تتلخص قصة هذا الشريط الغريبة بملاحقة قاتل قناص لمجموعة من المكسكيين البائسين عابري الحدود، ومن ثم قتلهم بلا رحمة واحدا تلو الاخر بمساعدة كلب “ألماني” ضخم شرس من نوع “شيبارد”، وبدا القاتل وكلبه الجامح وكأنه يستمتع بالمطاردة والقتل، وقد استند القناص لمهارته القتالية العسكرية، مدفوعا بحس “وطني-عنصري” مزيف…ويحدث بعد أن تتعطل شاحنة المكسيكيين المتهالكة في الصحراء الحدودية، واضطرارهم لاكمال الطريق مشيا عبر الحدود، ثم يحدث أن يرصدهم هذا الوغد الشرير “سام” (الممثل جيفري دين مورغان) وينجح بقنصهم بلا رحمة واحدا تلو الآخر، مستفيدا من كلبه الشرس المطيع في تعقبهم، حيث لا يتبقى في النهاية سوى الميكانيكي الشهم “موسيس” (الممثل جيل جارسيا بيرنال) مع فتاة مصابة تنزف لينجحا معا في عبور الحدود والوصول للطريق العام…ونحن كمشاهدين لا نستدل أبدا على أسباب إجرامه “الغير مبرر” سوى بتفوهه لبعض الجمل الغريبة مثل “مرحبا في بلد الحرية” و “هذا موطني”، وبدا مشوشا ومريضا نفسيا، يستخدم “وطنيته” المزيفة كغطاء لتنفيذ رغباته الإجرامية السادية الدفينة!
النص السينمائي متماسك وتصاعدي ولا يترك لنا فسحة للتأمل، سوى باأقات الليل والحوارات المختصرة الدالة، لنطلع بايجاز على مجمل مشاكل النازحين وأسباب هروبهم اللاشرعي من بلادهم، فالميكانيكي البطل الشهم المسالم سيذهب للالتقاء بزوجته وطفله بعد ان تركهما مجبرا، والفتاة البريئة ستذهب حسب رغبة والديها لتحسين ظروف حياتها (وقد استأجرا لها مرافقا وغدا ولكنه قتل بضراوة من قبل الكلب)، حيث يشكو لنا القاتل سام بأنه مهدد من قبل هؤلاء الأغراب.
الفيلم مرهق وشيق ولاهث ولا يترك للمتفرج فرصة لالتقاط أنفاسه خلال ال96 دقيقة، حيث الشخصيات جميعها في حالة رعب وهروب عبر صحراء قاحلة لا ترحم، مليئة بالأفاعي السامة والتضاريس الوعرة، أما التصوير فهو مذهل واستثنائي، ويشعر المشاهد وكأنه متورط شخصيا بهذه المطاردة المرعبة، وتبدو بعض اللقطات وكأنها صورت بكاميرا محمولة متحركة، كما تبدو بعض المشاهد الأخرى سيريالية وغريبة كمشهد التفاف الأفاعي حول الفتاة، ومشهد قتل الكلب واحتراقه بطلقة “إنذار حمراء”، وكما بمشهد انقلاب “البيك آب” والملاحقة الأخيرة بين القاتل المنهك والميكانيكي المرعوب.
يتضمن هذا الشريط الغريب مجازا سياسيا خفيا ومعبرا، ويتطرق لبؤس ومعاناة النازحين “المكسيكيين” عبر الحدود، كما أن المخرج الشاب “جوناس كوارون” (ابن الفونسو كوارون صاحب تحفة ” جرافيتي”) قد استعرض هنا مهاراته التشويقية الفائقة بأقل تكاليف الإنتاج الممكنة، ونجح بتقديم لقطات “كلاسيكية” إبداعية ذات دلالة مشهدية راقية، مثل مشهد تشتيت الكلب الجامح وصديقه القناص بواسطة “أصداء صوت اللعبة الألكترونية” في صمت الصحراء المريع…كما لعبت الصحراء بدورها المكاني وسحرها الجغرافي وظيفة جوهرية تمثلت بالحرارة اللاهبة والدروب الوعرة والمسالك والتضاريس القاحلة، فكانت مسرحا لهذه المطاردات القاتلة، ووضعت “تعاطفنا الإنساني” على المحك، فبدت ذات دلالة مجازية وذكرتنا بالوضع البائس والمصير المأساوي لآلاف النازحين واللاجئين وعابري الحدود والبحار والهاربين من جحيم الفقر والمجاعات والحروب وويلات الصراعات المسلحة.
لا أدري كيف تمكن المخرج والمصور والطاقم الفني من ترويض الكلب الشرس بهذه الصورة المدهشة، بحيث تشعر وكأنه يمثل دوره بفطنة وذكاء، وقد استغل صاحبه ” المجرم السادي” مهاراته الفائقة بالشم والركض والملاحقة، ليساعده بالقضاء على معظم المتسللين، كما ساعدته بندقية القنص بصيدهم واحدا تلو الاخر…واقترح مستقبلا أن يشارك الفنيون العرب إن استطاعوا بمثل هذه الأفلام حتى يتمكنوا من فهم التقنيات السينمائية والتصويرية التي تسمح بإنجاز مثل هذه الأفلام المتقنة بتفاصيلها الواقعية المدهشة في “المطاردة والأكشن”، حيث تعاني السينما العربية إجمالا من نقص الكفاءات الفنية القادرة على إنجاز مشاهد مقنعة في التضاريس الطبيعية وفي أجواء مناخية صعبة وقاسية، وربما يصلح هذا الشريط مع تحفة “العائد” لأن يدرسا في معاهد السينما العربية، فقد أصبحت السينما فنا شاملا لا يعتمد فقط على التكرار والنمطية والتقمص والثرثرة والحركات العصبية الانفعالية المملة! وأخيرا فربما يمثل هذا الشريط “دعاية معاكسة” مجازية لتوجهات الرئيس الأمريكي الجديد “ترامب” الكاره للنازحين واللاجئين والمتسللين عبر الحدود، والذي يدعو لبناء جدار عازل كبير على الحدود الأمريكية-المكسيكية”.
_______
*ناقد سينمائي