توفيق الشيخ حسين
( ثقافات )
مفهوم الإستشراق كمظهر من مظاهر صلة الغرب بالشرق متنوع.. ونتيجة لهذا التنوع أصبح لدينا استشراقٌ سياسي يعبر عن مصالح الغرب السياسية والاستعمارية .. واستشراقٌ ديني يترجم دوافع التبشير .. واستشراقٌ أدبي يستلهم فيه بعض الأدباء سحر الشرق وغرابته.
لقد بذل ” الأسعد ” جهدا ً كبيرا ً في متابعة أعمال المنقبين عن الآثار ومؤلفاتهم وتصريحاتهم، فخط لنا كتابه القيـّم “مستشرقون في علم الآثار: كيف قرأوا الألواح وكتبوا التاريخ ” (صدر عن دار مسعى للنشر والتوزيع في الكويت والدار العربية للعلوم في بيروت،2010).
إستغرق هذا الجهد من الكاتب حوالي عشرين عاما. وهو أول من استخدم مصطلح “الاستشراق في علم الآثار” في اللغة العربية في مقالة له نشرت في مجلة كنعان (فلسطين المحتلة، الطيبة، مركز التراث العربي ) في شهر سبتمبر من العام 1991.
الكتاب بحث نقدي يتكون من تمهيد وستة فصول: كيف قرأوا الألواح وكتبوا التأريخ ــ المشكلة التوراتية ــ طريق العطور ــ الجغرافية السياسية للثقافة العربية ــ ألسنة أم لهجات لسان واحد ــ ميلاد تاريخ فلسطين القديمة. وكلها مراجعات لجملة من أعمال بعض علماء الآثاروأطروحاتهم.
لم يدرس هذا الموضوع تحت هذا العنوان في اللغات الغربية إلا متأخراً، وفي درس فريد قرره الأستاذ “جوي ماك كوريستون” من جامعة ولاية أوهايو الأمريكية على طلبته في العام 2001 تحت عنوان “الإستشراق وعلم الآثار”، ووضع هذا الاستاذ كتاب “الإستشراق” لادوارد سعيد على رأس قائمة القراءات المقررة على طلبته.
لقد توصل “الأسعد” بعد كل هذه السنوات من متابعة عمل علماء الآثار الغربيين ومن اتبعهم من العرب وما نشر عن نتائج أعمالهم، إلى كم هو دقيق وصائب توصيف د. ادوارد سعيد لأول بُعـد من أبعاد الإستشراق حين قال ” إن الشرق موضوع الدراسة كان عالما ً نصيا ً على نطاق واسع، وتم انتاجه عبر الكتب والمخطوطات وليس عبر العاديات القديمة مثل التماثيل والفخاريات كما هو حال انتاج اليونان في عصر النهضة، بل وكان حتى التواشج بين المستشرق والشرق نصيا ً”.
ويؤكد “الأسعد” على أن هذه الدراسات الإستشراقية وما نشرته من تصورات في العالم الغربي عن الوطن العربي بعامة، وفلسطين بخاصة، ساهمت في تبرير المذابح والإحتلالات المتواصلة للوطن العربي، واشاعة البهجة والحماس في نفوس الرأي العام الغربي لسنوات طويلة. ولم يعد دور المستشرقين في خدمة مؤسسات بلادهم الاستخباراتية والعسكرية والقيام بوظائف لا تتعلق لها بالعلم مجهولا. ولعل أكثر أفاعيل الإستشراق وضوحاً، وبخاصة في مجال علم الآثار، هو دوره في التمهيد لاحتلال فلسطين وإبادة سكانها وقراها وتبرير إقامة كيان أستعماري على أرضها. وفي هذا السياق يكشف ” الأسعد ” عن حقيقة أن تفسير النص التوراتي لاهوتيا، والربط بينه وبين المكتشفات الأثرية بتزوير هذه الآثار طوراً، وتحريف قراءة النقوش القديمة طوراً لتنسجم مع التفسير اللاهوتي، لعب الدور الأكبر في انتاج ماضي بلادنا العربية، “فوضع تاريخه ولغاته وفنونه والمكتشفات الآثرية في سياقات غريبة لا تنتمي الينا، بقدر ما تنتمي الى صورة متخيلة مستمدة من المرويات التوراتية”. وأن باحثا ً مثل “وليم فوكسويل البرايت” أخترع علم تنقيب أطلق عليه اسم “علم الآثار التوراتي” وجعله لا يهيمن على ما يسمونه الشرق الأدنى القديم فقط، بل على مساحة جغرافية وزمنية واسعة الى درجة كاريكاتورية. فأصبح المجال الجغرافي والزمن لعلم آثاره هذا يضم حسب تخيلاته كل ما اعتبرها أراض توراتية تمتد من الهند الى اسبانيا ومن جنوب روسيا الى جنوبي الجزيرة العربية، ويضم زمنيا تاريخ هذه الأراضي كله منذ عشرة الآف عام قبل الميلاد، بل وأقدم من ذلك وصولا الى الزمن الراهن.
ويلاحظ “الأسعد” أن مايسمى ” علم الآثار التوراتي “، بروابطه اللاهوتية أصبح يصعب المساس بمنطلقاته ونتائجه أو التشكيك بما يقدم من روايات يعتبرها التوراتيون “تاريخاً” بينما هي لاتعدو كونها قصصا شعبية متوارثة شبيهة بقصص ألف ليلة وليلة التي تحتشد بقصص العفاريت والكائنات الخارقة والشخصيات الإنسانية المتخيلة. وحين نقرأ التأويلات اللغوية والتمحلات العجيبة التي أوصل اليها الباحثون علم الآثار المتعلق بوطننا العربي نصاب بدهشة بالغة، ليس من مرور هؤلاء مروراً سريعا ً على الأجزاء المهمة من الصورة فقط، بل ومن الأهمال الذي يكاد يكون مريعاً لكل ما عثروا عليه ولم يجدوا فيه ما يبحثون عنه من دلائل وشواهد مؤيدة لأقاصيص التوراة.
إنه ولع غريب باخراس الهوية العربية لكل ما يرجع الى الآلاف الأربعة ق . م من قبل علماء آثار يعتبرون أنفسهم من الباحثين حتى لو كان هذا حجراً أخرجوه من أعماق الجزيرة العربية، وكأنهم يودون القول أن هذا الشعب العربي الذي ينتشر من الأطلسي وحتى جزيرة دلمون البحرينية ومدينة صور العمانية قد ولد من الهواء فجأة قبل بضع سنوات، ورأفة به أعطوه بضعة قرون. ولمثل هذا الولع تفسيره بالطبع، وهو قطع العربي المعاصر عن هذا العمق التاريخي الذي هو عمقه بالذات وليس عمق البولندي والروماني والهنغاري والأثيوبي والبريطاني والأمريكي، وتحويل العربي الى مجرد طارئ على أطراف الحضارات بينما هو في الحقيقة أحد صنـّاعها وناشريها البارزين.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف، ما زال اسم “أرض التوراة” أو “الأرض المقدسة” بلا تسمية محددة، يطلق على الأرض الفلسطينية في الآداب الغربية، وما زالت أسماء الأشخاص والأماكن التي نثرها على الجغرافية الفلسطينية اللاهوتي”أوسيبيوس البامفيلي” مطران قيسارية في النصف الأول من القرن الرابع الميلادي وصولا ً الى الخرائط التي رسمها لفلسطين توراتيون مهووسون بدءا ً من ثلاثينيات القرن التاسع عشر هي الأسماء المعتمدة.
قد يستغرب الكثيرون، ومن العرب خاصة، لو علموا أن الأسماء “أسماء المدن والقرى والمعالم الجغرافية الفلسطينية” بدأت تتعرض للمحو عملياً منذ ما يقارب 150 عاما ً تقريبا ً وليس قبل هذا التاريخ، وأن هذا المحو الذي يتبعه إلصاق أسماء توراتية على الخرائط تحل محل الأصل موثق لاسبيل إلى انكاره.
ويشرح ” الأسعد ” في دراسة موثـقة كيف “مثـّل” علماء آثار وصحفيون وأصحاب صحف غربيون بلادنا على مسرح الرأي العام الغربي، مع مستهل الاحتلال البريطاني لفلسطين، وأظهروا فلسطين بلدا ً خاليا ً من السكان ينتظر وفود “أصحابه” الصهاينة. ولإثبات ملكية هؤلاء المستعمرين لفلسطين في الحاضر والماضي على حد سواء اخترعوا ولفقوا قصص العثور على مدن “توراتية”، وأطلقوا أسماء توراتية على مدننا وجبالنا وسهولنا وخلعوا فلسطين من تاريخها الحقيقي ولفقوا لها تاريخاً مستمداً من حكايات وأساطير توراتية، بل وامتدت يد بعضهم مثل “د . س . مرغوليوث” الى القرآن الكريم فترجم كلمة ” إرم ” الى ” آرام ” انسجاما ً مع التوراة وآدابها في معرض مقالة له عن أصالة الشعر العربي في العام 1925.
ومن هنا يشير ” الأسعد ” الى إنكار المستشرق الغربي لوجود حضارات عربية سابقة على الاسلام، موضحا اعتمادا على شواهد دالة، أن المستشرقين الذين جاءوا الى البلدان العربية لدراسة الآثار كانوا يأتون ولديهم قناعات مسبقة ورغبات فردية وجماعية بأن هذه المكتشفات لا تنتمي الى الشعب العربي إنما تنتمي الى شعوب اخرى غير عربية، بل إلى شعب محدد هو “شعب التوراة”. والأكثر مدعاة للتفكهة أن يخترع أحدهم المدعو “موسس شابيرا”، تاجر العاديات الأثرية، وجود حضارة اسمها حضارة “مؤاب” فيلفق نصوصاً وتماثيل وفخاريات، ثم يعترف غربيون بهذا التلفيق وينشرون الاعتراف في دورياتهم، ولكن مؤاب الملفقة تواصل حضورها في الأوساط الأكاديمية والعامة.
تشير الألواح المصرية والأكدية (بابلية وآشورية) الى علاقات تجعل من الجزيرة العربية مركزاً للأحداث التي شهدتها هذه المنطقة من العالم منذ أقدم الأزمنة. والإشارات المتأخرة (يونانية ورومانية) الى مصر والجزيرة العربية التي وردت لدى المؤرخ اليوناني هيرودوتس الملقب بأبي التاريخ ولدى ثيوفراست تلميذ أرسطو وديودور اليوناني، ثم سترابون الجغرافي وكثيرون، لاتتجاوز في الحقيقة ما لخصه صاعد الأندلسي في كتابه “طبقات الأمم” عن كون الجزيرة العربية كانت ملتقى طرق الحضارات من كل الاتجاهات، أي كانت عقدة مواصلات العالم القديم بالتعبير المعاصر.
من أمثلة ذلك أن”سرجون الأكدي” يروي أنه وصل الى البحر السفلي وهو الخليج العربي وسيطر على “دلمون” وعلى سواحل الجزيرة العربية الشرقية التي كشفت عن آثارها آخر التنقيبات الأثرية الدانمركية. وبعد خسارة آخر ملوك بابل ” نبو نعيد” لطرق التجارة الشمالية والشرقية حاول تأمين طريق العطور، أو التوابل كما يطلق عليه أحياناً، الممتد من اليمن الى مصر وفلسطين مروراً بالحجاز. وهناك ألواح ترد فيها أسماء القبائل والأماكن على طريق العطورهذا، منها ألواح ” شلمنصر الثالث ” ( 824 ـ 858 ) وألواح سرجون الثاني الآشوري. والعودة الى النقوش العربية في شمالي الجزيرة ونقوش جنوبي الجزيرة والمصادر الرومانية والسريانية والبيزنطية تظهر أن نقوش الألواح حملت الكثير من الحقائق التاريخية وانها لم تكن خيالا ً محضا.
اللغة ليست مرآة تعكس الوجود بقدر ما هي تمثيل يخضع للرغبات والأهواء، وهذا هو سـّر الكتابات التي نجدها في المصادر الغربية المبالغة في عدائها للكنعانيين العرب، باستثناء شهادات نادرة تشهد لهم بالتمكن في السلم والحرب والإبداع في الفنون كتابة وأدبا، والإمتياز في الملاحة والحروب البحرية وفي إدارة أعمال الأمبراطورية. وظهرت مرحلة ازدهار أمسك فيها الكنعانيون بشريان التجارة الدولية في زمنهم عبر المتوسط وما بعده، وليخوضوا بعد ذلك صراع المئة وثمانية عشر عاما ً ضد روما.
وقد بذل العلماء الغربيون جهوداً خارقة لفك طلاسم خطوط اللغات الشرقية القديمة على الألواح الطينية بأشكالها العجيبة الشبيهة بضربات المسامير أو الشبيهة برسوم الأطفال المصورة والتي تتحول فيها هذه الخطوط الى كلمات مقروءة ومفهومة تحمل هذا القدر الكبير من القصص والشعر والأخبار والملاحم. ولكن بسبب عدم وجود أصوات مكافئة لهذه الأبجديات في اللغات الغربية، تعرضت النصوص المترجمة إلى تحريف غير مقصود أحياناً ومقصود في أحيان أخرى. واتسعت الهوة بين الأصل وما نقرأه في العربية مترجما عن اللغات الغربية. حول هذه النقطة يقول “الأسعد” أن هناك أربع مراحل انتقلت فيها الكلمة العربية مبتعدة عن الأصل. تبدأ الأولى بالتغير الذي يلم بأصوات العربية حين تكتب بأبجدية لا تفي بكل أصواتها وبخاصة الحلقية (الأبجدية المسمارية) ثم تأتي المرحلة الثانية حين تترجم هذه الكتابة الى لغة أخرى تفتقر الى مكافئ للأصوات العربية (الأبجدية اللاتينية)، وترافق هذه المرحلة مرحلة ثالثة وهي مرحلة تصويت الحروف الساكنة وفق قواعد التصويت العبري لا العربي. وأخيراً تأتي المرحلة الرابعة حين ينقل النص الذي ينتمي إلى أسرة اللغات العربية من اللاتينية الى العربية المعاصرة من دون وعي بما دخل عليه من تحريف في المراحل السابقة، لأن معظم المترجمين العرب لا يعرفون اللغات القديمة ولم يحدث ان وقع نظره على لوح طيني.
الإستشراق، كما يصفه “الأسعد”، بنية أقيمت على عنصري القوة والهيمنة المعرفية، وبسلطة هذين العنصرين فرض الغرب نوعاً من التحليل والتركيب على جسد الشرق وأنشأه انشاء، فما عاد شرقا ً بالمعنى الذي يقصده الانسان حين يشير الى موضوع خارجي بالنسبة له بل أصبح شرقا ً بالمعنى الداخلي البحت، أي شرق الغرب تحديداً، صنعه من أجله وليس شرق أبناء الشرق ومن أجلهم، وهو مايعني أن ثمة حربا ً أخرى لا تقل ضراوة عن حرب القوة العسكرية تمارس هنا، حرب مرتبطة باستراتيجيات الهيمنة الثقافية، وهي استراتيجيات يهيمن عليها منطق القوة حتى هذه اللحظة وليست خاصة بمنطقة واحدة بل تمتد حيثما امتد التوسع الإستعماري.
لقد توجه الغرب الينا مسلحاً بأسطورتين: أسطورة حق القوي في الهيمنة وفرض روايته، وأسطورة توراتية اعتبرت “تاريخا”ً ملائماً لفهم مجريات الماضي، ومحو تراث وهوية فلسطين واختلاق وتزييف هوية بديلة عنها لإسرائيل مستمدة من مرويات توراتية أسطورية يعيد نسجها علماء الآثار التوراتيون. بهذين الأسطورتين تم محو الواقع الفلسطيني في الماضي والحاضر، وإحلال واقع افتراضي مستمد من النص التوراتي.
ان ثـقل الصمت الفادح، فيما يخص فلسطين، يسيطر على كل الدراسات المتعلقة بالتوراة، وأي اعتراف بالسياق الذي يعمل فيه المؤرخون وعلماء الآثار التوراتيون، أي سياق الصراع المعاصر على الأرض وتقرير المصير غائب، واذا حضر فأنما يحضر على شكل تحسـّر على هذه الأرض المضطربة والأمل في سلام شعوبها.
في مكان آخر، يؤكد ” الأسعد” أن موقف المثقف العربي المقاوم في هذا الصراع سيكون فاجعاً، فالأدوات الكبيرة والمؤثرة بيد العدو وببغاواته، تمويلا ً وأجهزة وتخطيطا ً لاغتيال فكرة أو شخص أو تدمير مؤسسة، ولا يمتلك المثقف العربي سنداً وسط الجهل العام بأن ثمة صراعا ً دائراً، ووسط انشغال كل مؤسساته ” الفكرية ” بمؤتمرات التغميس خارج الصحن .. وتخضع في انشطتها حتى من دون أن تشعر لبوصلة التوجيه الفكري المضلل الذي هو جزء من أسلحة العدو نفسها فتتداول قضايا تافهة لا معنى لها في الصراع الحقيقي الدائر حول الأرض والثروة والممرات، قضايا مثل ” حوار الحضارات ” أو ” التوفيق بين الأديان “