الفوريان

خاص- ثقافات

*سيومي خليل 

كَانت تحلق بعضُ الفَرَاشات الملونة من نوع ريتشموند و مُونارش فوق الفوريان ، أحيانَا تصل إلى الشارع الذي يفضل بين الفُوريان وبين البنايات السكنية ، ويُمكن لبعضها أن تدخل بيتا أو بيتين ، تَتجول هناك ثم تعود إلى الفوريان .
بدا أن الأمر غريب ، فالفوريان يمكن أن تخرج منه الجرذان ، والصّراصير ، والقطط السمينة ، ولا يمكن في أي حال أن تخرج منه الفَراشات ، فلا نباتات فيه ، ولا ورْد يمكن أن تَتشممهُ هناك .
يقع الفوريان في أرض خَلاء يفصلها شارع طويل عن آخر البنايات السكنية في المدينة ، وككل فوريان لَه سُور متهدم من جَوانب كثيرة ، وبابه يشبه تلك البوابات الأثرية التي لم تجد من يصُونها . كان هذَا الفوريان تَحديدا هو الوحيد الذي لمْ يزعج الساكنة كَأنه كان غير موجود ، أو كأنه حديقة غناء يمكن أن يشاهد الناس خُضرتها من بعيد. لاً أحد اشتكى يوما من نباح الكلاب الذي يَنبعث دائما من الفوريانات ، فهي لمْ تكن في هذا الفوريان تحديدا ، بل يمكن أن تُشاهد كلبا يمر جنْب السور دون أن يَدلف إلى داخل الفوريان ، وهذا أمر مريب للغاية . القطط هي الآخرى لمْ تكن هناك ، وهذا دَاع لاستنتاج أن الجرذان التي تأكلها القطط لم تكن هي الآخرى موجودة .
لم يختلف الفوريان في شكله عن أي فوريان آخر ؛ الكثير من الآلات المعطلة ، ركام من الحديد المتفاوت الأشكال ، قطع سيارات مكسرة عن آخرها ، أدَوات بناء قديمة ، ماسورات تخلى أصحابها عنها، قطع ألمنيوم هشة …ما يمكن أن تتخيله عن الفوريان كان موجُودا هناك . إذا كنت غَريبا عن المنطقة فلن تشعر أن هناك ما يميز هذا الفوريان ؛ فوضى من الخردة لا غير . لكن هذا الفوريان لم يكن من يعرفه يَشعر أنّهُ فوريان عادي ، بل إن من يعرفونه نادرا ما كانوا يُسمونه كذلك ، ونادرا ما أشار إليه أَحدهم في كلامه كأنَّه كان بيتا سكنيا آخر من العيب الحديث عن حرمته .
قبل غروب كل يوم يمكنك أن تشاهد الفراشات الملونة من نوع ريتشموند ، ونوع مونارش ، تحلق فوقه . القليلون هم من انتبه لنوع الفراشات ، لكن الجميع كان يرى الفراشات ، وللغرابة أن لا أحد أبدى استغرابه لهذا الأمر ، أو تَساءل مجرد تساؤل عن السبب الذي دفع الفراشات الملونة لتغيير مكان إقامتها . الفراشات عموما تقيم فوق الورود ، ولم تكن هناك وردة وحيدة وضَالة في الفوريان . يمكن أيضَا أن نربي الفراشات في أماكن خاصة بذلك كَي نستفيد من رقاقات القز الحريرية الجميلة ، لكن من يمكنه أن يُربي الفراشات داخل الفوريان ؟ فلا يبدو أن حَارسه يعرف أصلا ًأن القَراشات يمكن تربيتها كما تربى الماشية . الحارس كان يحرس مكانا لاَ يتحدث الناس عنه كثيرا ، ولا يبدو أن شيئا ما سُرق منه يوما ، بل حتَى أُولائك المتسكعين كَانوا يفضلون أماكن آخرى ليقضُوا فيها لياليهم ، أو ليحولُوهَا إلى قصورهم الخاصة . حارس الفوريان مجرد حارس لمكان تُحلف فوقه الفراشات . فكرت أن أسأل الحارس عن سر الفراشات ذلك ، لكني لم ألاحظ يوما أنه ينظر إليها ، أَو يَهمه أمرها .
اكْتَشفت تحليق الفراشات فوق الفوريان في الغروب الأول الذي قضيته في إحدَى البيوت السكنية التي يفصلها شارع عنه. كان الفصل صيفا ، أخذت حقيبة الكاشمير السوداء ، وضعت فيها كل ما احتاجه للسفر ، ثمَّ رأيت في خريطة صغيرة تضم أسماء كل المناطق المغربية ، وَوضَعت دَائرة بلون أزرق على اسم مصادفة ، وقلت :
سأزور هذا الاسم ..
لم أقل سَأزور هذه المدينة ، بل قلت سأزور هذا الاسم ، كأني سَأسافر داخل الخريطة ، وليس داخل الجغرافيا .
حين وَصلتُ الاسم تجولت فيه قَليلا ، وقبل الغروب بحثت عن مكان أكتريه للمبيت ، فقد كَانت البيوت تُكرى في هذا الاسم أثنَاء فصل الصيف . بسهولة ، وبسرعة ، وجدت بيتا جميلاً كَان يفصله شارع طويل عن الفوريان . أول ما رأيت الفوريان قلت مثل أي أحد يعرف هذا المكَان الخرب :
الفوريان مكان لا يليق بالمدن الساحلية .
وقفت أُراقب الفوريان من وراء النافذة المصبوغة بالأزرَق ، ولدَهشتي كانت الفراشات تحلق فوقه وقتَ الغروب . لا .. لا .. يمكن . كَان أول شيء فَكرت فيه وأنَا أرَى الفراشات في ذلك المكَان هو أن عيني متعبَتين من السفَر . حككت عينني وأَرحتهما قليلا ، وحين فتحتهما كَانت الفراشات أكثر وضوحا . فَكرت أنَّه الخيال ، لكن الخيال لا يمكنه أن يجعل الأشياء واضحة أكثر مما كنا نَعرفها في الواقع .
كانت الفراشات واضحة ، بل حين خرجت من الفوريان فِي مجموعات تتكون من فراشَتين في الغالب ، وثلاث فَراشات احيانا ، وأحيانا أربع ، كَانت تعلن وجودها أمام شَكي تحديدا كأنَّها كانت تقول لي بصوت مسموع :
إننا فراشات حَقيقية ولسنا مجرد خيال …
عرفت أنواع الَفراشات من ألوانها مباشرة كأني خبير بها ، في حين أني لمْ أَكن يوما مهتما بالفراشات ، وما كنت أعرفه عنها هو أنها تموت بسرعة ، وتنمو بسرعة ، وما ينمو ويموت بسرعة يكون في غاية البهاء . قررت ألا أُغَادر هذا الاسم الذي زرته ، وإنْ كانت عادتي حينَ أزور الأسْماء دَائما على الخريطة المغربية ألا أتعدى يوما أو يومين فقط . في هذا الاسم الذي وضعت عليه دَائرة بقلم أزرق على الخريطة قضيتُ أسبوعَا كاملا . في اليوم الثانِي جلست أنْتظر تحليق الفراشات على الفوريان . كانت الساعة العَاشرة التي استيقَظتُ فيها ، ولمْ يكن هُناك أي أثر للفراشات ، كان هناك فقط الفوريان بمظهره القبيح لا غير . قُلت :
لقد تخيلت بالأَمْس فراشات لا غير .
ازداد يقيني أني تَخيلت الفراشات كلمَا نَظرت جهة الفوريان ، وحتى حدود الساعة السَادسة مساء كنت مرتاحا ليقيني هَذا ، لكن ما إن بدأَ الظلام يهل حتى بدأتْ بعض الفَراشات تحلق فوق الفوريان ، ويزداد عددها عند الغروب ، لتظل هُناك حتى آذَان صَلاة العشاء ، وأحيانا يمكن أن يظل بعضها إلى وقت أبعد من ذلك . في اليوم الثالث لي في هذا الاسم خَرجت وتجولت في شوارعه ، وأحيائه ، وأزقته ، فقد استنتجت أن الفَراشات لا تظهر إلا حين يَحل الظلام . كانت بنايات الاسم ، ومَقاهييه ، وشوارعه النظيفة ، ومحلاَته معبرة بطريقة يدركها السياح الفرادي ، أو السياح الكوبل الذين لا يحبون الاختلاط مع عدد كبير من السياح . المكان الوحيد الذي لم يكن معبرا في هذا الاسم ، ولم يكن جميلا ، ولا يمكن لسائح أنْ يفكر في زيارته ، كان هو الفوريان نفسه ، لقد كان هو البنَاية العشوائية الوحيدة بهذا الاسم الصغير والذي لا يَتجَاوز سكانه بضع آلاف . إسْتغربت لهذه المفارقة العَجيبة ، فالمكان غير المثير بهذا الاسم ، والعشوائي ، والخرب ، هو المكان الذي تخرج منه الفراشات أثنَاء الغُروب . عنَّت لي فكرة غير متوقعة ، قلت لنفسي :
لما لاَ أبحث عن مكان آخر به فراشات غير الفوريان .
تجولت في حدائق الاسم ، ومَناطقه الخضراء القليلَة ، وَوقفت قليلا قرب بعض الفيلات التي تحفها حدائق غناء ، دخلت المحل الوحيد الذي يبِيعُ الورود في هَذا الاسم ، لكني لم أر فَراشة واحدة كأنَّ الفراش جميعا فر من هذا الاسم إلى مكان آخر .
كانَ وقت الغريب قريب. أسْرعت الخطو جهة الفوريان . حينَ إقتربت كَانت مجموعة من الفراشات تحلق على طول الفوريان ، وأحيانَا تَخرج من بعض جوانب السور المتهدمة . لاحظت أنَّ الفَراشات لم تكن تخرج أبدا من الباب ، فرغم أنه مفتوح في أغلب الأوقات ، ورغمً أنَّه أقرب مكان يمكن للفراشات أن تمر عبره ، إلا أنها كانت تفضل جوانب السور المتهدمة لتَخرج منها . تَكرر الامر في اليوم الموالي ، وبات أمر الفَراش فوق الفوريان شيئا يميز زيارتي لهذا الاسم ، ولا أظن أن الزيارة ستكتمل إن لم أعرف لما تَتحلق الفَراشات في هذا المكان تحديدا . كان أمامي حل واحد ، وهو أن أسأل العجوز الذي بدا منشغلا بي إلى درَجة تثير الريبة ، فكلما خرجت من البيت أو عُدت إليه أَجده قرب الباب جالسا يَنتَظر أحدا ما ، يُسلم علي ويبتسم . قلت له :
أتأتي هَذه الفَراشات منذ مدة إلى الفوريان؟ .
قال :
نعم … تقريبا منذ بَدأ مسيري المجلس البلدي يضغطون على الدرك الملكي كَي يُحاربوا كراء البُيوت للعشاق .
قلت :
فهمت …
ابتسم ، وأضاف :
لكن لا تظن أن كُل هذه الفراشات هناك جَاءت إلى الفوريان لهذا السبب ، وخوفا من أنْ يتم ضبطها ، والقبض عليها ، فهذَا عموما سبب وضيع لا يشرف الفراشَات ، بل هناك أسبَاب عميقة أحيانا دفعت الفراشات للمجيء هنَا ، فهناك بعض الفراشات تجمعها قصة حب طَويلة ، وجَميلة ، ونظرا لظروفها المادية الصعبة ، ولعدم قدرتها على الزواج ، وفتح بيت ، فإنها وجدت في الففوريان بيتها الذي لمْ يرفضها ، والذي تسرق فيه متعتها .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *