الحب.. هدية العرب إلى أوروبا

*محمد الأسعد

في سبعينات القرن الماضي، حين تُرجم كتاب «الحب والغرب» (1972) للفرنسي دينيس دي روجمون إلى العربية، لفتت النظر موضوعة تأثير الحضارة العربية/ الإسلامية، وبخاصة بجناحها الغربي الممثل بالأندلس، على آداب الغرب عبر نافذة الجنوب الفرنسي، وتركيز الكاتب استقصاءه على فكرة «الحب»، ثم توصله إلى أن ظاهرة الحب التي وسمت الثقافة الأوروبية بأبرز طوابعها وأخصها في الشعر والرواية والمأساة والأوبرا، قد استمدت الكثير من أصولها التاريخية والأدبية والروحية من المناطق التي اعتاد الغرب تسميتها جملة بالشرق الأدنى. وواقعياً، كما يقول دي روجمون، ولدت فكرة هذا الحب الجديدة خلال القرن الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين في جنوبي فرنسا، فهنا التقى تياران انساب أحدهما من آسيا الصغرى، والآخر من العالم العربي.

بالنسبة للغرب، لم تكتسب لفظة الحب التي يعني بها العاطفة والهوى هذين المعنيين إلا في القرن الثاني عشر حين أدخلهما الشعراء المتجولون (التروبادور) في شعرهم. هذا الشعر الذي ظهر فجأة في جنوبي فرنسا، وما لبث أن انتشر انتشاراً غريباً في القارة الأوروبية، لم يكن له شبيه في الشعر الذي عرفه العالم القديم والعالم المسيحي، فكأنه، والتعبير لدي روجمون، هبط من السماء. واعتبر الباحثون مصدره لغزاً لا حل له.
لم يبق هذا اللغز لغزاً، فخلال المتابعة توصل هذا الكاتب إلى أن من الأحداث الروحية المهمة التي وقعت في القرن الثاني عشر، ظهور شكل شعري جديد كل الجدة لم يكن له وجود من قبل، في «لانجدوك» الفرنسية جنوباً، وظهر في قصائد الشاعر «غييوم دي بواتييه»، وسرعان ما تابعه مئات من الشعراء. الجديد أن هذا الشعر يمجد المرأة، مع أنها كانت قبل ظهوره مهملة ومحتقرة، وأصبح يشيد بذكرها، ويدعوها «السيدة» جاعلاً منها نظير «السيد» الذي يخضع له الفرسان، ويعارض الزواج الخالي من الحب، ويتعبد للحب الذي يتغلب على ما يحول دونه، والذي يوقّر المرأة ولا يأبه للفوارق الطبقية. وتعتبر رواية «تريستان وإيزولت» النموذجية بين قصص الحب، أو مآسيه، الغربية التي ظهرت في بريطانيا نتيجة من نتائج تأثير الشعر التروبادوري.

***
المنطقة التي اتجه نحوها البحث عن فكرة تعرفها الثقافة الغربية لأول مرة في عصورها الوسطى، هي الجنوب الفرنسي وصولاً إلى عمق الأراضي الفرنسية. فمع أواخر القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) نشط الأندلسيون فكثفوا غاراتهم عبر البحر على أراضي الإمبراطورية الكارولنجية، وتطورت الغارات في أواخر القرن الثالث الهجري (القرن التاسع الميلادي) نحو الاستقرار في جهات فرنسا الجنوبية. وفي أواخر هذا القرن اشتدت قوة البحرية الأندلسية، واضطربت الأوضاع في فرنسا مع انتقال السلطة من الكارولنجيين إلى أسرة كاييه، فاقتحم الأندلسيون إقليم الجنوب المسمى «بروفانس»، وسيطروا عليه، ثم تقدموا شمالاً، وأصبح نفوذهم مع نهاية القرن يمتد من «لانجدوك» غرباً إلى مشارف الأراضي السويسرية شمالاً، ثم إلى أطراف إيطاليا الغربية شرقاً، فتحكموا بمعظم ممرات جبال الألب، وسيطروا على طريق المواصلات بين فرنسا وإيطاليا.

وكان هذا التوسع يعني من جانب آخر انتشار الثقافة العربية/ الإسلامية، وتعاظم تأثيرها على آداب وفنون فرنسا والغرب بعامة في عدد كبير من الجوانب، لم يقتصر على فكرة جديدة عن الحب لم يعرفها الغرب إلا بهذا التواصل والتبادل مع الثقافة العربية. وقبل أن نصل إلى مفتاح حل لغز ظهور هذا النحو من شعر الحب الذي سيوصف بالعذري، من المفيد ذكر شيء من محاضرة للفيلسوف والكاتب د. جورج بيرتران ألقاها في 10 نوفمبر من العام 2015 في مركز اليرموك الثقافي ضمن برنامج محاضرات دار الآثار الإسلامية في الكويت، عنوانها «آثار إسلامية في الفن الفرنسي القروسطي»، أي بين القرنين التاسع والثالث عشر الميلاديين.
جغرافية هذه المحاضرة هي أيضاً الجنوب الفرنسي، حيث انتسجت علاقات أوسع وأعمق لم يكن شعر التروبادور إلا واحداً منها. وهناك نقشت الجماليات العربية/ الإسلامية آثارها. يقول صاحب المحاضرة إنه كان يواجه في بحثه نزعة شك أكاديمية تنكر بعنف أن يكون هناك وجود لمثل هذه الآثار. ولم يكن هذا الإنكار غريباً على ثقافة ترفض أن يكون لها علاقة بغير الأسلاف الأوروبيين واليونان والرومان، وتتجاهل على صعيد تأثير فنون الحضارة العربية/ الإسلامية على فرنسا والغرب بمجمله، 500 عام تقريباً من التبادل المتواصل بين الطرفين، ووجود آثار مازال يمكن ملاحظتها اليوم.
يقول د. بيرتران، عارضاً الخرائط والصور والرسوم التخطيطية، إن مساهمة العرب في الحضارة الأوروبية القروسطية مساهمة مهمة جداً، ولكن العادة جرت على التقليل من شأنها مع أن الآثار الجمالية لهذا التاريخ ما زالت ملاحظتها ممكنة، سواء كانت فائقة الجمال أو متواضعة، في العدد الكبير من واجهات الكنائس الفرنسية وتيجان أعمدتها وزجاج نوافذها المعشق، وفي الشعر أيضاً، لأن الفن العربي/ الإسلامي طبع علامته المميزة ونزعته الغرائبية وزخارفه على قرون الفن الرومانسكي الممتدة من القرن العاشر إلى الثاني عشر الميلاديين، وأحياناً ترك بصمته على أسلوب الفن القوطي بدءاً من القرن الثالث عشر فصاعداً.

***
في هذه المنطقة الجنوبية، ووسط مؤثرات فنية متنوعة، يتساءل صاحب كتاب «الحب والغرب» عن مصدر هذا البيان الشعري البديع الذي جاء في حينه مجهزاً بجميع صيغه، متأهباً للاستجابة لذلك التوق الذي لم يكن قد وجد شكلاً له، فظل مبهماً غامضاً متلجلجاً. ويصل بعد متابعة إلى أن مفتاح حل اللغز هو الشعر العربي، والشعر الذي ذاع تحديداً في القرن الحادي عشر الميلادي في الأندلس، وخاصة في قرطبة، مهد المذهب الشعري ونوابغه من أمثال ابن حزم وابن قزمان والمعتمد بن عباد.

من هذا الشعر استمد شعراء التروبادور الصيغ والموضوعات، وحتى التقفية، وأوزان أغانيهم. وأيدت هذا الاكتشاف النظري في البداية، الأبحاث التاريخية والأدبية والفلسفية العديدة التي حملت الأدلة والبراهين التفصيلية. ونقل الشعر الأندلسي فيما نقل من شعر الحب إلى الغرب صلته الحميمة بالمذهب الصوفي الذي ازدهر في العراق، ومثله في القرن الثاني عشر الميلادي الحلاج والسهروردي الحلبي وابن عربي الأندلسي، وجميع هؤلاء لجأ إلى صيغ المنظوم في الحب الدنيوي للتعبير عن حبهم الإلهي.
وسيأتي بعد هذا الباحث الفرنسي الشاعر والروائي المكسيكي أوكتافيو باث، فيدخل، خلال دراسته للحب في التاريخ والأدب والحضارة، إلى مفهوم الحب في الأدب الغربي، فيقول إن أول ثقافة أوروبية حديثة تشكلت عناصرها في جنوبي فرنسا تحت تأثير عدد من المؤثرات أكثرها أهمية الحضارة العربية، وفي مجال الشعر الغنائي وفلسفة الحب بخاصة، تلك التي تعرفت أوروبا إلى مفهومها الجديد والإنساني عبرها. هذا الجنوب الفرنسي شهد لأول مرة ميلاد الحب كعقيدة ومثال سام في القرن الثاني عشر الميلادي، الحب العذري، أو البلاطي نسبة إلى بلاطات الإقطاعيين الذي كان شعراء التروبادور ينشدون فيها أشعارهم. في هذا القرن الذي ولدت فيه أوروبا الحديثة، برزت سمات ما سيعتبر لاحقاً من إبداعات الحضارة الغربية، ومن ذلك الشعر الغنائي وفكرة الحب بوصفه طريقة حياة.
وبالطبع لا يتجاهل باث، أن الظروف التي جعلت هذا النوع من الحب العذري ممكناً هي اتصال الأوروبيين بثراء وعلوم الشرق. فعبر الثقافة العربية اكتشفوا أرسطو، والطب والعلوم، وكانت علاقتهم بالأندلس مثمرة سياسياً وتجارياً وثقافياً، ولم يكن من الأمور الغريبة وجود مطربين من عرب الأندلس في بلاطات إقطاعي الجنوب الفرنسي، وأنتج هذا التنوع ثقافة استثنائية ليس من المبالغة القول إنها أول ثقافة أوروبية. ويلاحظ في نهاية مقالته المنشورة في العام 1999، في كتاب حمل عنوان «شعلة اللهب المزدوجة»، أن شعراء جنوبي فرنسا تبنوا شكلين شعريين شهيرين لدى عرب الأندلس هما «الزجل» و«الموشح»، واستعاروا، وهذا هو الأكثر أهمية، موقفاً كان له أثر كبير، ليس على الشعراء فقط، بل وعلى العادات والتقاليد، ذلك هو موقف المحب وسيدته. وبتبني هؤلاء الشعراء لهذا التقليد العربي أحدثوا انقلاباً في العلاقة التقليدية بين الجنسين، فأطلق شاعرهم على حبيبته اسم «سيدتي»، وعلى نفسه أطلق لقب «خادمها».
ويخلص إلى أن مفهوم الحب لدى الغرب، بفعل هذا التلاقي الحضاري، يظهر نسباً كبيراً بينه وبين مفهومه عن العرب أكثر مما يظهر بينه وبين مفاهيم الهند والشرق الأقصى، وهو أمر لا يعده مفاجئاً، لأن كلا المفهومين، الغربي والعربي، مستمد من ديانة توحيدية، وكلاهما يشترك في الإيمان بروح خالدة للإنسان.
___
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *