يا نسرُ جريحَك المثنوي

تعلق بحبال الكمان

يريدك الموت واقفاً تحمي يديه من الخسة

وأنا لا أريدك ميتاً ولا مكلوماً

تمتعْ بنهار أقلّ من ساعاته

مَسِّدْ قلب الصخر

إن نزفت سنواتُ عمركَ فوق شفاه الحسرة.

لم أعدْ أحبك

لم يعد بيتي يشبهك

ولا الحرير المتلعثم قرب سريرك يغري بالنوم

حبيبات العطر تندلق في قارورتها

لا تشتهي نفحها

لا تتشهى الرذاذ

مصلوبة في يقين الزجاجة

تحتسي همس النافذة السقيم

تطير فراشاتُ العمر حول أشجار اللوم

اللعنة تحصد المشاعر

المشاعر مغولٌ يتدافعون نحو القرى

مغولٌ يسدون النهار

 مغولٌ يفسدون القصيدة

 يشبهون الأمس الثقيل

والأمس بطيئاً يجرُّ رجليه جانب الوداع.

أمام تقليب الأعوام في عين الصقر

في ساعة استرخاء

ملأتْ حواشي المثانة بالهطول

والملاءة بالبلل.

لا أحبكِ

ليس للبلور ذنبٌ في اسوداد قلب الثلج

وليس للوردة حصة في جريمة السلف

محصورة عند يباس الحقول

البيت جاثم عند هيكل الخراب

واليرقات تشع نوراً في عَتمة السكون.

لم يعد يغريني الثغاء المعسول

ترهلُ الجسد الواني

بوح الأمهات لصمتهن

صراحةُ الماء لميقات الحنين.

طيورٌ سوداءُ تحلِّق في وهج السطوع

سطح بسيط يفرش ماضيه فوق دار القيامة

حكمة الملل

ترجيء قطع حبل المشيمة

متيم بثناء الغراب

يُرجع العتمة لمحبرة الغجر

زواج عقيم

يفرغ قصائد الحب من كبرياء الجنون.

أميط اللثام

عن محاق هجين.

أ

ح

ب

ك

لم أعد أحبك

ألفٌ تمطُّ رأسها بلا خطٍّ لولبيَ

حاءٌ حائرة تحتاج لحكمة الحرف

باءٌ بائسة تفرد ظهرها جسداً لعبور اليائسين

وكافٌ لا تدلُّ عى سراج التردد في كلام الليل

خوفٌ في مغارة الكلمات

طلاء فوق لسان المنفيِّ والمنفى.

أحبك

لا …

لن يحدث شيء للكونِ

إذ يخلي الغرابُ سواد الحليب

لن يذوي الشك

خشيةَ الخسارة

من دموع الكلمات.

لم أعد أحبك

لم أعد أسابق الغزالة في مطاردة الشرود

ولا النمرَ في اصطياد حتفه

ودعتُ بداياتي

وغبت عني.

أحبك؟؟؟

…..

لم أعد

أحبك.

سأكتبُ.. وأرمي في البحر

 

سأكتبُ وأرمي في البحر؛

سأكتب عن الموتى الذين يحيون، من جديد؛

عن الأموات الذين يولدون، معي، كلَّ ليلة؛

عن أمي التي لم ترضعني جفوةَ البشر؛

وعن أبي الذي لم يعرف كيف يغري الحليب بالنشوة،

والمندلينا بالضحك.

سأكتبُ عن مُشعلي الثورات؛

عن كحل الصبايا، في عيون الشفق.

سأكتب وأرمي في البحر؛

سأكتب عن آدم وحواء..

آدم والندم

علاقة أزلية يفصلهما الحرف الأول،

وحواء بَرَكة الخليقة

تحضن الرمل بساعديها وتُرضع شفاه المغيب.

آه يا أمنا العظيمة،

لماذا أنجبتِ كلَّ هؤلاء الطغاة؟

من أين جئتِ بهم،

وفي أي كهفٍ معتم حبلت بهم؟

سأكتب عن الخيانة ـ

تلك التي تباع في السوق،

وتفسَّرُ في فنجان قهوة.

سأكتبُ وأرمي في البحر.

من علَّمك الصمتَ، أيها القرد الهمجي؟

من أعطاك زلةَ اللسان؟

ومن منحك قفا الطاعة

ولذَّة العصيان؟

من علَّم المدينة المقاومة؟

ومن منحها الزعفران؟

من حطَّ في باب التاريخ كفن المعلم الأول،

ومن نهى الريح عن مصادقة السفوح؟

سأكتب عن القبور ـ

تلك التي صار لها أبواب ونوافذ؛

صارت لها عتبات وأنوار،

وأتناسى حقي في انبلاج الفجر.

سأهذي

وأهذي بما لا تعلم الفصول؛

سأرمي كانون في الربيع

وأخيط كُمَّ تشرين بإبرة الصيف؛

سأحكم على حزيران بالبرد،

وأغري الخريف بشهر أيار؛

سأحمل الشتاء، في حقيبة تموز،

وأغيِّر مسار الكلمات.

ما الذي عكَّر صفو المطر؟

ما الذي عكَّر صفو الثناء على الموت؟

ما الذي أهدر دم الغصون،

وباح للغريب بسرِّ النار؟

سأكتب عن البحر بمداد البحر،

وأحمل الريح بقميص الريح؛

أدلق الغيوم في كفِّ السماء،

وأجلسُ تحت ظلِّ الغيمة أنتظر زلة لسان السواد.

سأكتب وأكتب،

ولن أقيل نفسي من وظيفة الغضب.

يتها الدمي المتحركة،

أفيقي من سُباتكِ الأبدي؛

أفيقي من خدر الشعر والتطريب؛

أفيقي من غفلة الزمان،

وألغاز الغريب؛

أفيقي، يتها السماء، من غيبوبة الحرمان؛

من نقص المناعة، ومن زيادة الخمول.

خيمةٌ واحدة.. وتطير؛

حمامٌ كثير ويموت؛

أبوابٌ سبعة للرزق

يغلقها الشيطان،

ويفتحها الشيطان.

ومالي لبداية البداية، من سبيل، سوى الخوف..

الخوف، على الذئاب،

من الذئاب.

وما تلكَ بيمينكَ يا ربي

تلك قبة الغباء أضعها فوق نقوش الحسرة

أخبئُ تحتها عفاريت الصباح

وأملأها بتراتيل السحرة.

سحرٌ وأدعية ٌ وجنازاتْ

فقرٌ وبلاءٌ يجرُّ بلاء،

أنبياء ترعرعوا بيننا

وما حملنا منهم سوى العصي والبنادق

وربُّ البيت مصلوبٌ

لا يقاتل أحداً ولا يعانق.

إيه يا ربَّ الأرباب

حكمتُك العتيقة لم تعد تصلح للطيور

ولا للغربان.

سأكتب عن الخوفِ في صدور الحشرات؛

عن الجبن في قلوب الحجارة؛

أمدُّ يدي إلى يَدِ الخراب،

وأمسكُ نجوماً لا تطيع العتمة.

من أينَ تبدأُ الحرية، يا رب،

ومن أينَ تعرفُ الشعوب راية الريح؟

المَسي جسدي، يا نسائمَ الحرية،

لم يعدْ يغريني الورد،

فاصنعي لصحرائي صبراً وارفَ القسوة.

يا لخيبة المُدنِ المستلة،

حين تعفيها العواصفُ من رداءة الغبار!

امسحي وجهَكَ، بالسواد، يا مِحنَ القبيلة،

كم يحنُّ لكِ الهجاء.

سأكتب وأرمي في البحر.

ويا قراء الحظ والفناجين

أشيحوا وجوهكم عما أهذي،

فليس من حقكم أن تسمعوا ما يثيره الله من هذيان الخليقة،

ولا أن تفكروا في ما يمكن، ولا يجوز، في زمان العنكبوت.

كلُّ شيء مفضوح،

كل شيء مرئي،

ولا شيء مفهوم

إلا ما يريده البلبل الأصفر،

وما يحتاجه الطفل للتأتأة،

وما يريده الخفاش في كشف صفحة الكسوف..

يا لخسوف الشمس، تحت جنح الظلام،

تنسلُّ خجلاً من وظيفة الحرية،

وتعطي خيوطَها لتاجرٍ قادم من كلية الحرب!

يا لنساء الجزيرة،

ابعثن زرقاءَ اليمامة، مجدداً؛

فما حيلةُ الغراب

سوى النواح على حائط الأمل،

وما للأمل إلا العزاء.

سَأمْضي إلى العَدم

سَأمْضي إلى العَدم

بخُطى مَلك

وأمضي إلى الخَلاص

على دربِ المَسيح

وإن كنتُ لا أثقُ بالنجومِ والأدْعِياء

…..

سأمضي إلى العدم…

فلستُ نادماً على شيء

ولست طامعاً في شيء

سرابٌ كلُّ الذي مرَّ بي

من تلالٍ وسهولٍ وبحارٍ

وأناسٍ سيئين أكثرَ من عَدوٍ مُتَربِصٍ بالهزيمة.

كلُّ الأصدقاءِ الذين صادقْتُهم أصْداء

كلُّ الذين أحبَبْتُهم أسْماء

أمَّا أنا ……

فعلى خُطايَّ أسير

لا وطنَ لي

ولا شارعَ يَعرفُني

لا شاعرَ لي

كلُّ الشعراءِ الذين أحببتُهم لصوصُ أوراقٍ وكتب

كلُّ النبلاءِ الذين تبعتُهم أوْغاد

كلُّ الصعاليك الذين أحببتُ أسماءَهم جُبناء

كلُّ الناسِ أشباهُ أشْياء

حتى النساء اللواتي أحببتُهن

……

على خطاي أسير

حتى النساء اللواتي أحببتهن ..

…لا لن أقول

فأنا خلاصُ نفسي

ونبيُّ ذاتي

لستُ اليَسوع

لكن أبي عِقالٌ طائِشٌ

وأميّ بستانُ رجاء.

وعلى ذكرِ النُبوات أُفتي:

بأني أنا الشريرُ الذي أرسلَ

الطُغاةَ إلى ديار الأنبياء

فالأنبياءُ الذين ساروا على هَدْيي ليْسوا أنْبياء

والأنبياءُ الذي جاؤوا بعدي

تَعثَّروا في الحِقدِ

غَرِقوا في أوَّلِ البَحر

وظلَّلت وحدي أسيرُ على الماء

همْ فكرةٌ هنديةٌ واللهُ حافظُها

وأنا رمُّان الزمانِ

وعَتمة الأشياء.

كلُّ ما على الأرضِ افْتراءٌ

“صخبٌ وعنفٌ”

وعواء

مسرحٌ مفضوحٌ

هدوءٌ يسبقُ الحقولَ

وثرثرةٌ تُصغي لتَفاهةِ المعنى

تقضمُ تفَّاحَ القَصائدِ

وشجرَ الهَوامشِ

في كتبِ الظَّلام

وتفسيرِ الضلال.

والآنَ يا صاحبي وحدَكَ تَرتَّقي شيئاً غامضاً

الآنَ قُلّ لي: ما أنتَ؟

….

لا لن أقول

فأنا سرُّ نفسي..

وعلى خُطاي أسير…

…..

على خُطاي أسير.

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *