حبال الحنين

*أمير تاج السر

بالطبع، ومع اشتعال الحروب في بلدان كثيرة، وانتهاء عهد الاستقرار فيها، وحتى قبل ذلك بكثير، تبدو مسألة الهجرة من تلك البلدان، مطروقة بشدة، وأن كثيرين هاجروا وابتدأوا حيوات أخرى، في بلاد منحتهم استقرارا ما، وربما وظائف جيدة، وعائلات جديدة، وإذا كانت الحروب والديكتاتوريات، من أهم عوامل السفر من وطن إلى وطن بديل، نجد ضيق العيش سببا وجيها وكبيرا، ولعله كان السبب الرئيسي في ما مضى، وأن كل من سافر، كان يسعى للعيش بطريقة أو بأخرى.
تلك الهجرات، أوجدت في ما أوجدت من الأشياء المرافقة للحياة، أدبا جديدا، وفنا جديدا، وحتى سلوكا آخر، يسلكه المهاجر حين يعود لسبب أو لآخر إلى وطنه الأصلي، ويبدو غريبا على من يعيشون بداخل الوطن، لم يبرحوه بوصة واحدة.
بالنسبة للأدب الذي أسميه: أدب الحنين، كانت السمات واضحة جدا وتتجدد باستمرار، كلما نضج كاتب أو شاعر، في جيل ما وكتب شيئا. هنا قد تكون ثمة حكايات مرتبطة بالوطن البديل، لكن لا بد من أن نجد بهار الحنين منثورا على النص، وتداعيات كثيرة تستدعي تفاصيل الحياة السابقة، ابتداء من زمن الطفولة، وحتى الخطوة الأخيرة التي خطاها المبدع في بلاده، قبل أن يستقل الطائرة، مفارقا وحالما.
وإذا كانت البلاد عموما، تختلف في أجوائها وأدبياتها وتراثها، وحياة شعوبها، فإننا نجد استدعاء الحنين كله متشابها، الحنين السوري، يشبه الحنين السوداني، وهذان يشبهان حنين أي بلد في المغرب العربي: كل الخطوات القديمة كانت ناعمة وراقصة، كل الطفولات هنا أو هناك، كانت سعيدة، ورائعة وفيها أصدقاء ملهمون، وأمهات وجدات طيبات، يحملن أكواب العطف، يسكبنه على الأطفال، كل الآباء دافئون، وحتى الخشنون منهم، نجد في خشونتهم عذوبة ما، وتلك الطرق التي ربما كانت مغبرة وكثيرة الحفر، في الواقع، قد نجدها نظيفة وسلسة، وتقود إلى طرق أنظف وأجمل، هكذا.
وإن كان ثمة لصوص أو مجرمون في الواقع القديم، فغالبا لا يرد ذكرهم في نصوص الحنين، فالوله بالقديم الذي لن يعود، يلغي كل اتساخ من المجتمع، على الرغم من أن الاتساخ نفسه جزء من تكوين المجتمع، لا يستقيم إلا به، وكنت كتبت في نص لي جملة ساخرة، عن مهنة السرقة، التي كادت تنقرض في يوم ما، حين دخلت الكلاب البوليسية إلى الوطن، وأحدثت رعبا قاتلا في نفوس اللصوص.
أدب الحنين أيضا قد يكون كذابا للغاية، فيستدعي قصة الحب الفاشلة تلك، التي كانت حدثت بين الكاتب وفتاة ما من سكان بلدته، وكانت كلها صد وحرمان وهجر، وساهمت بطريقة أو بأخرى، في تركه للوطن كافة، على لسان راو لنصه، بوصفها قصة مثالية، كان من الممكن أن تثمر بشدة، لولا الظروف، وذلك الحمار الذي ربما رفسه في بطنه وكاد يقتله، بوصفه حيوانا أليفا سهل القياد.
من الروايات التي ورد فيها ذكر الحنين، وكنت قرأتها باكرا ومرات عدة، وأصبحت جزءا من الأعمال التي أعتبرها مكونة لي، رواية «الحب في زمن الكوليرا» للعظيم الراحل ماركيز، كان الراوي العليم يتحدث عن الطبيب الذي ذهب إلى أوروبا وتعلم، وكان من الممكن أن يبقى مهاجرا نظيفا من كل تعب، إلا أنه عاد إلى وطنه، تجره حبال الحنين إلى ذلك الوطن الذي غاب عنه سنوات، ليفاجأ بالذباب في الميناء، والأطفال المتسخين، ورائحة الملح والتخثر والعفونة، ويكتشف زيف الحبال التي جرته، وأنه عاد بلا أي وعي ليواجه حياة لن تكون عظيمة وسلسة.
تلك الرؤية المختصرة من ماركيز هي بالضبط ما يمكن أن ينتج منها أدب شفاف، يسطو على الزيف، ويبدو حقيقيا، وحتى لو لم يٌكتب أدب ما، فهي تبدو موجودة في الحياة العادية، للذين يبتعدون عن أوطانهم لفترة ويعودون وهم ممتلؤون باللهفة، ليقبلوا تراب تلك الأوطان ويكتشفوا أن التربة مالحة، والهواء الذي تخيلوه وهم بعيدون، نسيما رقراقا فاتنا، هو في الحقيقة رياح عاتية بلا أي قلب.
أتذكر منذ سنوات وأثناء زيارة لي، لبلادي، وكنت أود الدخول إلى أحد المستشفيات للقاء بعض الزملاء القدامى، أن وجدت شخصا متشنجا يصرخ عند البوابة، كان مريضا ولديه موعد لإجراء قسطرة تشخيصية للقلب، ومعه كل الأوراق التي تثبت ذلك، لكن الخفير الموجود عند البوابة، رفض إدخاله بإصرار غريب، كان الرجل يردد بالضبط، ما ردده بطل ماركيز، وهو أنه كان يعيش في الخارج، وعاد مجرجرا بالحنين، والآن يتمنى لو حملته ريح عاتية إلى حيث كان يعيش. تحدثت مع الخفير عن وجهة نظره في منع مريض من الدخول لإجراء عمليته، ولم تكن لديه وجهة نظر في أي شيء، مجرد خفير يحرس بابا، ويستطيع أن يقول نعم أو لا، بحسب مزاجه ولا أحد يهتم. إنه جزء من» برستيج» أخرق، لكن يرضي واحدا مثله.
أذكر أيضا تلك الإجراءات المطولة للخروج التي يواجهها العائدون في عطلاتهم من بلاد المهجر، إنها إجراءات، تجعل العائد يفكر فيها كثيرا، قبل أن ينساق إلى أي حبل من حبال الحنين، أو يرتدي أحد أرديته.
«مترو حلب» الرواية الأخيرة الممتعة للسورية مها حسن، تندرج تحت أدب الحنين بلا شك، الحنين الذي يزركش الحياة السابقة، ويحيلها جنة من الأفراح – ويجعل الراوية، مدرسة اللغة العربية لبعض العائلات الفرنسية، المنحدرة من حلب السورية، التي تجلس داخل مترو باريسي، تروي القصة من مترو يسير في حلب المتخيلة بدوافع كثيرة من الحنين، إنها حالة تمزق جبارة، تجعل الافتراضي واقعيا والواقعي افتراضيا، وتأتي بكل الشخصيات القديمة، وبكل ما كانت تسببه من فرح وتعاسة، إلى النص، بوصفها شخصيات مرح فقط. ليس داخل مترو حلب إلا زمن وفي رائع، بعكس مترو باريس الذي يحمل الخير والشر.
على نسق رواية مها، روايات أخرى عديدة بلا شك، وهناك من كتب حنينه بلغة البلد الذي يعيش فيه، على الرغم من أنه يكتب عن وطنه الأصلي، ولعل أمين معلوف، اللبناني، واحد من أولئك الذين لم تجرهم حبال الحنين، لكنها ألهمتهم.
____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *