رائحة ُالوُجُوه

خاص- ثقافات

*سيومي خليل 

تَحركت الريحّ بشكل أفقي كَأنها صف منَ التَلاميذ الصغَار المُّنْضبطين ، وتَوقفت تمَاما مثلما يَتَوقفون ، وانْتظرت أمرا بالتَّحرك مثلمَا يَنتظر التلاميذ أمر الأستَاذ . الريح ، هَذه اللحظة ، وفي هذا المكَان الذي يُشبه شَكلاً هَندسيا يَتكون منْ أشكَال هنْدسية كَثيرة، وصغيرَة ، مُتوقفة تَماما.
هَل سَبَق يَا هذَا ورأيت ريحَا مُتوقفة ؟. لَيس علَى الريح أنْ تَتوقف في أَي زمن ، ولا في أي مَكان ، فمهمتهَا دَائما هي الحَركة ، لذا تُنَاديها كل العنَاصر الطبيعية باسم الرّيح . هِي الآن متوقفَة مثل عَمود كهرَباء مطفَأ ، ومَادامت مُتَوقفة فَحتما سَيكُونُ وقُوفها لسَبب مهم ، سَبب جدير بجعل الريح تَتَوقف . تَحركتُ وأنَا أحمل ظلي البَاهت كَأني أحمل طَردا خفيفا جهة الريح . لا أدري إنْ كَانت الريح المتَوقفة قَد تَحولت في لحظة مَا ، أمْ أنهَا تَحولت في لحظات مُتَتالية ، إلى هَذا الكائن الشَّفاف . ما إنْ وصلت إلى الريح حتَى وجدتُ نَفسي أمام فتاة تغطي شعرَها بوشاح مغبر ، وتَبدو خَصلات عديدة من تحته محتَشمة ،وناعمةً ، وسَوداء ، عينَاها السوداوان كانَا شبيهين بنَجمتين في سماء بيضاء بالكامل ، وبدا أنَّ كلَّ جسدهَا عبَارة عنْ مَنحوتَة مُتقنة ؛ لاَ خطأ فيه ، ولاَ انحنَاء في امتداده المثير .
يا هَذا أتعرف الإحسَاس الذي شَعرتُ به ؟ .حينَ تَكون أمَام كَائن شفَاف ، يَبدو أن لا خطَأ وقَع في تَشكيله ، سيكُون حتمَا إحساسك مرعبَا ، وشبيهَا بهوة سحقية لا تَعرف غيرَ الفَراغ . نظرتُ في الفتاة ، وشعرتُ أني سَألتها دون أن أفتح فمي ، كأني أتواصَل معهَا بطريقة غير الكلام .
أتعرف ماذا سَألتها يا هَذا ؟. لا أذكر مَاذا كان سؤالي لهَا ، لكنْ تَخيل مَعي أنكَ تَقف قرب فتاة في منتهى الجمَال ، يَعكس بياضهَا كل الروعة التي سَبق وشَاهدتها في حَياتك ، مَاذا ستقول حينهَا ، وأي سُؤال سَتسأله لها . لا أظن أني سَألتها عن اسمها ، فالأسماء لاَ تدل على شَيء ، ولا أظن أني سَألتهَا عمَّا تَفعله في هذا المكان الذي يُشبه شكلاَ هندسيا يتكون من أشكال هَندسية كثيرَة . على الأرجح سَأكون سَألتها السؤال التالي : هل شَعرت مثلي أنَّ الريح توقفت ؟ لكني لاَ أَذكر أني سَمعت جوابا منها ، بل شَعرت بأنَّها اختَرقتني ومضت كان لا سَيد سَألها ، ولا جنتلمان مثلي أبهرتُه عينَاها . بعد اختراقهَا لي التفتت فكانت الرِّيح هي التي تُحيط بي من كل الجوانب ، تَتَحرك في هذا المكان بشَكل متَضَايق ساعية إلى طَردي منه . المكَان فُسحة تَتكون من أشكال هَندسية كثيرة ، كلها أعشاب خضراء لا تعلُوها أي صُفرة ، وتحيط بِه رَبوة تُخفي مَا وراءه من جهَة اليمين ، وبجَانبه الأيَسر بناء أثري يصلُح ليكون معبَرا إلى زمن غابر .
قُلت .. يَا هذا الأمر مُجرد تَخيل ، فمكَان كهذَا يُمكنك ، لهدوئه وجمَاله ، أن تَتخيل أنَّ الريح توقفت للحظة ، وتَحولت إلى فتاة جميلة ، ومُثيرة . بدأتُ أُفكر في منْ تَكون هذه الفتاة التي تحولت لَها الريح ، فَمنطَقة لاوعي شََخص مثلي لنْ تَتَخيل إلاَّ فتَاة سبق وعرفنهَا ، أو تَمنيت أنْ أتَمدد قُربها على عشب أخضر بالكامل ، ولا تَعلوه أَي صُفرة بفعل الشَّمس ، نُراقب معا السماء . تَحركت قليلا وشَعرت أني لا أَبدلُ مَجهودا في المشي كأني لاَ أتحرك ، أو كَأن الأَرض تَحتي هي من كَانت تتحرك لا أنَا ، فمكَان كهذا يُمكن لأَركانه أن تَجعل الخيال يَظن أنهَا تَتحرك ، وتَقفز ، بل وتطير. جلستُ على صخرَة ملسَاء كانَت دافئة كأنهَا أريكة لشَخص واحد صُنعت من جلد الوعول الجبلية ، وأرخيت عَيني تَسرحان في هذا الفضَاء كمَا تسرح الشَّاه في الحقول . توقفتْ الريح مرة آخرى ، وتَحولَت إلى نفس الفتاة ، هَذه المّرة كانت الفتاة وَاضحة تمَاما ، وظهر جمَالُها مبهرَا ، كانت عبَارة عنْ صُورة أنيقة لما يُمكن لخيال ما أنْ يَتمنَى رؤيته، كأنَ الخَيال قَام بتجميع أحسَن الأعضَاء من الكثير منَ النسَاء ورَكبهَا ، ليَحصُل في الأخير على هَذه المنحُوتة . صَار خيالي في مكَان كهذَا نحاتَا ماهرَا ، ومحتَرِفا . لا أََعرف كيف تعلم خَيالي أن يَكُون نحاتَا ، لكنهُ استطَاع بطَريقة مَا أنْ يُجمع أجمل ما رَأيت في النسَاء اللائي عَرفتُهن ؛ أنْف ابنة الجيران، وعينَا صَديقتي التي شاركتني الفَصل في المرحلة الابتدائية ، وشَعر صَاحبة محل الخياطة التي تَتَعامل مع أخي الصغير ، ويدَا الطالبة التي كانَت تحضُر نقاشَاتنا الساسية الحمَاسية ، ومُؤخرة ابنة صديقة والدتي التي كَانَت تَعتبرها كأمها الثَّانية ، ونهدَا ابنة بَائِع الأثْواب البَالية التي انتَحرت في سن مبكرة ، وخاصرتَا صديقة ابنَة أختي التي وُلعَت بممارسة كرة القدم …كَانت المنْحوتة عبارة عنْ تَجميع لأَجمل ما رَأيت في النساء اللائي عرَفتهن . حَاولت أن أوقف هذَا الخيال ، أو علَى الأقل أنْ أَجعله ينحتُ صُورا آخرى بعيدة عن جسَد الأنثى ، لكني خَمنت أن خَيالات الرجال تصيرُ نَحَاتَة مَاهرةً كلمَا كَان مَوضُوع النحت هو جسَد المرأة . أَدَرت وَحهي للجهة المقَابلة كَي أَطرد هذا الخاطر .مَا إنْ التَفتت حتى كانَتْ الفتَاة قريبة مني مَرة آخرَى . خُطوة بعد آخرى كَان وجهُ الفتاة يزدادُ وضوحاَ، كُنت أرَى على وجههَا الأبيض المستدير ،وهي تقتَرب مني ، صورَ نسَاء كَثيرات ، إمَّا ارتَبطت بهن وجدَانيا ، أو َرمزيا، أو معرفيا . رَأيت والدتي أولاًَ وأ خيرَا في وجه الفتاة ، رأيتُ هيباتيا التي لا أعرف وجهَها ، لكن حين ظَهر لِي وجهٌ بعدَ وجه والدتي شعرتُ أنَّه لهَيباتيا ، ثم نَفْس الأمْر تَكرر مع وَجه كيلوباترا ، ونفرتيتي ، والخنساء ، وَوجه الفتَاة التي شاهدتُ فيدو عنْ تَعذيبها حتى الموت في باكستَان ، ووجه الفتاة التي سَخَر العَالم من صورتها البشعة دُون أنْ يعرفَ أَحد أنها تَحمل مَرضاَ نادرا يَجعل جسدها بذَلك الشكل ، ثم شَاهدت وجه الفتَاة النَّحيلة والشقَراء التي اكترت شُقة قُرب بيتنا مع عائلتهَا ، والتي أُغرمتُ بهَا ، وحَاولتُ مرَارا أن أُكلمهَا، لكني تَأخرتُ كعَادتي معَ كل المَواعيد وكلمها أحد أبنَاء الحي ، شَاهدتُ أيضَا صُورة المرنيسي، ووجوهُ زَوجات إخوتي ، وَوجه أختي وبناتهَا، ووجه مجموعة من المّومسات الطيبات ،ووجَه مريم المَجدلية كمَا رَسمها دافنشي ، ووجوه الكَثير من صُور النساء في المنمْنَمَات العربية … شَاَهدت وجوهَا كَثيره ، لكن ما كَان مُثيرا هو أنَّ تلك الوجوه قبل أن تختَفي تتحول إلى صورة وَالدتي ؛ آخر صورة لهَا تحديدا .
قلت لنَفسي في ذلك المكان الذي يَجعل الخيال نحاتَا ماهرَا :
لا أعرف إنْ كَانت رُؤية وجه وَالدتي في كل وجوه النّْسَاء أمر جميل أمْ قَبيح .

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *