مُخاتلَة المَلل

خاص- ثقافات

*سيومي خليل

غريبٌ أنتَ يا سَيد مَلل ، والأغْرب اسمك الذي لا تَدل حُروفه الثلَاثة علَى مفْعوله المحير ، وألمه غَير المفهوم . تشبه أيهَا الملل أَحد مّعذبي كوميديا دانتي أليغيري ، تَحديدا تُشبه أولائك الذين قُضي عَليهم أنْ يَمشوا وَرؤوسهم للخلف . تَخيل أنْ تَرى مَجموعة من النّاس تتجول في المَدينة ، وتَشتري بعد الأحذية من متجر *باطا*، وتَتشم رَوائح عطر *فا* الرخيصة، وتَتناول سندويتشات السردين الشهية ، ورُؤوسها للخَلف ؛ الأنف ، والوَجه ، والعينان تَأتي جميعها جهَة الظَّهر .

هَكذا أنْت يا سَيد ملل ، شخص بمُواصفات مكررة حدَّ اليأس، ورغْم ذلك نَشعر دائما أنَّها مواصفات جديدة . تَقتحم حياة النَّاس بشكل سهل ،حتى أُولائك الذين يَسعون لاستغلال كل دقيقة من حَياتهم يجدونك ملتَصقا بهم ورَأسك للخَلف كالعلق . لا يبدو أبدا أَنّك تَشعر بتَضَايق ولو قليل جدا ، حينَ تَسمع النّاس يشتمونك ، ويتمنون زوالك ،كأنّك لا تسمَع أصلاً ، أو كأن أُذنيك المعْكوستين تَتلقى الكلام بشكل مخْتَلف ، وتَنْقُله عبر شعيرات دَقيقة إلى المُّخ عَكس معناه الحقيقي ، فَتسمع عبارة * شحال مقود هاد الملل * بشكل مضاد * شحال زين هاد الملل * ، وربمَا هَذا ما يدعوك لإطالَة الإقامة بين النَّاس . هكَذا تدخل شُقق الكثير من النَّاس ، تجلس جَنبهم علَى أرائك قديمة كانَتْ عبارة عن * دفوع * ليلة العُرس ، وتبدَأْ مُشاركتهم مشاهدة مُسلسلات تقع أحداثها فِي كوكب آخر غير الكَوكب الاَزرق الذي نعيشُ فيه . الرهيب في الأَمر أيهَا الملل أنك تُوهمهم أنَّهم يَوما ما يمكن أن يكونُوا أشخَاصا شبيهين بأشخاص تلك المسلسلات التي يُشَاهدونها . تَقضم معهم أيها الملل اللحظات الرَّتيبية ، وتَستمع لأحاديثهم التي يَسعون لإظهارها حماسية ، تَسْتَمع لنحنحَاتهم بالليل وهُم على سَرير الجنس ، وتَرى ذلك العوم المرهق من أجْل سَرقة اللذة ؛ يَتمدد أَحدُهم للآخر ويَشرعان معا في مص كل قطرات الرغبة من جَسَديهما .

تَقول أيها الملل في نفسك … إنَّهم يُحَاربونني بالجنس ، وبالولادات ، وبمشَاهدة المسلسلات ، وبالعَمل المضني كالحيوانات … لكن في الأَخير لاَ يَبدو أنّك تنهزم ، فَكلما جلسوا قليلا مَع أنْفسهم حتَى تتبدا لهُم مثل غَيمة سوداء تقع فوق أعينهُم تماما .

أنت يا سَيد ملل مخاتل عظيم ، ومَاهر جدا في خلط الأمزجة ، فلا يَبدو واضحا لأحَد مذاَقك ، ولا لونك ، ولا شَكلك، فَانت عبارة عن تلك الوصفَة السِّحرية التي سعى كَهنة أمون لتَعلمها ، لكنهم تعلموا وصفَة سحرية آخرى ، نَجحت في جعل لعنة أمون تَحل عليهم لاَ غَير .
دَعني أشْرح أمراً ما أيها الملل ، فرغم أنّ البعض يمكنه مشاهدتك وأَنت تمشي برأس للخلف ، فَإن البَعض يُمكنه أن يشاهدك في أشكال آخرى لاَ علاقة لها بمعناك أبدَا . يُمكن لأحد الموظفين البُسطاء أن يراك انتظَارا لترقية قريبة ، يُفكر هذا الموظف في الترقية البطيئة ، ويمْكن لَه أن يحدثها صبَاح مساء ، ويَنسى أنَّها صُورة لك . ويمكن لفتاة تعلم أن مّقوماتها الجسدية لنْ تَجعل الرجال يَتذكرونها أَنْ تَراك تلك الفكرة عن العُرس ،والعَريس، والهَدايا ، والمَدْعُويين … إنَّك مخَاتل لتلك الدرَجة التي لا تجعلنا نَنْتبه لنصبك، وسَرقتك الواضحة . فَأنت تَضع أنَاملك النّحيفة فِي جَيب قلوبنا ، وبخفة ، ودُون أن نَشعر بشيء ما ، تسرق أفْضَل ما يمكنننا أن نمْتلكه في هذه الحياة . لاشَك يا سيد ملل أنك تَعرف أفضل ما نمتلكه في حَياتنا ، إنَّه هُو نَفسه ما تجيد سرقته بإتقان ، ومَا تَتفنن أنَاملك في أخذه منّا . العُمر … هَذا ما تسرقُه ، وللغَرابة أنه لا يُفيدك في شَيء . أنت تشبه يا سيد ملل لصاً سَرق دَواء هَاما من مريض كي يرميه في أَول قُمامة أزبال يصادفها . تسْرق قطعة من العمر وتركض ، لِتَعود بَعد مدة وتسْرق قطعَة جديدة منه . تَتحرك بخفة بين الذهاب والإيَاب كَأنك عداء سباقات المائة متر ، أو أحد الفُّهود البَرية وهي تلاحق أرنبا . لاَ أعرف لمَا تركض بهذه السُّرعة ، فلا أحدَ ممن تَسرقهم يركض وراءك ، ولاَ أحد منهم انْتبه إلى أن قطعة من عُمره سُرقَت ، بل حتى القلة منهم التي انْتَبهت للسرقة تكتفي فقط بتشييعك بأعيُنها كأنَّك سَرقت آحدا آخر غيرهَا . تَسرق تلك القطع من أعْمَار النَّاس دُون أن يَعرف أحد ما تفعل بها ،فَانت لاَ تَبيعها ، ولاَ تُعيد استعمالها ، ولا تُقدمها كصدقات كما فعل اللص النبيل *روبن هود * . تَسرقها لا غير ، وتَبتعد قليلا لترى من منظارك الدقيق ما الذي يمكن لكل أُولاَئك المسروقين أن يَفعلوه . ترى من منظارك أنْ لَا شَيء يقع ، فالكل مازال نهما للفراغ الذي يحُاولون مَلأَه بكل ما يمكن أنْ تَتخيله ، لكنه يَظل فَرَاغا رغم كل هذا . ترى من مِنْظَارك محاولات البعض لمحاصرتك .

تقول أيها المَلل … إنَّهم يُحاربونني هؤلاء الأبْطال . يحاول هَؤلاء الأبطَال أنْ يَضعوا فخاخا ، وشراكا مُختلفة أَمَام طريقك ، يبنون حُفَرا ويَضعون فَوقها غطاء هشَّا ليسهُل سقُوطك فيهَا ، يَنْصبون لك متاهات لتَضيع فيها ،ولاَ تَصل إلى سُكنَاهم الجَّوانية كَي لا تَنْهشهم . البعض من هؤلاء الأبْطَال ينجحون لحظة ً ما في مُحاصرتك . تشعر أنَّهم قاوموك بالفعل ، وأنَّ إرادتهم وحريتهم تغلبت عَليك ، لكن في الدقائق الفَاصلة بين اللحظات ، وحينَ يَستريحون من العمل المتعب فِي مُحَاصرتك ،تٌففز بمَهارة داَخلهم ، بالتَّحديد تُكون ضمن مَجال تفكيرهم ورؤيتهم . وحتى إنْ بَديت لهم مُّدة وَجيزة فقط فإن وقعك على وُجودهم السائل يُشبه وقع كرة حديدة صَغيرة قذفت بقوة جهَة مرآة هشة . يَشْعرون بك هَائلا ، لكن لأنهم أبْطَال يشْبهون محاربي أسبارطة الأشَاوس ، فإنّهمْ يَعودون لحصارك من جديد .

يعملون ، يضْحكون ، يَبكون ، يقولون الحكايا المفْرحة لأطفَالهم ، يَسعون لعيش الحب كل لحظة ، يقتنون ما لاَ يحتَاجونه ، يمارسون هوايات غريبة ، وأحيانَا شَاذة ، ومرات كثيرة غير مفهومة أبَدَا … هكَذا يحاصرونك ، لكن لأنَّك مُحتال عظيم َتعرف أنَّ فَوزك يصنعه التِّكرار ، ويَنْسون هم هَذا الأمر . يَعرفونه أول الأمر ، ويقولون لِبَعض بلكنة العارفين …جرب أشياء جَديدة ولا تكرر أفعالك . يجَربون أشياء جَديدة بالفعل ، لكنها تتكرر لحظة ما لِسُوء الحظ . يُمْكنهم أنْ يُجربوا أشياء جديدة آخرى ، لكنَّها مَا تلبث أن تصير أيضا مكررة . هكذا لا يَجدُون مَا يفعلونه من أشياء جديدة . يُمكن لأَحدهم حين يصل إلى هذا الحد أنْ يَقول … لأُجَرب الممنوع ، والشاذ، كي أحَاصر الملل . يجربه ، ولسوء الحظ يتكرر هَذَا المّمنوع ، فيكون عُرضةً للملل والممنوع معا .

في الأخير سَتَجد يا سيد مَلَل أنَّ الجميع يمكنه أنْ يَدعوك لزيارة بيته الصغير ، أو الجلوس معه في المقهى ، أَو الذَّهاب مَعه لقاعة الرياضة . إنَّك تنجح في أن تختم هذه الحرب لصَالحك ، وتَبْدَأ بكتابة بنود عقد الهدنة التي لا يَحْضُرها أَحد باستثنائك.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *